من ينظر إلى الناس كقطيع ثم يهرب منهم حالما يستطيع، فإنهم سيدركونه بالتأكيد ويضربونه بقرونهم.
نيتشه
مبدئيا، أنا لا عرف عبد الحميد الإبراهيمي. لست متأكدا من كرهي له، لكنني في المقابل متيقن من أنني لا أحبه، مثله مثل أي مسؤول جزائري سابق أو حالي أو قادم.
كل ما أعرفه عن عبد الحميد الإبراهيمي يعرفه أغلب الجزائريين من دون الجيل الجديد. و هو أنه كان وزيرا أولا لهذه الجمهورية، أثناء الثمانينات، في عهد الرئيس الأسبق الشادلي بن جديد.
عبد الحميد الإبراهيمي،لست أنا الذي عيّنته وزيرا أولا ( كان مثلما هو أويحي حاليا) ، و لست أنا الذي قدّرت أنه على درجة عالية من الكفاءة، تؤهله لتسيير شؤون الحكومة، و لست أنا الذي رأيت فيه أهلا للثقة، و لست أنا الذي زكّيته، و لا أنا الذي طلبت ضمنيا من الشعب الجزائري أن يثق في ما يفعل، و يصدّق ما يقول. نظام الحكم هو الذي اختار الإبراهيمي. و منذ نعومة أظافري، علّموني في هذا البلد أن لا أحد يفهم أحسن من النظام، و لا أحد أكثر حكمة من النظام، و لا أحد أذكى من النظام... و لا أحد أحرص على مصلحة الجزائر أفضل من النظام. و النظام، اختار لنا لسنوات عدة، عبد الحميد الإبراهيمي قائدا للحكومة. آمنت و آمنتم و آمنا.
عبد الحميد الإبراهيمي، و بعدما لم يبق وزيرا أولا، قال نهاية الثمانينات، أن مجموع الأموال العمومية المختلسة لا يقل عن 26 مليار دولار. هل كان عليّ أن أصدّق أم لا أصدّق ؟ منطقيا، كان علينا جميعا أن نصدّق صحة ما تفوّه به الرجل، و هذا ليس فقط لأن الإبراهيمي كان وزيرا أولا، و إنما أيضا - و خصوصا- لأن نظام الحكم هو الذي كان قد طلب منا أن نحسن الظن فيه لأنه يمثل طينة نبيلة، راقية و نزيهة، و إلا لما اختاره النظام مشرفا على الحكومة. لكن الذي حدث هو أن النظام طلب منا ألا نصدّق حكاية الـ26 مليار دولار تلك !
و لماذا لا نصدق؟!... ألم يكن عبد الحميد الإبراهيمي وزيرا أولا ؟ و قبل أن يشغل هذا المنصب ألم يكن وزيرا للتخطيط ؟
و هو المسؤول رقم واحد على الطاقم الحكومي، بعد الرئيس،ألم يكن الإبراهيمي هو الذي يسير أموال الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، و يوزع ميزانيتها، و يعرف ما يدخل الصندوق و ما يخرج منه؟ ألم يكن أفضل رجل عثر عليه قادة البلد، لشغل منصب الوزير الأول؟!
لا..لا... لا تصدّقوا هذه الحكاية قال النظام ؟! و لماذا لا نصدق ؟! النظام قال: إن هذا الرجل يحكي أي كلام... انه مريض مسكين، انه يهذي... انه لا يعي لا ما يفعل و لا ما يقول.. انه يكذب. و باختصار النظام قال: لا تصدقوا هذا الرجل انه يصطاد في الماء العكر !
يصطاد في الماء العكر!... سبحان الله العظيم، عندما كان و لسنوات عديدة يسير شؤون الدولة، كان يصطاد في ماء زمزم، و بمجرد ما غادر منصبه، و تحدث عن أموال الشعب المسروقة، و تجرأ على أن يكون دقيقا و يقدم رقما لمجموع المبالغ المسروقة ( 26 مليار دولار)، حينها تبين أنه يصطاد في الماء العكر !... و مع ذلك، لا علينا. الإبراهيمي يصطاد في الماء العكر، و نحن لا نأكل ما يُصطادُ من المياه العكرة، و إن كنت لا أعرف ما يمكن لشباك الصيادين أن تلقف من المياه العكرة.
النظام (نهاية الثمانينات) و لكي يقنعنا بأن عبد الحميد الإبراهيمي هذا، رجل رُفع عنه القلم تقريبا، استخرج للرأي العام، لقبا للرجل، كان محدود التداول وسط دوائر الحكم، و هذا اللقب هو عبد الحميد LA SCIENCE. و المقصود من هذا اللقب، طبعا، هو أن هذا الشخص يدّعي العلم. و لأن علماء الجزائر المتواجدون في الحكم، كثيرون - و الحمد لله-، فقد قالوا للإبراهيمي: " فاقوا.. ما أبعد LA SCIENCE عنك ، و ما أبعدك عن LA SCIENCE " . و كدنا نؤمن بأن الرجل كاريكاتور scientifique لو لا أن عبد الحميد الإبراهيمي LA SCIENCE ... العالم المزيّف كما أرادوا أن يصفوه ضمنيا، بمجرد ما غادر الجزائر، و استقر بريطانيا، وجد أبواب الجامعات البريطانية مفتوحة أمامه، كي يدرّس الاقتصاد لبشر من كل جنس من كل دين !
هناك في بريطانيا، يبدو أن القوم اقتنعوا بأن الرجل " عنده LA SCIENCE في الرأس" بالفعل، و إلا لما سمحوا له بأن يجتاز حديقة أول جامعة قصدها... فأيهما نصدق يا جماعة الخير: قادة بريطانيا أم قادة الجزائر ؟!
منذ أيام قليلة، تعلمون كلكم أن عبد الحميد الإبراهيمي أطلق تصريحات نارية، لدى استضافته في حصة " زيارة خاصة" التي تبثّها قناة " الجزيرة" و اتهم فيها عددا من الشخصيات الرسمية الجزائرية بفظائع كثيرة.
من بين تلك الشخصيات الرسمية التي نالت نصيبها من اتهامات عبد الحميد الإبراهيمي،وزير الدفاع في عد الشادلي بن جديد، اللواء الشهير خالد نزار. هذا الأخير و من خلال يومية " الشروق" رد على عبد الحميد الإبراهيمي، و قال بأن الإبراهيمي، هو مصدر مظاهرات 5 أكتوبر 1988 بسبب سوء تسييره لأموال الدولة، و أنه شخص تافه - حسب قراءتي للب الكلمات-، و أنه لا مستوى علمي حقيقي له... و الأهم من كل ذلك بالنسبة للسيد خالد نزار أن كل ما قاله الإبراهيمي للجزيرة بشأن حزب فرنسا ببلادنا و الجرائم السياسية المزعومة و تدبير موت الرئيس بومدين من قبل أحد المقربين منه.. كلها اتهامات لا أساس لها من الصحة. و باختصار شديد، قال خالد نزار: " لا تصدقوا ما يقول الإبراهيمي".
حسنا... خالد نزار يطلب منا ألا نصدق عبد الحميد الإبراهيمي. لكن من يكون خالد نزار حتى يكذّب تصريحات عبد الحميد الإبراهيمي، و يطلب منا أن نفعل بالمثل ؟ خالد نزار كان وزيرا للدفاع، و بالتالي هو يعرف ما لا نعرفه نحن عن عبد الحميد الإبراهيمي و غيره ممن كانوا في السلطة أو لا يزالون فيها. و لكن، لماذا لا نصدّق كلام عبد الحميد الإبراهيمي، فهو كان وزير أولا للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، و يعرف هو كذلك ما لا نعرفه نحن عن خالد نزار و غيره من رجال و نساء الحكم في الجزائر؟!
أنا شخصيا، إن كنت ربما لا أصدّق ما قاله عبد الحميد الإبراهيمي، فإنني أيضا لا أصدّق كلام خالد نزّار، و هذا لسبب واحد يتمثل في كون الرجلين انتميا إلى نظام الحكم الجزائري، و إن أدّعي معرفة شيء واحد عن هذا النظام ،فهو أن هذا النظام لا يقول الحقيقة... أبدا !
منذ أكثر من 30 سنة، قال نفس نظام الحكم عن عبد العزيز بوتفليقة أنه سارق،و قرر ذات النظام طرد هذا الأخير من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، واستعمل هذا النظام، جريدة " المجاهد" لنشر بيانات و أرقام و مبالغ لأجل إقناعنا بأن بوتفليقة الذراع الأيمن للرئيس الراحل هواري بومدين، اختلس أموالا من ميزانية وزارة الشؤون الخارجية التي كان سلطانها بلا منازع. لقد حدث ذلك بعيد وفاة بومدين نهاية عام 1978 من القرن الماضي.
كثيرون هم الذين آمنوا ما قاله النظام عن بوتفليقة في ذلك الوقت. بوتفليقة لصّ !... " برافو" على عباقرة النظام الذين استطاعوا أن يكشفوه في ذلك الوقت !!
20 سنة تقريبا، بعدما سوّد النظام صورة بوتفليقة، عاد نفس النظام ليبيّض ذات الصورة، و ليقول لنا: " أيها المواطنون أيتها المواطنات... ما من منقذ لهذا الوطن، عدا رجل اسمه عبد العزيز بوتفليقة " ! و بالفعل فقد اختار نفس النظام بوتفليقة، مرشح إجماع، و ها هو يقود البلد لعهدة ثالثة !!!... تريدون ما هو أجمل من هذا ؟
حزب جبهة التحرير الوطني الذي طرد بوتفليقة من اللجنة المركزية للحزب،هو نفسه الذي توسّل لبوتفليقة كي يرأسه شرفيا، و هو نفسه الذي يتوسّل إليه منذ أيام، كي يقبل بأن يصبح رئيسا فعليا للحزب !!!!... الآن، وحّدوا الله سبحانه معي. لا اله إلا الله.
ألا يحق لي الآن أن أتساءل: في كلتا الحالتين... صدّقت أم كذّبت ما قيل عن بوتفليقة، نهاية سبعينات القرن الماضي، ألا يحق لي الآن، أن أكذّب هذا النظام طالما بقيت حيّا... إلى الأبد.
لهذا السبب، أنا أرفض اليوم كل ما يُقال عن شخص عبد الحميد الإبراهيمي. و بالمناسبة، أليس من الرجولة.. أليس من العدل، أن نتساءل أولا عن الجرم الذي اقترفه هذا المسمى عبد الحميد الإبراهيمي،كي يُحرم من حقه في جواز سفر جزائري، يمكنّه من العودة إلى بلاده، بدلا من أن نخوّنه و نتهمه بالعمالة لملك المغرب، بعدما تأكد أن هذا الأخير متّعه بحق اللجوء عنده، بعدما سئم الرجل من الحياة وسط البريطانيين، و أصبح لا يرغب في أكثر من عيش ما تبقى له من عمر، في أجواء إسلامية عربية مغاربية ؟
بحرمانه من جواز سفر، ألا يتعرض عبد الحميد الإبراهيمي لـ" حڤرة " لا تختلف كثيرا عن " الحڤرة " التي تعرض لها بوتفليقة بعد وفاة بومدين ؟
قبل أن نخوّن الناس، هل نحن بحاجة لمن يذّكرنا بأننا منتصف التسعينات خوّنا جماعة عقد " سانت ايجيديو"، بأمر من النظام، و خرجنا في مسيرات تنديدية " عفوية"... ثم سنوات قليلة اثر ذلك، و بأمر من نفس النظام، خرجنا مرة أخرى في مسيرات " عفوية " دائما، لنعبّر عن تأييدنا للوئام المدني، ثم المصالحة الوطنية، مع العلم أن الوئام و المصالحة و العفو عن الجماعات الإرهابية كانت كل ما طالبت به جماعة " سانت ايجيديو" ؟!!
من يقول عنه نظام الحكم، اليوم أنه مجرم قد يقول عنه غدا بأنه ملاكا طاهرا، و العكس صحيح. أما عقولنا نحن، فيبدو أن النظام يرى فيها أكياسا، يرمي فيها نفاياته متى يريد. بالنسبة لكيسي أنا، يشرفني أن أبلغ نظام الحكم المحترم بأنه ممتلئ بالزبّالة، و لا مكان فيه لأي إضافة. السلام عليكم.
منشور في أسبوعية أسرار الجزائرية/ العدد 263
التعليقات (0)