حمامة بيضاء مرقطة ببقع رمادية حطت على حائط أبيض خفيض، وقعت عيناي عليها وأنا أعبر الخط الأخضر في رحلت العودة من عالم الأتراك القبارصة إلى عالم اليونانيين القبارصة، كانت تتلفت يمينا ويسارا، كأنها تبحث عن رزقها غير آبهة بسخونة موقعها وفوهات البنادق المحيطة، وهكذا حال رسل السلام.
في قبرص قصة متوارية خلف سحر شواطئها ودفء أشعتها وطيبة سكانها، مسجلة في دفاتر أيام المنظمة الأممية بعنوان المسألة القبرصية التي لا نشبهها بأفضل من كبسة على وصلة انترنتية تقودنا إلى فضاء يستحضر تاريخا من الأمجاد العثمانية الطرية والأحلام الإغريقية الغابرة ، التي لم تجد أفضل من جزيرة قبرص مكانا لتذكير العالم بأصدائها.
الأرض القريبة منا
فيما يشبه القفزة السريعة بين ضفتين، طارت بنا طائرة الخطوط الجوية القبرصية من مطار بيروت الى مطار لارنكا خلال خمس وعشرين دقيقة فقط، مطار لارنكا هذا لم يكن قبل عام 1974 هو مطار قبرص الرئيسي ولكنه استحدث بعد التدخل العسكري التركي في شمال قبرص، ولم يعد مطار العاصمة نيقوسيا هو البوابة الطبيعية للوصول إلى كل أرجاء الجزيرة التي تبلغ مساحتها 9.250 ألف كيلو متر مربع ويصل تعداد سكانها إلى أقل من مليون نسمة منهم 200 ألف يعيشون في الجزء الشمالي التركي.
هذا القرب المكاني بين جزيرة قبرص والدول العربية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط دفعني إلى التدقيق أكثر في موقع قبرص الجغرافي والتأمل في الحقائق التاريخية المتضاربة بشأن تبعيتها لليونان أو تركيا فوجدتها محاذية لبر الشام ومصر كأنها بنت ممسكة بثوب أمها، الأتراك يرون أن الوجود اليوناني في قبرص مصطنع بفضل العبث الإنجليزي بالتركيبة السكانية، طوال الفترة التي سيطرت فيها بريطانيا على تلك الجزيرة، كما يرون أن أرض قبرص امتداد جيولوجي للأناضول. وفي المقابل يرى اليونانيون أن قبرص أرض يونانية وتنطق بلغتها قبل غزو العثمانيين لها والأتراك شعب هاجر من أواسط آسيا واستوطن لاحقا المنطقة المعروفة اليوم بتركيا. الحقيقة الواضحة من بين هذه التباينات هي أن الإنجليز أربكوا العالم بمسطرتهم أكثر من أي قوة أخرى هيمنت على العالم، ويكفينا نحن في العالم العربي ما زرعه الإنجليز من كيان صهيوني غاصب في فلسطين أشعل الحروب والصراعات منذ خمسين عاما ولايزال.
وقد نشأت عداوة خاصة مازالت مستمرة بين الأتراك واليونانيين على خلفيات عدة على أساس اختلاف الدين واحتلال العثمانيين لليونان وجعلها ولاية تابعة لهم.
لوحات إرشادية وصراع لغوي
وصلنا إلى مطار لارنكا بعد أن خيم علينا الليل بسواده القاتم وطوال الطريق من لارنكا إلى مدينة ليماسول الذي استغرق ساعة كاملة، كنا نسير في شارع بلا إنارة، وبالرغم من ذلك كانت الإضاءة العالية الصادرة من سيارة التاكسي تنير اللوحات الإرشادية المزروعة على طول الطريق لتخبرنا بالمسافة المتبقية على ليماسول.
اللوحات مكتوب عليها بالتساوي باللغتين الإنجليزية واليونانية، وما لاحظته هو تعدد الأسماء للمدينة الواحدة وما أذكره جيدا هو نيقوسيا التي لها اسم ثان هو لفكوشيا وليماسول أو ليماسوس، ويعود ذلك إلى كثرة الغزاة والمستعمرين الذين أضاف كل منهم أسلوبه الخاص في نطق أو ابتكار المدن والقرى القبرصية التي استولى عليها، ومنها من صمد وقاوم ومنها من تحور وأصبح واقعا جديدا.
وتعتبر جزيرة قبرص مأهولة بالسكان منذ الألف السادس قبل الميلاد، ولديها صلات تجارية قوية مع المناطق المحيطة فيها كبلاد الشام ومصر وقامت في قبرص عدة ممالك في الوقت نفسه بالرغم من صغر حجمها مثل مملكة بافوس ومملكة سلاميس وهو ما جعل البلاد محطة تعاقب عليها الآشوريون والمصريون والفرس والرومان والبنادقة العرب والعثمانييون وأخيرا الإنجليز.
نيقوسيا.. وشريان العبور الضيق
فرض الطابع اليوناني الذي صبغ قبرص في المناطق التي زرناها نفسه على مهمتنا الصحفية أنا وزميلي المصور، وكانت خطتنا هي البحث عن الآثار الإسلامية في قبرص والتعرف على تاريخها وشعبها وكشف مواطن الجمال في ذلك البلد المشمس، ولم نكن نتوقع أن الحظ سيبتسم لنا لنستكشف قبرص بشطريها اليوناني والتركي معا، وإن كان الأخير لم نمكث به سوى نصف يوم فقط.
لقد كنا في جولة داخل العاصمة نيقوسيا أو لفكوشيا وهي للعلم العاصمة الوحيدة المقسمة في العالم بعد أحداث عام 1974م بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وفي خضم حركة الناس في شوارع المدينة الضيقة، حيث المقاهي والمطاعم والمحلات الصغيرة التي تبيع الأطعمة والملابس وكل ما يجذب السياح من مشغولات تذكارية خفيفة الحمل.
مرافقنا الحيادي جدا اكتفى بتنبيهنا من عدم الاقتراب كثيرا من الخط الأخضر نهاية أحد الشوارع الرئيسية، الذي يقسم العاصمة إلى نصفين، كنت أتوقع أن أشاهد جنودا وأسلاكا شائكة عند ذلك المكان وحالة من الترقب. ولكن الواقع نطق بعكس ذلك عندما اقتربنا، فالمحلات التجارية ممتدة حتى الخط الأخضر وعلى الجانب التركي يوجد بازار كبير ينتظر من يعبرون إليه من الجانب الآخر ويبدو أن كلا الطرفين أدركا أن التجهم العسكري عند الشريان الضيق الواصل بينهما لن يجلب سوى تعطل النشاط الاقتصادي لكليهما، لذا تم تخفيض الحالة الأمنية بينهما إلى الحد الأدنى.
الفضول دفعني وزميلي إلى الاقتراب أكثر مما حذر منه المرافق إلى أن وصلنا نقطة أمنية أشبه بالكوخ الصغير، ورأينا هناك السياح الإنجليز يعبرون إلى الجانب التركي بجوازات السفر، وقد حاولنا الدخول بهوية الصحافة الدولية والموظف القبرصي اليوناني لم يمانع بخروجنا، ولكنه لم ينبهنا أن الجانب التركي سيرفض دخولنا من دون جواز سفر، وشعرت من كلامه إنه لن يسمح لنا بدخول الجانب اليوناني مرة أخرى ليصبح مصيرنا مثل الفنان دريد لحام في فيلم الحدود، كان المرافق يلوح لنا بيديه طالبا منا الرجوع وعند هذا الحد قررنا إنهاء مغامرتنا، لأن موعد رحيلنا إلى ليماسول دقت ساعته، مرافقنا تخلى أخيرا عن تحفظه وسألنا هل تريدون العبور إلى الجانب التركي؟ لقد أصبح هذا الأمر متيسرا الآن، طبعا كان جوابنا هو الموافقة، وفي المرة الثانية تمكنا من دخول القسم التركي المعروف بجمهورية شمال قبرص التركية وأمضينا وقتا لا ينسى في مدينة كايرينيا المطلة على السواحل الشمالية لقبرص سنروي حكايتها لاحقا.
قبرص قاعدة هجوم
كانت النظرة التاريخية المتوارثة للجزر الطافية في بحيرة بحر الروم أو البحر الأبيض المتوسط نظرة عسكرية بحتة، وحتى وقت قريب كانت بريطانيا العظمي تحرص على احتلال قبرص ومالطا لما لهما من أهمية استراتيجية تخدم وجودها العسكري في المستعمرات القريبة منها وهي إلى اليوم تحتفظ بوجود عسكري في هاتين الدولتين بالرغم من انحسار تأثيرها العسكري دوليا.
وشكلت قبرص بالنسبة للمسلمين منذ أن فتحوا بلاد الشام ومصر - وحتى زمن العثمانيين - شوكة في خاصرتهم حيث تنطلق منها أساطيل الأعداء وهو ما دفعهم إلى احتلالها لتأمين جبهتها، وأول الغارات البحرية شنها الأسطول الروماني على أمل استرداد الشام ومصر مستخدما جزيرة قبرص كقاعدة انطلاق لتلك الغارات، وقد طلب والي الشام آنذاك معاوية بن أبي سفيان من الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الإذن ببناء أسطول بحري لمواجهة سفن الأعداء فأجابه الخليفة بالموافقة وقام بغزو قبرص في عام 632م، ونجح في احتلالها وصالح أهلها على دفع الجزية وألا يسمحوا للروم باستخدام أرضهم مرة أخرى ضد المسلمين .
وبعد ثلاثة قرون أخرى عاد البيزنطيون للسيطرة مرة أخرى على الجزيرة وخلال فترة الحروب الصليبية ابتسمت الأقدار من جديد لملك بيت المقدس غاي دي لوزنيان الذي فقد عرشه على يد القائد صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين الشهيرة عام 1187م، عندما عرض عليه ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد الذي قاد الحملة الصليبية الثالثة شراء قبرص التي استولى عليها، ولم يستطع إحكام السيطرة عليها فاشتراها لوزنيان واستطاع تأسيس ملك جديد في قبرص استمر حتى 1489م.
وفي العصر المملوكي نجح سلطان مصر برسباي في ضم قبرص إلى سلطته بعد تاريخ طويل من الاعتداءات القبرصية على سواحل مصر والشام، ففي 1365 م قام ملك قبرص بطرس الأول بحملة صليبية على مدينة الإسكندرية اقترفوا فيها الكثير من الأعمال التخريبية وتدنيس المساجد واغتصاب النساء وإزهاق أرواح الأبرياء لعدة أيام ثم غادروا المدينة، وكرروا مثل هذه الحملة على مدينة طرابلس، وظلوا على هذه الحال حتى قرر السلطان برسباي إخضاع قبرص لسلطانه وخرج أسطول مهيب من مدينة رشيد قارب المائتي سفينة تمكن من احتلال قبرص بأكملها عام 1426 وأسر ملكها جانيس الذي أحضر مكبلا إلى القلعة ليفتدي نفسه ويعود ذليلا إلى قبرص كنائب للسلطان المملوكي مقابل دفع جزية سنوية وخضوع قبرص لدولة المماليك.
وبقيت هذه الأوضاع حتى مجيء العثمانيين في عهد السلطان سليم الثاني عام 1571م للتخلص من المواقع التي استخدمها البنادقة لأعمال القرصنة في البحر الأبيض المتوسط ضدهم، وسمح الأتراك لأهل قبرص الأرثوذكس بممارسة شعائرهم الدينية بعد مضايقة البنادقة الكاثوليك لهم، وفي عام 1878م تولت بريطانيا حق إدارة قبرص مع بقائها تابعة للخلافة العثمانية في مقابل دفع مبلغ مالي لهم وتقديم المساعدة لهم ضد أي هجوم روسي عليها وقد نقضت بريطانيا هذه المعاهدة بعد أن أعلنت تركيا وقوفها مع ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى 1914م.
ليماسول السمك والبطاطا
في مدينة ليماسول الصاخبة بحركة السياح الإنجليز، الذين فرضوا بكثرة إقبالهم عليها طابعا مميزا يتلخص في توفير ما قد يفتقدونه في مدينتهم، وخاصة وجبتهم الأثيرة (السمك مع البطاطا) فضلاً عن الحانات التي لا تختلف في تصاميمها وأسمائها عما هو موجود في لندن ومانشستر وبورتموث. وتعد ليماسول الواقعة على الساحل الجنوبي لقبرص المدينة الثانية من حيث الحجم بعد العاصمة نيقوسيا وفيها يقع ميناء قبرص التجاري.
لم نجد في ليماسول ولا في أي مدن قبرص الرئيسية ناطحات سحاب أو مباني مرتفعة، وأغلب ما شاهدناه من مبان عمارات متقاربة في الارتفاع، وقادنا تجوالنا الطويل في المدينة القديمة إلى الحي التركي الذي لم نجد فيه سوى مسجد لا يفتح إلا لصلاة يوم الجمعة ثم يغلق طوال الأسبوع ويبدو أن عمليات النزوح المتبادل بين الأتراك واليونانيين هي ما أفرغ هذا الحي من سكانه تماما كما حصل في مدينة كايرينيا الواقعة جمهورية شمال قبرص التركية.
وعلى مسافة قريبة نسبيا من المسجد التركي وجدنا جامع ليماسول الكبير مفتوحا قبل صلاة الظهر، وهناك أتيحت لنا فرصة التعرف على أبو صالح مجدلي من فلسطين، وهو من مهجري الانتفاضة الذي بين لنا أن الجامع مفتوح للصلوات الخمس يوميا ويشهد حضورا كبيرا في صلاة الجمعة.
وامتدح أبو صالح الحكومة القبرصية التي لا تتدخل في شئون الجامع بأي شكل من الأشكال، كما أثنى على تعاون بعض أصحاب الأعمال القبارصة اليونانيين الذين يسمحون للمسلمين العاملين لديهم بالخروج قبل الصلاة بوقت كاف يوم الجمعة كي يتمكنوا من حضور خطبة الجمعة والصلاة.إلا أنه استدرك بالقول إن بعض الحساسية قد تصدر من بعض أهل البلد ولكن الدولة محايدة بخصوصنا كمسلمين.
كايرينيا.. الصورة القبرصية اكتملت
مرافقنا المحايد الذي حدثتكم عنه دلني على طريق شمال قبرص، وهو عبر شركات سياحية تملك تراخيص التحرك بسهولة بين الجانبين وقد بدأت الاتصال على شركات التي تنظم مثل هذه الرحلات حتى وجدت الشركة المناسبة لمثل هذه الرحلة (السياحية) لأني أردت البقاء شمال قبرص لأطول فترة ممكنة. ولحسن الحظ كانت الشركة تقع في منطقة قريبة من جامع ليماسول الكبير.
أصاب الإحباط موظفة مكتب السياحة التي قامت بترتيب رحلتنا إلى جمهورية قبرص الشمالية، عندما أجبتها بأني لا أحمل جوازي معي ولا أعرف حقا ما الذي دفعها للافتراض، كنت أنا وصاحبي نحمل هذه الوثيقة المهمة معنا في كل مكان، وبسرعة سألتنا هل الجوازان في الغرفة أو لدى ركن الاستقبال؟ ولحسن الحظ كنا قد تركنا جوازينا لدى الاستقبال، وقامت مرايندا - هذا هو اسمها كما عرفت، لأن الجلسة في مكتبها الصغير طالت واستطالت، وصار هناك بيننا عيش وعصير - بالاتصال على الفندق وطلبت منهم إرسال صورتين عن جوازينا وخلال دقائق وصلت الأوراق بالفاكس وتمت إعادة إرسالها لمكان آخر يتم فيه جمع أسماء المسافرين وجنسياتهم في قائمة واحدة وتحديد موعد ومكان الحافلة التي ستقلهم في تلك الرحلة، التي تبدأ من الصباح الباكر وتنتهي قبل الغروب بقليل.
السؤال الأول بعد أن وضعت قدمي اليمنى للصعود إلى الحافلة هو هل أحضرت معك جواز السفر؟ أجبت وأنا ممسك به، بلى، وبينما كان زميلي المصور يهم بإخراج أوراقه قالت له قائدة الرحلة لا نحتاج إليها الآن فقط أردت التأكد. كانت الحافلة تعج بالسياح الإنجليز وأغلبهم على ما يبدو شاركوا في حرب العلمين.
هذه الأجواء التي توحي بأن شيئا ما سيحدث أثارت في نفسي بعض الهواجس مما قد ينتظرنا من مفاجآت، انطلقنا من ليماسول متجهين صوب العاصمة نيقوسيا التي ستكون هي بوابة دخولنا إلى الشطر التركي، وصولا إلى مدينة كايرينيا الرابضة على شواطئ الساحل الشمالي لقبرص، أي أننا قطعنا ذلك اليوم جزيرة قبرص من جنوبها حتى شمالها.
كل هذه الأسئلة عن جوازات السفر والفاكسات التي أرسلت واستقبلت تبددت أهميتها في لحظات عندما دخلت علينا الحافلة موظفة جوازات وليس رجلا خشن الصوت وكث الشوارب يتطاير من عينيه شرار الشك والريبة، رحبت بنا بابتسامة متفجرة بالحياة ولوحت بيدها اليمنى سريعا قائلة: أهلا بالجميع أنا لا أريد أكثر من إلقاء نظرة سريعة على جوازاتكم، كان الجميع مترقبا، وبدلا من أن تقطع الموظفة المسافة حتى آخر راكب، عادت أدراجها مكتفية بالجالسين بالصف الأول وورقة أخذتها معها مكتوب فيها كل أسماء ركاب الحافلة. ويوجد هناك خمسة معابر مفتوحة بين الجانبين التركي واليوناني، أحدها ذلك المعبر الضيق الذي لم نفلح في اجتيازه والثاني هو المعبر الواسع الذي يسمح بعبور الحافلات والسيارات وهو الذي سرنا فيه، ولكنه يختلف عن الأول، حيث وجدنا ما يمكن أن نعتبره نقطة حدودية تقع بين بلدين يعيشان في حالة توتر فالأمم المتحدة حاضرة بقواتها الدولية للمراقبة والجيش التركي يحمي جمهورية شمال قبرص والجيش اليوناني يقوم بنفس الدور لجمهورية قبرص.
علم جمهورية شمال قبرص نسخة طبق الأصل من العلم التركي إلا أن لونه أبيض ومرسوم عليه باللون الأحمر خطان غليظان واحد في الأعلى والثاني بالأسفل وفي المنتصف صورة هلال. وفي طريقنا وجدنا لوحة كبيرة مكتوباً عليها أنا تركي وأفتخر وبعدها وجدنا العلم الأبيض مرسوماً بحجم عظيم على جبل عريض رأيناه من بعيد ونحن مازلنا نقطع أمتارنا الأولى في الشطر التركي.
وقد يختلف أتراك ويونانيو قبرص في كل شيء إلا أنهم اتفقوا على طريقة قيادة السيارة من الناحية اليمنى، وما عدا ذلك فهما مختلفون فالليرة التركية هي المستعملة في كايرينيا واللوحات الإرشادية تحمل أسماء المناطق باللغة التركية والإنجليزية، والمساجد منتشرة في كل المناطق التي قطعناها. من زار تركيا لا يشعر أنه غادرها في جمهورية شمال قبرص، خاصة عندما يتجول في ميناء كايرينيا المكتظ بسفن الصيد الصغيرة وصوت إبراهيم تاتلس ويتوقف عند أحد المطاعم التي تبيع الكباب والشاورما على الطريقة التركية لتناول وجبة الغداء، ثم يطلب الشاي الساخن والنارجيلة ولو أراد أن يلعب الطاولة فهي متوافرة لمن يطلبها.
جمهورية شمال قبرص التركية
استقل الجزء الشمالي من قبرص في عام 1983م بعد إعلان قيام جمهورية شمال قبرص، التي لم يعترف بها من دول العالم سوى تركيا وظلت هذه الجمهورية معزولة دوليا لفترة طويلة من الزمن بسبب قرار مجلس الأمن رقم 541 الذي يقرر عدم شرعية جمهورية شمال قبرص التركية، كما يدعو القوات التركية إلى الانسحاب من قبرص، وبفضل التوصية التي طرحت في منظمة المؤتمر الإسلامي عام 2004م بالانفتاح على جمهورية شمال قبرص، تم فتح مكاتب تمثيلية لها في ست دول عربية هي الكويت وعمان وسورية وقطر والبحرين والإمارات، إضافة إلى باكستان وبريطانيا هي عبارة عن خياشيم دبلوماسية يستطيع من خلالها أتراك جمهورية الشمال القبرصي بناء جسور اقتصادية وثقافية.
قرار منظمة المؤتمر الإسلامي جاء استجابة لاستفتاء الأمم المتحدة الذي قاده الأمين العام السابق كوفي أنان عام 2004 حول المسألة القبرصية، حيث أظهرت النتائج رغبة الأتراك القبارصة في توحيد قبرص بنسبة 65 في المائة في حين رفض القبارصة اليونانيين ذلك المشروع بنسبة 75 في المائة.
من الاتفاق حتى الانشطار
القضية القبرصية واحدة من الملفات المتكدسة على ظهر الماضي الحاضر، وبالرغم من أن أخوة الأرض والتاريخ المشترك نجحت يوما في خلق وطن واحد في 1960م فإنها تراجعت سريعا وتشابكت كثيرا بعد ثلاث سنوات، لدرجة أنه لا يمكن تبسيط الحل بالجلوس على طاولة المفاوضات، لأن أحد الطرفين وهو اليوناني حاز الاعتراف الدولي كجمهورية مستقلة تمثل كل القبارصة بمن فيهم الأتراك، ويحظى بدعم كبير من الاتحاد الأوربي أما القبارصة الأتراك فلا يتم التحاور معهم سوى كقبارصة من أصل تركي. وذلك الوضع يمثل القشرة، أما لب الصراع فيقف وراءه التنازع التركي واليوناني على قبرص كمنطقة نفوذ.
واستفاد القبارصة من التحول الكبير في سياسة بريطانيا العظمى التي لم تعد قادرة على إدارة مستعمراتها كما في السابق، وفي 1959م اجتمع في زيورخ كل من بريطانيا والقبارصة الأتراك واليونانيين انتهت بإعلان استقلال قبرص في 16 أغسطس 1960م وتولى الأسقف مكاريوس زمام رئاسة الدولة. ويمنح دستور البلاد الأتراك نسبة تمثيل في مناصب الدولة. سواء في الحكومة أو البرلمان تصل إلى ثلاثين في المائة وأن يكون منهم نائب رئيس الدولة وبصلاحيات حقيقية, مع وجود رمزي للقوات التركية واليونانية كقوات حافظة للسلام في الجزيرة، وبعد ثلاث سنوات فقط انهار ذلك الاتفاق بعد أن طلب مكاريوس تعديل الدستور الذي منح الأتراك ما يفوق حجمهم، ودخلت البلاد في دوامة من العنف والاتهامات المتبادلة، بالرغم من تدخل الأمم المتحدة بقوات حفظ سلام وفي عام 1974م دخل الجيش التركي المناطق الشمالية من قبرص لحماية القبارصة الأتراك من الإبادة وتمكن من السيطرة على ما يقارب الأربعين في المائة من مساحة البلاد، وأعقب ذلك التدخل عملية نزوح كبيرة بين شطري قبرص أنهى حالة التمازج التاريخي بينهما، بعد أن رسمت البندقية الحدود الفاصلة بين أبناء الجزيرة واصطبغ كلا الطرفين بكل ألوان الاختلاف اللغوي والديني والثقافي والاجتماعي، ولايزال هذا الوضع قائما إلى اليوم ومنذ عام 1974 م.
الحل الممكن
يفضل أتراك قبرص أن يكون الحل تحت مظلة الأمم المتحدة بشرط الاعتراف ولو شكليا بالجمهورية القائمة في الشمال، وهم يهدفون من إقحام المنظمة الأممية في المسألة القبرصية إلى محاصرة القبارصة اليونانيين وإحراجهم أمام المجتمع الدولي كونهم مستفيدين من الوضع الحالي، كما ستتمكن جمهورية شمال قبرص من التحرك على الساحة الدولية بعد زوال الحرج عن الكثير من الدول التي لا تريد إغضاب دول الاتحاد الأوربي.
إن الدعم القادم من الاتحاد الأوربي أوجد حالة من الاسترخاء السياسي لدى القبارصة اليونانيين تجاه بحث مسألة مستقبل الجزيرة، ونزعة مستمرة للتهرب من المفاوضات المباشرة، أما أتراك جمهورية الشمال فيرون أن الدولة الفيدرالية هي الحل النهائي لمستقبل قبرص مع تساوي المواطنين فيها في الحقوق والواجبات
التعليقات (0)