مواضيع اليوم

قاهرة الكوميديانات والدعاة وأهل الصيف وسعداء الملصقات

روح البدر

2011-12-09 06:00:12

0


قاهرة الكوميديانات والدعاة وأهل الصيف وسعداء الملصقات

 

بسمة الخطيب
(لبنان/قطر)

 

 

 

القاهرة. نهاية أيلول سبتمبر

 

 

 

دخلتُ القاهرةَ ترافق خطواتي بشائر الخريف الذي كان يتقدّم باستحياءٍ أعجزه عن نزع عباءة الصيف القائظ عن جسد المدينة.
هكذا يبدأ الخريف هنا كلّ عام. حارّ متردّد وحزين. أعود بعد غياب وأبحث عن ملامح زياراتي السابقة للمدينة التي أحببتها طفلة ومراهقة في سينما الأبيض والأسود، في فوازير نيللي وآهات أم كلثوم، في ضحكة المعلّمة ناديا الجندي وابتسامة سعاد حسني الساحرة، في قلم إبراهيم أصلان الثاقب البصر وكاميرا شاهين وبركات، في فحولة فريد شوقي ولهاث عبد الحليم، في رقّة سيد درويش وسخرية صلاح جاهين...
النيل رائع كما كان منذ وُلِد، ليله مقمرٌ ونجومه تشعّ مرتين، مرة في السماء ومرة في ثنايا الموجات الصغيرة الهادئة. <الحبّيبة> هم أيضاً كما تركتهم منذ سنتين، فوق الكباري وفي أي بقعة <غازون> خضراء.
خان الخليلي بسيّاحه وتجّاره وصبيان مقاهيه كما هو، وحدها الأسعار ارتفعت، بينما حال المتسوّلين عند أطرافه إلى انحدار. يفقسون مثل كتاكيت الماكينات، ينبعون من الأركان المظلمة، من كل الأعمار والقياسات، لكلّ حكايته الخاصة يورد <مانشيتاتها> على مسامع المارّة. من أنهكه شقاء النهار يستسلم لساعات نوم عند أي رصيف. مررت بأمّ وأطفالها يتوسّدون تراب الرصيف بينما كنت أبحث عن تاكسي، حين شعرت الأمّ بمروري فتحت عينيها ورفعت رأسها نحوي، كانت أقسى نظرة تلقّيتها منذ سنوات، عينان حمراوان لم ترمشا رغم الغبار الكثيف ودخان العوادم، أنّبتاني على ذنب لم يخطر لي حينها. عادت إلى نومها بعدما تأكّدت أنني لم أدس على أقدام أولادها الحافية.
يتحوّل سريري في غرفة الفندق الفاخرة إلى صليب خشبي. تظهر أضواء الفنادق والمطاعم والمراكب من الشباك. أفكّر في ما يهدره أثرياء العالم في الملاهي الليلية بينما أسهمهم تسجّل أرباحاً مرعبة كلّ دقيقة، فتتراقص الأسهم في مخيلتي مع تراقص خصور الصبايا بين أصابع لها رائحة السيجار الكوبي والعطور الفرنسية. في الصباح التالي أشعر بيديّ متصلّبتين وألمح أثر احمرار عند المعصمين.
لم أهتمّ كثيراً بالتاريخ الذي ارتبط بقلعة محمد علي، المهمّ هو القاهرة المنبسطة أمام عينيّ وسحابة الرماد التي تكتم أنفاسها، الجدران المتهدّلة تحت الأغبرة، أصوات المآذن الحزينة...
الريح نعمة القلعة. شاب عشريني يمسك يد فتاة، الصمت ثالثهما وليس الشيطان. يطبع قبلة سريعة فوق يدها فيداريان ارتباكهما بالنظر إلى السحابة الرمادية. العشاق إذا تكلّموا يطلقون الوعود لذلك بدا سرّ صمت هذين العاشقين لي منطقياً. صارت الأحلام بذخاً وقحاً.

محجّبات أيضاً وأيضاً

انضمت صديقتي إلى المحجّبات. محجبة لكن على طريقتها الخاصة. قالت إنّ الحرب على لبنان غيّرت حياتها. بعد معاناة اهتدت إلى راحة النفس والقلب. في مقهانا المفضّل، <الحرافيش>، اقتربت منها امرأة محجّبة وهمست لها بأدب وتُقى: <الحجاب بتاعك وقع، رقبتك باينة>. ردّت صديقتي أنه ليس كذلك وأنها تتعمّد ربطه بهذه الطريقة. علت نبرة المرأة وقالت مؤنبة: <بس دا ما يبقاش حجاب!>، ردّت صديقتي بنبرة أعلى: <ومين قال إنو كده؟؟>.
بينما ترتفع نسبة المنقّبات ويصير وجودهن ملحوظاً في الشارع المصري، تختار الأغلبية العظمى من الشابات المصريات ما يمكننا تسميته <الحجاب المعاصر>. حائرات بين الالتزام الإسلامي والنبض العصري، اخترن دمج الحجاب مع الجينز الضيق والماكياج والخلخال. نصف حجاب وأحياناً ربع حجاب، قبعة أو قلنسوة أو أشكال أخرى... هذا المزج لم يبد لي مستهجناً، من سجنت نفسها داخل حجاب وكانت لديها بقايا توق إلى الحرية أرادت أن تنفّس عنها بهذا الخلط، ولكنني وجدت في هؤلاء الشابات مشاريع متمردات، فالمحجّبة مقبلة على معارك ضارية، أطلقت إحداها الممثّلات المحجّبات المعترضات على تجاهل التلفزيون المصري لمسلسلاتهن، وإقحام مفردات عصرية وتجميليّة إلى عالم المحجّبات سيكون عنوان معركة قادمة بين محجّبة تقليدية وأخرى عصرية...

بين نجوم الدعوة ونجوم الكوميديا

يطلّ الدعاة الإسلاميون الشبّان من اللوائح الإعلانية في شوارع القاهرة بابتسامات لا تشبه شيئاً حولها! يعلنون عن أنفسهم بسعادة: إنهم <نجوم الشارع المصري>... ملابس نظيفة وأنيقة، وجوه وأكفّ بيضاء، ابتسامات مطمئِنَة تعِد الناس بالخلاص الذي إن لم يكن قريباً فهو ينتظرهم في الحياة الآخرة. نوع جديد من النجوم يزداد الإقبال عليه والتعلّق به، كما هي القاعدة في المجتمعات التي تشتدّ معاناتها ويضيّق الفقر والقهر الخناق عليها فلا تعود تجد سوى وعود الجنة حلاً لمشاكل الأرض.
رغم سطوتهم إلا أنهم ليسوا من دون منافسين. نجوم الكوميديا والغناء موجودون قربهم كتفاً إلى كتف. إعلانات الشوارع هي مرّة أخرى مرآتهم، وهي التي تدلّ إلى مكانتهم. يافطة عملاقة تقول لممثل ومغنّ مسجون بتهمة التهرّب من خدمة العلم <كلّنا بنحبّك يا تامر>، لوحة أخرى لمطربة نحيلة تقول لمن يهمّه الأمر <وريني>! لكن الأبرز هو أفيشات الأفلام الكوميدية مثل <كتكوت>، <ظاظا>، <جعلتني مجرما> و<وشّ إجرام> وهي من بطولة نجوم الشباك الأوائل في طليعتهم محمد سعد بعده أحمد حلمي ثم محمد هنيدي وكمال رمزي... تجمعهم صفة افتقارهم إلى الوسامة والطموح في أن يكون كل منهم إسماعيل ياسين. أفلامهم عبارة عن مجموعة <إفّيهات> وأغنية أو أكثر بأصواتهم التي يشترط فيها <النشاز الساخر>. ومرّة أخرى يخطر لي إسماعيل ياسين الذي بدأ حياته حالماً في أن يكون مطرباً عاطفياً، وهو الحلم الذي راود الكثير من نجوم الكوميديا وإن لم يفصحوا عنه فقد غنّوا في أفلامهم (نجيب الريحاني في <غزل البنات> بمساندة ليلى مراد سمير غانم عادل إمام) والحلم الذي جاهر به وقاتل لأجله ثم مات دون تحقيقه الممثل الكوميدي نجاح الموجي... ها هو يظهر في شكل جديد مع كوميديّ اليوم. والترويج لهذا النوع من السينما ليس عبثياً، ففي ساعتين أو أكثر هي عمر الفيلم الواحد يطمع المشاهد في التفريج عن كربه من الدرن الغارق في رسالة إنسانية أو قيمة فنية معرفية، ورواج سينما الضحك التافه هو ابن خطّة مدروسة، وناجحة، فحتى من كان يقاطع هذه الأفلام وينتقدها بات يدخل دور السينما مرتاح البال طالباً أن يضحك ويضحك بسبب أو من دونه فقط كي ينسى ما هو فيه.
لذلك وجدتُ أن منافس عمرو خالد هو الكتكوت محمد سعد الكوميديان الأغلى ونجم الشباك الأول. الاثنان يتحدثان عن المواطن المصري، يعرضان مشاكله ويقترحان لها الحلول الخيالية، سعد يحلّها بالخيال الساخر والثاني بالخيال الإلهي، ولا يجد المواطن نفسه غضاضة في الاستماع بجديّة إلى الطريقتين والاقتناع بهما.
كوميديان آخر، بعدما أمضى قرابة عقد يسخر من الزعيم العربي ويفشّ غلّ الشعب عبر مسرحية <الزعيم>، ها هو يقدّم للسنة الثامنة مسرحية كوميدية باسم <بودي غارد>. يشتهر إمام كونه الأكثر نجاحاً في إثارة ضحك الجمهور ولهذا السبب فقط تستمرّ عروض مسرحياته سنوات متتالية. السؤال هنا ليس عن المسرحية بل عن جمهور يضحك لسنوات طويلة على النكتة نفسها بل يسجن نفسه داخلها.
كانت أفيشات فيلمي <حليم> و<عمارة يعقوبيان> ما زالت صامدة، رغم أن الفيلمين سحبا من دور العرض، إلا أن الحديث عن <يعقوبيان> كان مستمراً بينما الفيلم يتابع طريقه نحو العالمية، أما <حليم> فيبدو أنه لم يأت على قدر التوقّعات. وقد أخذ مكانه فيلم لوجوه مبتدئة هو <أوقات فراغ> الذي سجّل مفاجأة حقيقية للنقّاد ولبورصة الإيرادات السينمائية. كلمة سرّ هذا النجاح كانت الصدق والموضوعية في المعالجة السينمائية لحال المراهقين المصريين.
الأفيش الأكبر في القاهرة بل مصر كلها كان ذاك المطلّ على النيل، وفيه وجوه مبتسمة ونظرات تتطلّع إلى مستقبل واعد، فلاح وعامل بناء، طفل وأم، موظفة وطبيب، جميعهم يقفون جنباً إلى جنب والرخاء بادٍ على وجوههم. سيتساءل القادم من زيارة خاطفة لبولاق وإمبابة عن سرّ هذه السعادة الواضحة على وجوه تمثّل الشعب المصري. لكنني لم أشك لحظة أن الإعلان يخصّ الحزب الوطني الحاكم الذي كان حينها يحتفل بعيده. تلك اللحظة كانت وسائل الإعلام تنقل كلمتي رئيس الجمهورية ونجله، وكان الحضور يصفّق و<الهتّيفة> يهتفون داخل تلك القاعة البعيدة جداً جداً عن مصر والمصريين تماماً مثل هذا الأفيش العملاق.

حكايات وسط البلد

تحوّل مقهى ريش إلى مكان كئيب. صار مزاراً لسائحين أجانب يعرفون شيئاً يسيراً عن نجيب محفوظ ويقصدون أماكن مرتبطة بسيرته الذاتية، أما المثقفون الذين صنعوا ذاكرة هذا المكان فظلّوا صوراً معلّقة فوق جدران المقهى.
لا يقاطع المثقفون المصريون مقهى ريش فقط بل يبدو أنهم يجنحون إلى مقاطعة مقاهي وسط البلد المرتبطة بهم، وقد سمعت أن ارتيادهم للمقاهي بات يقتصر على مساء الثلاثاء من كل أسبوع، أما باقي أيامهم فيمضونها في منازلهم مع عزلتهم الخاصة أو تفرّغهم لانتاجاتهم.
مقاعد المثقفين ليست خالية بل شغلها شباب وشابات ليست معهم أقلام أو صحف بل شيشة وموبايل! هذه هي أدوات رواد المقاهي. ومع ذلك وجدتُ في مقهى <زهرة البستان> طاولة فنية. عدد قليل من الفنانين التشكيليين والصحافيين دعوني للانضمام إليهم، بعد عصير <البرتقان> اقترحوا اليانسون بالنعناع! خلطة تشكيلية لا بأس بها. تحدثوا عن فيلم <البنات دول> للمخرجة المصرية تهاني راشد رصدت فيه حياة بنات الشوارع في مصر. في اليوم التالي أعلن <مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة> عن فوز <البنات دول> بجائزة أحسن فيلم تسجيلي طويل.
وكان المهرجان يختتم دورته العاشرة بعدما استبدل احتفاله بعقده الأول إلى احتفاء بالسينما التسجيلية اللبنانية الفلسطينية في شخص المخرجة المتميزة <مي المصري>...
لن أستطيع إعطاء حكم على أفلام المهرجان، لأنني لم أتابعها كلها، لكن ما شاهدته كان دون توقّعي، وفي أروقة المهرجان وعند ضفاف قناة السويس تردّدت الأسئلة نفسها التي ترتبط بمثل هذه المهرجانات، حول لجنة اختيار الأفلام المشاركة ومعايير اختيارها... لكن السؤال الذي شغلني كان عن مستوى الفيلم التسجيلي والقصير بشكل عام ومستقبل هذا الفنّ.

أتيلليه القاهرة وأخبار الأدب

على بعد خطوات من مقهى <زهرة البستان> يتوارى أتيللييه القاهرة، تتفرّق حوله أشجار ضخمة الجذوع قد تكون من بقايا البستان الذي يحكى أنه كان في تلك المنطقة في زمن مضى ونسب المقهى إليه. ينظّم الأتيللييه ندوة أسبوعية يشرف عليها ويديرها الكاتب أسامة عرابي، الذي كان في طور الإعداد لندوة شعرية لمجموعة من الشعراء الشباب (شعر محكي وفصيح) بحضور الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي معقّباً على القصائد ومقدّماً لها قراءته الخاصة. كان عرابي متحمّساً للندوة فقاطعت حماسته بالسؤال عن ديوانيه الشعريين الجاهزين <تحت الطبع> منذ زمن، وأنا أعرف أنّ الإفراج عنهما سيفرض اسمه في الساحة الشعرية.
افتقد ليل القاهرة لسهرات محفوظ واللقاءات الثقافية التي كانت تعقد بحضوره. وكان عرابي منذ ثلاث سنوات قد خصّني مشكوراً، كما خصّ زملاء لبنانيين آخرين، بالانضمام إلى إحدى هذه اللقاءات، لكن الخواء الذي أحدثه غياب محفوظ بدا مؤلماً حتى لمن لم يشارك في هذه اللقاءات، حتى للشوارع المؤدية إلى أماكن اللقاءات بين قاعة فندق أو مقهى أو عوامة...
في مبنى <أخبار الأدب> كان عزت القمحاوي منهمكاً بمهمته الإدارية الجديدة، موزّعاً قفشاته الذكية بين الموبايل والهاتف والزوار... وقبل أن أشتكي من تأخّره في نشر المواد المرسلة إليه بشّرني بأن مواعيد النشر ستتحسّن بعد استقرار المجلة في هذا المبنى. لم أكن واثقة من أن هذه هي المحطة الأخيرة للمجلة، ففي كل زيارة يكون عليّ التعرّف إلى عنوانها الجديد في واحد من مباني جريدة <الأخبار>. ووسط البلد كانت عائلة الصديق محمد شعير تنتظرني على الغداء، وكان محمود ابن الأسابيع الثلاثة الوحيد الذي ينام هانئاً تلك الظهيرة، بينما آباء كثيرون لأطفال مثله يخطّطون للسفر.
لا حديث عن القاهرة من دون زحمتها. تعتقد أنك تعرف بؤرها، لكن إذا باغتتك زحمة سير غير معهودة فاعرف أن السبب امرأة، أو بالأحرى سائقة. تكرّر المشهد أكثر من مرة في اليوم الواحد: زحمة سير، امرأة تعطّلت سيارتها تتكلم بالموبايل طالبةً النجدة. ثم أفهمني رسام الكاريكاتير الشاب أنس الديب بأسلوبه الساخر الحكاية: يشتري الزوج لزوجته سيارة قديمة رخيصة كي تسلّك بها مشاوير العيال أي تقلّهم من وإلى المدرسة، ولكن السيدة لا تكتفي وتتخيّل أنها تقود سيارة بحقّ وحقيق! وبما أنها سيارة نصّ عمر وأحيانا ربع عمر فإنها تخذلها في الشارع تتعطّل ويحدث ما يحدث.

انكسارات العودة

في مطار القاهرة تشاجر ركاب الرحلات الصباحية مع موظفي الخطوط الجوية بسبب <الشيالين> الذين راحوا يتدخلون بتمرير مسافر قبل آخر... علا الصراخ وكادت الأيدي تتعارك... كأني غبت عن الوعي وما عدت أهتمّ لما يجري. نمت فوق أحد المقاعد في انتظار الإقلاع.
عادة يتملكني الحزن في رحلات العودة، لكن الأمر لم يقف عند حدود الحزن هذه المرة، لقد كنت أشعر بالخزي، خزي من تهجر حبيباً من دون وداع أو إفصاح عن هربها. هربت من القاهرة هروب الجبناء. لمت نفسي لأني طلبت منها حين أتيتها أن تداوي بعض أحزاني، كان عليّ أن أفتح بئري وأغرف من غياهبها بعض الفرح المخزّن هناك لأوقات الشدّة وأنثره فوق ترابها... هذه المرة لم أستطع أن أهرب من نفسي وأتوه في هذه المدينة وأداوي نفسي بالنسيان المؤقت، هذه المرة وجدت أن القاهرة مرآة لأحزان شقيقاتها بيروت وبغداد ودمشق... مرآة لذاكرتي التي هزمتني مجدداً.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !