في الذكرى التاسعة لجريمة العصر والتي تميّزت هذا العام بانطلاق جلسات "المحكمة الدولية" التي أبهرت العالم بحرفيتها ومهنيتها العالية، نجد من الضروري بمكان التطرّق الى وضع "تحالف قوى 14آذار" الوليد المبارك للحظة التاريخية التي التقطت فيها اليد المسلمة اليد المسيحية الممدودة إليها منذ أكثر من ثلاثة عقود تحت شعار "لبنان أولاً".
لدى الحديث عن قوى 14 آذار، أو الحركة الاستقلالية اللبنانية، لا بد من التنبيه على أنها تتألّف من شقّين متكاملَين:
الشق الأول: هو الشعب التوّاق لبناء الدولة الحرة السيدة المستقلة التي تجمعه -بكل أطيافه وانتماءاته- في الإطار الوطني الواحد، الشعب الذي سبق قياداته مفجّرًا انتفاضة الاستقلال في أعقاب اغتيال الرئيس "رفيق الحريري" من أجل التحرر من الاحتلال السوري وأدواته "اللبنانية"، جمهور نوعي طليعي ملأ الساحات منذ 14 آذار 2005، وأعاد الكرّة في ذكرى 14 شباط من كل عام قبل أن تتقوقع قياداته مفضلة إحياء الذكرى داخل قاعة "البيال".
أما الشق الثاني، فهو الجسم السياسي الذي يضم مجموعة متحالفة من القوى والأحزاب والشخصيات المستقلة، التي قادت "ثورة الارز" وحملت لواء "الحرية والسيادة والاستقلال"، وكان إنجازها التاريخي إقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
بناء على ما تقدّم نقول: لا خوف على تفكّك 14آذار على الصعيد الشعبي، فلانتفاضة الاستقلال حماتها وحرّاسها الحقيقيون، وهؤلاء هم شعب "ثورة الأرز" الملتزم بقسَم الشهيد "جبران تويني". أما الجسم السياسي، فقد أثبتت السنوات التسع الماضية أن الأمور بالنسبة لتماسكه تبقى مفتوحة على جميع الاحتمالات، فقد عجز عن التصرّف كفريق واحد في كثير من الحوادث المفصلية، الى درجة جزم معها البعض بوفاته، أو بأنه أمسى تحالفًا وهميًا منفرط العقد.
كسبيل منطقي لمعرفة حياة تحالف "قوى 14آذار" من موته، أو تشخيص صحته من مرضه، لا بد من استعراض مختصر قدر الإمكان لأبرز الخطايا التي اقترفها على مدى 9سنوات من ولادته، وصولاً الى استخلاص المشاكل واقتراح الحلول.
1
فمن المؤرِّخين من اكتفى بخطيئة "الحلف الرباعي" لكي يسارع في الإجهاز على تحالف القوى الاستقلالية وهي لا تزال في مهدها؛ إذ قبيل انتخابات حزيران2005 النيابية، ارتكب حزبان استقلاليان خطيئة لا تغتفر بعقدهما تحالفًا انتخابيًا مع حزبَين منتميَين الى عصابة "شكرًا سوريا"، ما أنتج حلفًا رباعيًا ضمَّ "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" من جهة، و"حزب ولاية الفقيه" و"حركة أمل" من جهة ثانية. وما إن جرت الانتخابات حتى تبيّن أن الجنرال "ميشال عون" كان شريكًا مضاربًا في الحلف الرباعي -الخماسي حقيقة- ذلك أن "الحزب الإيراني" أيَّد لوائح "ميشال عون" باستثناء "بعبدا"! هذا الحلف "الإسلامي" انتخابيًا أدى الى استنهاض الشارع المسيحي في اتجاه "الجنرال" الذي عرف كيف يستثمر خطئية الاستقلاليين بكتاب برتقالي يعرض برنامجًا انتخابيًا ظاهره استقلالي سيادي وباطنه دعائي خادع، حصَدَ بموجبه نحو 70% من أصوات المسيحيين. وكانت تلك لعبة سورية-إيرانية "ناجحة" لإدخال "حصان طروادة" الى القلعة المسيحية الاستقلالية. وحتى اليوم الأخير من الانتخابات ظلَّ وضع المعارضة مضطربًا لحصولها على 44 نائباً مقابل 56 لحلفاء سوريا، لكن في الجولة الأخيرة فَعَلَها "الشمال" وأنقذ الموقف بانتخابه 28 نائباً استقلاليًا جديداً، فباتت المعارضة تمتلك 72 نائباً من أصل 128.
2
ومنهم من يعيد وفاة تحالف 14آذار الى 28/11/2007، يوم أصدر النائب "سعد الحريري" قرارًا "انقلابيًا" مفاجئًا تولى مهمة إعلانه النائب عن كتلة المستقبل "عمار حوري" قائلاً: "بعد حصول الفراغ في موقع الرئاسة، (...) وخلافاً للتوجهات التي سادت سابقاً، نعلن قبولنا بتعديل الدستور في سبيل الوصول إلى توافق على اسم قائد الجيش العماد ميشال سليمان" كمرشح لرئاسة الجمهورية. كان لهذا الإعلان وقع الصدمة العنيفة على جمهور "ثورة الأرز" الذي بدأ يرى قياداته تتراجع عن القرار تلو القرار خصوصًا أنها كانت قد حسمت موقفها برفض تعديل الدستور وانتخاب عسكري لمنصب الرئاسة الأولى؛ وكان المعيب في إعلان "الحريري" أنه فاجأ بعض قيادات الأكثرية نفسها، نظرًاً لعدم التشاور معها مسبقًا بخصوصه أو حتى إعلامها به، وكان على رأس هذه القيادات مرشح 14 آذار للرئاسة الأولى النائب "بطرس حرب"!!
3
ومنهم من يحدد 21/5/2008 تاريخًا لنهاية تحالف 14 آذار؛ ففي هذا اليوم، وعلى وقع مدافع غزوات 7أيار الإرهابية، وبعد أن سيقت مكبّلة الأيدي الى طاولة "حوار" في العاصمة القطرية وُضِع فيها سلاح غدر الحزب وملحقاته على الطاولة وفي الرؤوس، وقّعت الأكثرية على "اتفاق الدوحة" مع تحفّظ مشرِّف لحكيم ثورة الأرز الدكتور "سمير جعجع". "اتفاق الغالب والمغلوب" بامتياز، انتصرت فيه الأقلية المسلّحة على الأكثرية المغشوشة بالنصائح الخارجية والدعم الأميركي الكلامي المفرّغ من أي مضمون عملي، حيث نالت المعارضة ما سبق أن رفضت 14آذار منحها إياه، وهو حكومة "وحدة وطنية" لها فيها الثلث المعطِّل، وقانون انتخاب العام 1960، أي قانون القضاء الذي ظنت أنه يضمن لها الأكثرية. أما فيما يتعلق بانتخاب "ميشال سليمان" رئيساً للجمهورية، فهو أيضاً من مكاسب المعارضة المسلحة، بعد نجاحها في منع قوى 14 آذار من انتخاب أحد مرشحَيها. كما نجح "حزب ولاية الفقيه" بمنع قوى 14 آذار من التعرُّض لمناقشة موضوع سلاحه في "اتفاق الدوحة"، بدليل أنه نصَّ على تأجيل بحث هذا الموضوع إلى "الحوار الوطني" في لبنان، مع العلم أن قيادات قوى 14 آذار كانت قد شدَّدت قبل جلبها إلى "الدوحة" أن موضوع السلاح سيكون الأول بلا منازع على طاولة الحوار القطرية.
4
ومنهم من يؤرخ لنهاية تحالف قوى 14آذار بحزيران 2009، عندما بادر النائب "سعد الحريري" بشكل مفاجئ -كالعادة- وغير متوقّع، الى الإعلان عن "اليد الممدودة" للفريق الانقلابي لتشكيل "حكومة وحدة وطنية" بعد ربع ساعة من إعلان فوز قوى 14آذار في انتخابات 7/6/2009 النيابية! بدّد هذا القرار الانتصار التاريخي الذي حقّقه جمهور "ثورة الأرز" الذي خاض الانتخابات النيابية الأخيرة على أنها معركة فاصلة ستحدد مصير لبنان، وعلى أساس أكثرية تحكم وأقلية تعارض، ولا للثلث المعطل ولا لسلاح الغدر...وإذ بقواه ترضى بعد انجلاء غبار المعركة التاريخية (عن أكثرية 71 نائبًا) بحكومة مفصّلة على قياس الأقلية الخاسرة، قائمة على صيغة 15-10-5 تحوي ثلثًا معطلاً مضمَرًا، وبتوزير الراسبين في الانتخابات وهو ما كانت رفضته بشراسة، وشرّعت السلاح الميليشيوي (موضوع الفقرة 8)، فأعادت إنتاج اتفاق الدوحة ومدَّدت مفاعيله المخالفة للدستور وخسرت فرصة تطبيق الديمقراطية في لبنان. وقد أدى سوء التنظيم أثناء المعركة الانتخابية الى انسحاب (الراحل) النائب "نسيب لحود" رئيس "حركة التجدد الديمقراطي" من الأمانة العامة لقوى 14آذار احتجاجًا على عدم تبنيها أيًا من مرشحي حركته؛ وكذلك فعل عميد الكتلة الوطنية "كارلوس اده"، عازيًا انسحابه الى "موقف مبدئي".
5
ومنهم من يؤرخ لوفاة تحالف 14آذار بـ 25/6/2009؛ ففي ذلك اليوم أُعيد انتخاب زعيم "حركة أمل" "نبيه بري" رئيسًا لمجلس النواب (للولاية الخامسة على التوالي!)، رغم إثباته عدم أهليته لذلك المنصب وعدم أمانته على العمل التشريعي النيابي، بعدما حوّل المجلس الى مؤسسة خاصة لطائفته وحركته، وأقفل أبوابه (في سابقة تاريخية عالمية) مدّة عامين تقريبًا في وجه نواب الأمة، معطِّلا الاستحقاقات الدستورية وعمل الدولة اللبنانية ومصالح الناس، ومانعًا الأكثرية النيابية الاستقلالية في ممارسة حقها الدستوري في إقرار المحكمة الدولية لبنانيًا وانتخاب رئيس جمهورية من صفوفها. وقد جاءت مهزلة انتخاب "بري" بعد فشل قوى 14 آذار في الاتفاق على قرار موحّد بشأن عملية التصويت؛ فقد نال "بري" 90 صوتًا من أصل 128، بينها 33 نعمًا مخزية من قوى 14 آذار تقاسمها معظم نواب كتلة "الحريري" ونواب كتلة "وليد جنبلاط"، فيما امتنعت "القوات اللبنانية" و"حزب الكتائب" وآخرون عن التصويت منسجمين مع مبادئهم، كما صوّت مستقلون بـ 11 ورقة بيضاء مشرّفة. وكان أضعف الإيمان بالنسبة لزعيم الأكثرية النيابية "سعد الحريري" (إذا كان خائفًا من 7أيار جديد حال عدم إنجاح "بري") أن يمتنع عن التصويت تاركًا "بري" يفوز بأصوات نواب 8آذار، غير أنه حتى هذا الخيار لم يجرؤ على اتخاذه!
6
ومنهم من يحدد 2/8/2009 تاريخًا لوفاة تحالف قوى 14 آذار؛ ففي صباح ذلك اليوم، خضع النائب "وليد جنبلاط" لغلبة السلاح الإرهابي الذي يحاصر الشوف والجبل، معلنًا من فندق "البوريفاج" تحديدًا، بما للمكان من دلالات معبرة، أنّ تحالفه مع قوى "14 آذار" كان بحكم الضرورة ويجب ألا يستمر، معتبرًا "أن فريق "14 آذار" لم يخض معركة ذات مضمون سياسي"، ومشيرًا الى أن "كل معركتنا كانت قائمة على رفض الآخر من موقع مذهبي وقبلي وسياسي"! وقد وصل به الأمر في 13/11/2009، الى حد استجداء زيارة لسوريا من على منبر تلفزيون "المنار" حيث أعلن أن "المصالحة مع سوريا قد حصلت مع عودتنا الى الثوابت"، زاعمًا أن "العاطفة والحماس غلبته، وأنه كان قاسيًا جدًا على الصعيد الشخصي ضد النظام السوري"، وأنه عندما "يكون هناك استعداد في دمشق لاستقبالي، سأعلن عن زيارتي"! وبالفعل، في 31/3/2010، قبِل النظام السوري توبة "جنبلاط" بعد تلاوته فعل الندامة، فزار "جنبلاط" "بشار الأسد" "القرد الذي لم تعرفه الطبيعة" (بحسب تعبير جنبلاط نفسه في 14/2/2006)، منهيًا قطيعة دامت زهاء 6 سنوات. بيد أنه مع اندلاع الثورة السورية أيّدها، وأعلن "جنبلاط" في 11/7/2011: "أنتظر على ضفة النهر، إذ لا بد أن تمرَّ جثة عدوي يومًا أمامي".
7
ومن المتابعين من يحدّد 9/11/2009 تاريخًا لانتهاء تحالف قوى 14آذار؛ ففي حين كان أعضاء المكتب السياسي الكتائبي يتلون بيان تمسّكهم بحقيبة التربية في الحكومة الجديدة، كان الرئيس المكلف "سعد الحريري" يوقّع مع الرئيس "سليمان" تشكيلة وزارية أسند فيها إليهم حقيبة الشؤون الاجتماعية! كان من غير اللائق أن يُعامَل بهذه الطريقة حزب جسّد عبر مسيرته التاريخية ثوابت حركة 14 آذار قبل ولادتها، ثم شكّل محور "ثورة الأرز" بعد انطلاقتها، خصوصًا إذا علمنا أن الطرف المسيحي في الأقلية نال من "الحريري" جل مطاليبه (وزارة الاتصالات وتوزير الراسبين في الانتخابات)، واحتفظ بخمسة وزراء رغم تراجع تمثيله بنسبة 23%! هذا التصرّف المعيب جعل "حزب الكتائب" يعتبر أن تجمّع 14 آذار بهيكليته الحالية وطريقة تعاطيه مع الفرص التاريخية والتحديات المختلفة "يترنّح"، و"يفقد تدريجيًا وحدته وروحيته أمام الرأي العام"، معلنًا مقاطعته جلسات الأمانة العامة لقوى 14 آذار الى حين تجاوبها مع الخطة الإنقاذية التي طرحها والتي تضمنت: "أولا تشكيل قيادة عليا مصغرة لـ14 آذار، ثانيا حصر القرارات السياسية بهذه القيادة، وثالثا وضع مشروع إصلاحي للنظام السياسي اللبناني(...). وبانتظار تنفيذ هذا المشروع الإصلاحي، يبقى حزب الكتائب كما كان دائما حزبا مستقلا ويتصرف على هذا الأساس".
8
ومنهم من يحدّد 2/12/2009 تاريخًا لانفراط عقد تحالف قوى 14آذار؛ ففي ذلك اليوم الأسود صدر البيان الوزاري مقرًا ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة"، أي مانحًا ما يسمى بـ"المقاومة" التي يحتكرها "حزب ولاية الفقيه" بسلاحه الفئوي والفتنوي والمذهبي الحاقد والغادر... شخصية معنوية مستقلة تساوي بين سلاح الجيش وسلاح الحزب بحيث يتقاسمان السيادة على أرض وطن واحد! وكان لافتًا في تلك الجلسة، اعتراض وتحفظ وزراء أحزاب ومستقلي مسيحيي قوى 14آذار على البند السادس المتعلق بالسلاح، فيما أيّد وزراء السنّة في تلك القوى، وتحديدا "تيار المستقبل" وفي مقدمهم رئيس الوزراء "سعد الحريري"، صيغة البيان من دون تحفّظ أسوة بالوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية ووزراء قوى 8آذار و"الحزب التقدمي الاشتراكي". وعبثًا حاول "حزب الكتائب" اقناع أفرقاء 14 آذار بالطعن في هذا البند أمام المجلس الدستوري، غير أن أحدًا لم يوقِّع معهم باستثناء النائب "عقاب صقر"! ومنذ تاريخ تشريع "الحريري" السلاح الميليشيوي، بدأنا نألَف مصطلح "مسيحيي 14آذار" في مقابل مصطلح "سنّة أو مسلمي 14آذار"، وكفى بذلك دلالة على تشرذم -إن لم نقل وفاة- تحالف تلك القوى الاستقلالية وابتعادها عن روحية "ثورة الأرز" العابرة للطوائف بل الموحِّدة لها سياسيًا تحت لواء "لبنان أولاً".
9
ومن المحلّلين من يحدّد عصر 19/12/2009، تاريخًا لوفاة تحالف قوى 14آذار؛ ففي ذلك التوقيت، من دون دعوة رسمية ولا جدول أعمال صادر عن مجلس الوزراء ولا وفد وزاري، وصل الى مطار دمشق الدولي رئيس وزراء لبنان "سعد رفيق الحريري" في زيارة قيل إنها رسمية، "فرض عليه منصبه القيام بها قبل انجلاء نتائج التحقيقات في قضايا الاغتيالات، متجاوزًا مشاعره الخاصة ومشاعر الشارع السني والاستقلالي عامة، من باب وجوب تصحيح العلاقات مع سوريا، وبَحْث المواضيع العالقة، كرئيس حكومة كل لبنان وكل اللبنانيين". لكن رغم تلك التبريرات الواهية، عُدَّ ذلك الحدث بمثابة مصالحة تاريخية (برعاية سعودية) بين "الحريري" الابن والقيادة السورية التي اتهمها باغتيال والده؛ وهي تمثّل في مطلق الأحوال نكسة قاتلة لقوى 14آذار، ونقطة ذهبية ثمينة سجّلها "الأسد" في المرمى الاستقلالي، بدا معها واضحًا أن 14آذار تدفع ضريبة قبولها باعتلاء "الحريري" سدة الرئاسة الثالثة، ما أثبت صوابية الأصوات التي نصحت "الحريري" بعد الانتخابات بترك المهمة للرئيس المحنّك "فؤاد السنيورة"؛ فالأخير وإن زار سوريا (وقد زارها سابقًا) ليس زعيم الأكثرية السنية ولا النيابية ولا رئيس "تيار المستقبل" كما أنه ليس ابن الشهيد "رفيق الحريري"، بما لتلك الرمزيات من تأثير بالغ على تحالف 14آذار ومستقبله.
10
ومنهم من يؤرخ لوفاة 14 آذار بما حدث في 6/9/2010؛ فكما عوّدنا، ها هو الرئيس "سعد الحريري" يفاجئ الجميع بموقف انقلابي عبر صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية (بما ترمز وتمثّل)، اعتذر فيه من النظام السوري عن اتهامه إياه باغتيال والده، كما اعترف لقوى 8 آذار بوجود "شهود زور" في التحقيق الدولي قائلاً: "نحن في مكان ما ارتكبنا أخطاء. في مرحلة ما، اتهمنا سوريا باغتيال الرئيس الشهيد، وهذا كان اتهاماً سياسياً، وهذا الاتهام السياسي انتهى". "هناك أشخاص ضلَّلوا التحقيق، وهؤلاء ألحقوا الأذى بسوريا ولبنان(...). شهود الزور هؤلاء خرّبوا العلاقة بين البلدَين وسيَّسوا الاغتيال، ونحن في لبنان نتعامل مع الأمر قضائياً". وكان لذلك التصريح الدراماتيكي (المتماهي مع نص تلاوة "جنبلاط" "فعل الندامة" في 13/11/2009)، انعكاسه السلبي على القوى الاستقلالية؛ فقد عُدّ تنازلاً موصوفًا من الدرجة الأولى معنوياً وسياسياً ومبدئياً، ولا سيما أننا كنا لا نزال في مرحلة التحقيق الدولي والمحكمة لم تلفظ قرارها الاتهامي بعد؛ فضلاً عن أن ما قيل من غير الجائز أن يصدر عن "الحريري" دون تشاور وتنسيق مع بقية الأقطاب الاستقلالية والأمانة العامة، ما يظهر مرة جديدة وبفجاجة حال الفوضى والتشرذم داخل البيت الاستقلالي.
11
ومنهم من يحدّد 11/6/2012 تاريخًا للدلالة على وفاة تحالف 14آذار؛ ففي ذلك اليوم، بناء على دعوة العاهل السعودي الرئيس "سليمان" في 22/5/2012 "رعاية هيئة الحوار الوطني"، وعلى الرغم أولاً من نقل النائب "نهاد المشنوق" (في 18/4/2012) عن النائب "سعد الحريري" تأكيده "ألا حوار قبل الإعتذار عن 7أيار وتسليم المتهمين في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى المحكمة الدوليّة"، وعلى الرغم ثانيًا من إعلان قوى14آذار في 24/5/2012 أن "لا حوار قبل تشكيل حكومة انقاذية حيادية"، وعلى الرغم ثالثًا من عدم تحقق أي نقطة مما سبق، شاركت معظم القوى الاستقلالية في طاولة "حوار التقية" معوّمة بشكل أو بآخر الحكومة الانقلابية "الميقاتية" (التي نشأت عقب إسقاط حكومة "الحريري" في 12/1/2011 باستقالة الثلث المعطل). أبت "القوات اللبنانية" أن تنقلب على مبادئها، فرفضت المشاركة داعية الحكومة إلى "تنفيذ مقررات الحوار السابق بدل العودة إلى طاولة الحوار بألسن خشبية وللصورة فقط". صحيح أن ذاك "الحوار" أنتج "إعلان بعبدا" السيادي، غير أن الحزب الإيراني ما لبث -جريًا على عادته- أن لحس توقيعه فنعى رسميًا الإعلان في 14/8/2013 معتبرًا أنه "وُلد ميتاً ولم يبق منه إلا الحبر على الورق"، مؤكدًا صوابية قرار "القوات اللبنانية".
12
ومنهم من يدلّل على وفاة تحالف 14آذار أو يؤرخ لها بالتخبّط والضياع في الرد السياسي على 19/10/2012؛ ففي ذلك التاريخ، وعلى أثر اغتيال رئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي العميد "وسام الحسن" الذي انضم الى القافلة التي فتحت منذ سبع سنوات ونيّف طريق الحرية والسيادة والاستقلال والكرامة، أعلن الرئيس "سعد الحريري" التحرك المدني السلمي لإسقاط حكومة الرئيس "نجيب ميقاتي" ومقاطعتها الى أن ترحل"، كما أكّد الرئيس "فؤاد السنيورة" أن "لا حوار على دم الشهداء"، وتابعته الأمانة العامة لقوى 14آذار معلنة عن تفعيل قرار مقاطعة الحكومة وأنه سيُترجَم من خلال امتناع نوّابها عن المشاركة في اجتماعات اللجان النيابية، ومؤكّدة أن "أي كلام آخر قبل رحيل الحكومة غير وارد". غير أن هذه القوى ما لبثت في 3/12/2012 أن قرّرت الموافقة على استثناء قاعدة المقاطعة بإعادة إحياء عمل اللجنة النيابية المصغرة لدرس اقتراحات قوانين الانتخاب. وفي حين اعتبر المحللون تلك الخطوة تراجعًا وعجزًا من هذا الفريق على الالتزام بقراراته بكسره قاعدة المقاطعة، رد بعض نواب 14 آذار بأنه ليس كسرًا بل هذا مستثنى أصلاً، فيما عزا آخرون القرار الى أنه أتى من منطلق الرهان على الانتخابات للخروج من الواقع الراهن.
13
ومنهم من يدلّل على وفاة تحالف 14آذار بـالنصف الأول من العام 2013، عندما احتدم الخلاف بين أفرقاء "التحالف" وعجزوا عن التوصّل الى قانون انتخاب موحّد يقدم مصلحة لـ"لبنان أولاً" على الحسابات الحزبية والطائفية. ففي حين تمسكّت "القوات اللبنانية" و"الكتائب" ومعهما معظم المسيحيين في البداية بمشروع "قانون اللقاء الأرثوذكسي" القاضي بانتخاب المسيحيين نوابهم، رفضه "تيار المستقبل" طارحًا بدعة مركّبة تقضي بانتخاب مجلس النواب على دوائر صغرى وإنشاء مجلس الشيوخ في آن معًا، بعد إجراء تعديل على الدستور يسمح بذلك، لنكون أمام مجلسين طائفيين! وظل التشرذم والأخذ والرد سيّدَي الموقف بين أفرقاء 14آذار حتى ربع الساعة الأخير حيث توصّل الثنائي "القوات اللبنانية" و"تيار المستقبل" بالتحالف النائب "وليد جنبلاط" الى مشروع "القانون المختلط" الذي تحفّظت "الكتائب" على تقسيماته، كما رفضه الفريق الانقلابي فأمر "نبيه بري" بالامتناع عن عقد جلسة نيابية للتصويت عليه. استُنفذت المهل الدستورية، فما كان من المجلس النيابي إلا أن قرر في31/5/2013 مخالفة الدستور ونسف النظام الديمقراطي بالتمديد لنفسه 17شهرًا بذريعة انقاذ المجلس من الفراغ، وتعذّر إجراء الانتخابات وفقًا للقانون القائم بسبب الأوضاع الأمنية المتوترة، وذلك في جلسة خاطفة وبأكثرية بلغت 97 نائبًا.
14
ومنهم من يحدّد 17/1/2014 تاريخًا لوفاة تحالف 14آذار؛ يوم نفّذ الرئيس "سعد الحريري" انقلابًا صادمًا ومفاجئًا جديدًا، بإعلانه "استعداده للمشاركة في حكومة ائتلافية مع "حزب الله" باعتباره حزبًا سياسيًا"، ومبرّرًا "قفزته" بأنه "غلّب العقل على العاطفة" وأن "الخطوط الحمر تمليها حاجات البلاد، ونحن نريد الاستقرار"! ليقع مجددًا تحت ذريعة "حفظ الاستقرار" في فخ شرعنة قوى الأمر الواقع المسلّحة ومنْحِها غطاءً "سنيًا" يستر وجهها الطائفي الحاقد في قتالها الشعب السوري. قفز "الحريري" فوق تعهداته بأنه لن يشارك الحزب في حكومة قبل أن ينسحب من سوريا، وفوق حذف معادلة "الثلاثية" واعتماد "إعلان بعبدا" مسبقًا بيانًا وزاريًا، قابلاً بترحيله الى ما بعد التشكيل، بعكس "القوات" التي بقيت مصرة على ما سبق للمشاركة، مفضلة الانسجام مع مبادئها على تجريب المجرَّب والسير بتسوية لا مصلحة للبنان بها. أما "الكتائب" فرأت في المشاركة جملة انتصارات لمشروع الدولة و14آذار، ما أوحى أن "الحزب الإرهابي" الماكر أكبر ساذج وغبي بقبوله بهكذا حكومة! وقد أتى ذلك كله وسط تساؤلات عن مصير "المقاومة المدنية السلمية لتحرير لبنان من احتلال السلاح" التي أعلنها "السنيورة" عقب اغتيال الوزير السابق "محمد شطح" في 27/12/2013، مؤكّدًا للشهيد "ما قبل اغتيالك لن يكون بعده"!
بعد هذا السرد المؤلم، لست أدري على ماذا بيني قادة قوى 14آذار حُكمهم، عندما يطمئنون جمهورهم بأن تحالف قواهم بخير، ولا ماذا يعنون بادعائهم انه "سليم مئة في المئة". فإذا كان المقصود اكتمال صفوف 14آذار، يجيبنا الواقع بأن الأمانة العامة لا تزال ناقصة وإن عاد إليها ممثل "الكتائب" مطلع 2013. وإذا كان المقصود التحالف السياسي الإسلامي-المسيحي، فتجيبنا الخطايا السابقة أنه لا يعدو عن غزل (على وزن شِعر "الحريري": "لن يفرقني عن حلفائي إلا الموت")، وكلام معسول ومجاملات تتبادلها الأحزاب المسيحية و"تيار المستقبل" الذي لا يلبث زعيمه عند الاستحقاقات المصيرية والحوادث المفصلية أن أن يُحلّق خارج سرب ذلك التحالف بمواقف صادمة ومفاجئة أضرّت بالمسيرة الاستقلالية. أما إذا كان المقصود وحدة استراتيجية المواجهة، فتجيبنا الوقائع الـ14 السابقة أنها الغائب الأكبر، أو أنها استراتيجية التخبط والتشرذم والضياع، وعدم القدرة على الوفاء بالتعهدات والالتزام بالسقوف العالية للمواقف، وتقديم "لبنان أولاً" على أي اعتبار.
مما تقدّم نستخلص أن "تحالف" القوى الاستقلالية يعاني من المشاكل التالية:
"مشكلة" 14آذار أولاً -ونوردها على سبيل المجاز لأنها ميزة في حد ذاتها- هي مشكلة قادة 14آذار مع شعبهم الذي يتطلّب التعامل معه خطابًا منطقيًا مقنعًا -لا شعبويًا غرائزيًا-، خطابًا يثبت عند كل مفصل أن كل ما تُقدم عليه قواهم السياسية يوافق مبادئ وشعارات "ثورة الأرز"؛ وهذا أمر في غاية الدقة والصعوبة مع شعب يفكِّر ويحلّل ولا يسلّم عقله لتكليف شرعي يعطله، ولا "يؤلّه" زعيمه أو يرفعه الى مرتبة العصمة والقداسة، بل يبقيه في مرتبة البشرية القابلة للخطأ والصواب، وبالتالي لا يسمح لمحبته وتقديره لقادته أن تعميه عن أخطائهم أو تجعله يبرّرها وإن كان مقتنعًا بعدم صوابيتها. من هنا أقول: لا خوف على المكون الدرزي لـ14آذار، فالنائب "جنلاط" طالت غربته أم قصرت عائد من "نزهة النهر" لا محالة، وروح قاعدته الشعبية استقلالية بامتياز.
مشكلة 14آذار ثانيًا، أنها عند كل خطيئة كبرى تُظهر تشرذمًا وانقسامًا داخل صفوفها في الوصول الى قرار موحّد تلتزم به جميع المكونات، نراها تفاخر بديمقراطية "تحالفها" متغافلة عن أنها في الحقيقة تفاخر بإحدى نقاط ضعفها! فلكل معركة الأسلحة التي تناسبها، ولكل مرحلة تكتيك في التعامل معها وضابطه أن لا يمس بالاستراتيجية الاستقلالية السيادية الكبرى، وبالتالي عندما تكون الدولة مهددة في وجودها وكذلك الصيغة الوطنية، وعندما نكون في مواجهة حلف موحّد بقيادة حزب حديدي مسيّر بأمر خارجي، لا بد عند كل مفصل من قرار واحد موحّد يُتخذ بطريقة ديمقراطية حقيقية داخل 14آذار بحيث يلتزم به المصوِّتون ضده، وإلا كان التشرذم -المُفاخَر به على أنه من وجوه الديمقراطية- مِعول هدم للصرح الاستقلالي، وخدمة جليلة للقوى الانقلابية التي نواجهها. أما عندما تكون الدولة غير مهددة في وجودها واللعبة السياسية وطنية وديمقراطية بامتياز، فلا بأس بالمفاخرة باختلاف الآراء وتغريد كل طرف على غصنه الخاص بحثا عن حصة زائدة أو حجم حزبي مميّز.
مشكلة 14 آذار ثالثًا، إحجام أفرقائها عن وضع استراتيجيا موحدة صلبة ولكن عملية وواقعية في آن واحد، تأخذ في الاعتبار موازين القوى والأحجام في الداخل والخارج، وتبنى على قراءة سياسية تمنع الانغشاش بالنصائح الخارجية من دولية وإقليمية، ولا سيما أنها غالبًا ما تكون لصالح الفريق الانقلابي.
مشكلة 14آذار رابعًا، -ونأسف لهذا التوصيف لكنه الواقع- أن الجناح المسلم فيها (وليس الشعب المسلم) لا يستطيع مجاراة الجناح المسيحي في طروحاته الوطنية السيادية والاستقلالية، بدليل المحطات الأليمة التي سردناها وخصوصًا تشريع "الثلاثية" القاتلة...وغالبًا ما تعض القوى المسيحية على جرحها معتبرة أن هذا "التحالف!" لا بد منه ليبقى لبنان مهما برزت السقطات القاتلة من الجناح المسلم ونعني به تحديدًا "تيار المستقبل". فمنذ بروزه على الساحة السياسية، توالت الأحداث لتثبت أن "الشيخ سعد الحريري" ماهر بقدرته على القفز فوق مواقفه وتعهداته المشرِّفة، والانقلاب عليها فجأة ودون ممهدات، ولا أجد تفسيرًا لتكرار عنصر المفاجأة هذا إلا بارتباط قرار "الحريري" الوثيق بالمملكة العربية السعودية، وتماشيه مع سياستها كلما أشارت عليه بذلك سيرًا في تسوية إقليمية أو غير ذلك، ما يؤشر الى أن "تيار المستقبل" عندما ردّد شعار الرئيس "بشير الجميل" "لبنان أولاً"، حمّل نفسه أكبر من طاقتها! ولعل خطورة ما عليه "الحريري" أنه بانقلاباته وقفزاته تنازلاته غير المبرّرة يجعل قسمًا مهمًا من أبناء الطائفة السنية يرى في سياسة "المستقبل" انحلالاً لا اعتدالاً، واستسلامًا لا مواجهة، ما يدفع البعض نحو خيارات أخرى قد يكون أحدها التطرّف!
بالتمعّن في عرض الخطايا الـ14 أعلاه، يمكن ملاحظة ثلاثة نقاط مضيئة في بحر من السواد، وهي: حكمة "القوات اللبنانية"، وخطة "الكتائب" الانقاذية، وتبنّي "لبنان أولاً" من "السنية السياسية" (وإن انتهكته مرات عديدة)؛ هذه "الثلاثية" البنّاءة هي الركائز الأساسية للحل المنشود على قاعدة قسَم الشهيد "جبران تويني"، ألا وهو التوحّد.
هذا التوحد شَرطه أن يكون قولاً وعملاً؛ آليّة تطبيقه هي الخطة الإنقاذية التي طرحها "حزب الكتائب" والتي تضمنت إعادة هيكلة الأمانة العامة بتشكيل قيادة عليا مصغرة لـ14 آذار، وحصر القرارات السياسية بهذه القيادة. أما ضمانة نجاحه فهي التزام جميع مكونات 14آذار بـ"لبنان أولاً" وخصوصًا "تيار المستقبل".
هذا أقل ما يمكن تقديمه تجاه "ثورة الارز" وقاعدتها الشعبية النموذجية وشهدائها الأبرار الذين ضحوا بأنفسهم لبقاء لبنان، ولا سيما أننا في مرحلة احتضار الامبراطورية الفارسية التي سينكسر هلال شّرها بتحرير سوريا من أنياب الأسد، وهي مرحلة في غاية الدقة والخطورة خصوصًا أن الحزب الإيراني سيسعى الى التعويض عن جزء بسيط من خسارته امتداده الاستراتيجي بانتزاع مكاسب وامتيازات على حساب الدستور اللبناني وبقية الطوائف... ما يحتّم علينا استثمار اللحظة وإدراك المخاطر وتوحيد الرؤية والتوحّد، وإلا فلا بديل عن النهوض بتحالف 14آذار سوى البكاء على لبنان وصرير الأسنان.
ويبقى سؤال: هل "تيار المستقبل" قادر فعلاً على الالتزام بموجبات "لبنان أولاً" والتحرُّر من الإملاءات السعودية؟!
التعليقات (0)