مواضيع اليوم

في الفكر والسياسة الدكتور محمد السعدني

mos sam

2011-07-22 02:55:57

0

 فى الفكر والسياسة: أحاديث منتصف الليل

فى الفكر والسياسة: أحاديث منتصف الليل
 
د.محمد السعدنى 
 
 
 
إن معظم مكائد التاريخ ترسم فى الليل وتنفذ بالنهار،
 
هكذا تكلم مونتسكيو فى كتابه الشهير"خطابات فارسية"، وهى عبارة جاءت
أكثر تدقيقاً مما ذكره المؤرخ الرومانى الشهير " بلوتارك " حيث قال: فى
سواد الليل يصنع معظم التاريخ، وسواء تم تنفيذه ليلاً أو نهاراً فإن التدبير كله
يتم فى سواد الليل، ذلك أن التخطيط والتدبير والمؤامرات ترتسم فى أذهان أصحابها فى
هدأة الليل وتحت سدوله خصوصاً إذا ما ارتبطت بعمل غير مشروع يحتاج فيه صاحبه
للتخفى من الآخرين والهروب من وضح النهار خشية افتضاح السر، وتحسباً للمساءلة فهو
غالباً مايتسلح لمكيدته بالمباغتة والأكاذيب والالتواء.
 
 
 
ولأن موروثنا الشعبى غالباً ما يعبر عن ضمير الأمة
وفطرتها النقية فقد حفلت حكاياه ورواياته بإدانة كل سلوك معوج أو مكيدة وتآمر
ووصفتها بعبارة الإدانة البليغة "حيك فى الليل أو تم بليل"، أى فى مبعدة
عن جادة الصواب وفى مجافاة لصحيح السلوك وقواعد الأخلاق وروح القانون ونصوصه.
 
 
 
ومما يحكيه على مبارك فى "الخطط التوفيقية" أن
محمد على لم ينم أسبوعاً كاملاً قبل تنفيذ مؤامرته على المماليك فى مذبحة القلعة،
وروى عن جنكيز خان أنه كان ينام ساعات الظهر أما بقية الليل فكان يقطعه إما فى
فراشه أو متخفياً وحده يفكر فى مكائده ومؤامراته.
 
 
 
والحق، كما يقول الكاتب الكبير د.حسين مؤنس فى كتابه
الرائع "أحاديث منتصف الليل" أن الكثير من مؤامرات التاريخ وأحداثه صنع
فعلاً فى الليل، وكانت تلك هى القاعدة فى الماضى عندما كان الذين يصنعون التاريخ
جبابرة يخدمون أنفسهم وأهواءهم دون نظر إلى مصالح وطن أو قواعد أخلاق. فى الليل
يجلسون مع أنصارهم وندمائهم ويقررون ما يريدون، وفى الصباح يفاجأ الناس بالحوادث
دون أن يفهموها، فليس من المهم أن يفهموها، بل كان من الخطر أن يحاولوا فهمها، لأن
الناس فى نظرهم قطعاناً من الغنم، والأغنام تساق بالعصا ولا يسمح لها بإمساك العصا
أبداً. ويقول حسين مؤنس أيضاً "كان ذلك فى الماضى، تغير الحال اليوم ولم تعد
الأمور تدبر بليل فى إجتماع بين المسئول أو الوزير وندمائه، وإنما تناقش فى
إجتماعات منظمة علنية وفى مجالس التمثيل السياسى حتى لا نفاجأ بالإنقلابات
والقرارات التى لا يفهمها أحد إلا الذين اتخذوها". وهكذا ينبغى أن تكون
الأمور ذلك أن عالمنا الحديث وبما حمله من تحولات وتغيرات فى بنية المجتمع ووسائط
المعرفة وثورة الإتصالات ومفاهيم السيادة وتدرج السلطات وحدود القانون ونوعية
المؤسسات العامة، ما عاد يسمح بمثل ما كان معروفاً من تجاوزات السلطة وتغول المتنفذين
وسرية القرارات ومفاجآت الأحداث الكبرى، وحتى فى بعض الحوادث صغيرة الحجم بعيدة
الأهمية قاطعة الدلالة.
 
 
 
تغير العالم وتغيرت معه مفاهيم كثيرة وبفضل ثورة
الإتصالات والمعلوماتية والعولمة تغيرت مفاهيم كانت مستقرة عن السيادة والقانون
الدولى، ودخلت إلى أدبيات السياسة العالمية مصطلحات لم تكن معروفة من قبل عن
التدويل المضطرد للعالم والتدخل الإنسانى وتغول آليات السوق وتوحش الرأسمالية
العالمية وعسكرة العولمة، ونمت فى مقابل ذلك كله صيحات المقاومة فى استجابة
إجتماعية من ضمير العالم الذى خرج فى بورتو الجيرى وسياتل وجنوا وديربان وكيوتو ضد
الظلم ودفاعاً عن حقوق الإنسان ومصالح العالم الثالث والدول الفقيرة، وتعاطفاً مع
المقهورين والمهمشين ضحايا العولمة الإقتصادية وجبروت الشركات متعددة الجنسيات وتحكمها،
وتغيرت مفاهيم كانت مستقرة عن العلوم والفنون والآداب والتكنولوجيا، وتحول التاريخ
من علم ماضوى يعنى بأحداث الماضى وأعمال الزعماء والقادة والأبطال إلى فعل مستقبلى
يعنى بحركة الجماهير وأشواق البشر وتطلعاتهم، وتغيرت الجغرافيا السياسية حيث نقلت
شاشات الفضائيات ما يقع الآن حالاً فوراً فى فلسطين ودارفور والعراق وهاييتى
وتايلاند والصومال ورواندا وإريتريا، ومعها كانت الإستجابية الإجتماعية التى جعلت
المواطن العالمى جزءاً من الحدث فور وقوعه وحتى أعطته القدرة على التدخل المباشر
فى توجيه مستقبل التاريخ بعيداً عن حواجز الجغرافيا وتحكمات القوى الكبرى.
 
 
 
إذن لم يعد التاريخ يحاك بليل ولكن بعض الصغار مازالوا
يلعبون اللعبة القديمة دون وازع من ضمير ودون أى إحساس بمسئولية سياسية نحو مصالح
وطن ومستقبل أمة ومشروعات نهوض وتقدم وتنمية، يساعدهم على التمادى فى غيهم زمرة من
محترفى النفاق وخدم المكاتب وبعض معدومى الكفاءة من مبتسرى التكوين والنضج، وتلك آفتنا
الكبرى فى وطن منكوب ببعض أبناءه وبعض وزراءه وكثير من أصحاب الرابطات الحمراء
فاقدى النخوة محدودى الأفق ممن ينقضون على كل نجاح ويكيدون بليل لكل مجتهد ويضربون
بكل غباء وغشم مشروعات مصر الكبرى، يغتالون المستقبل حتى لا يتجاوزهم ببشاراته
وآماله وارتفاع هاماته، ذلك أنهم صغار يساعدون صغاراً وأقزام يخدمون أقزاماً،
وينسون فى حمأة انفعالهم وضلالهم أن مصر يحيمها الله وكثير من رجالها المخلصون.
 
 
 
وتعالوا معى نطالع واحدة من حكايا حسين مؤنس فى
"أحاديث منتصف الليل" إذ ذكر تحت عنوان " خيانة أبى البسام"
أنه فى الأربعاء السابع والعشرين من مارس 817م الموافق للرابع عشر من رمضان 202ه  قامت فى قرطبة ثورة شعبية كبرى على الحكم بن
هشام ثالث أمراء الأندلس التى أسسها جده عبد الرحمن الداخل، ولأنه يخلق من ظهر
العالم فاسد فقد ولى الحكم بن هشام على قرطبة الفتية القوية كثيرة الخيرات
والجبايات وكانت ذات قيادة عسكرية وافرة العدة والعدد حسنة التدريب يقودها قائد
عظيم ذو إخلاص وعلم وخبرة وكانت هى درة التاج فى الأندلس، الأمر الذى لم يقدره
وزيرها الحكم بن هشام الذى اتصف بالنزق وضعف الشخصية والخفة، فاستطال على الناس
واستهان بهم وعطل مصالحهم ونكل بالعلماء والنابهين وأصحاب الفكر وأهل الفقه والدين،
وصار يقضى معظم وقته فى العبث والكيد مع ندمائه وخدمه حتى حاز كره الناس وضيقهم به
وخروجهم عليه وأوسعوه فى مجالسهم وندواتهم هجاء واستهزاءاً وتنكيتاً وتبكيتاً
فثارت ثائرته وأخذ ينكل بزعمائهم ويكيد لهم بليل، واستغل غيبة الخليفة فاجترأ  على عالمهم وقائدهم المحبوب وتربص به بغية اغتياله
وأطلق عليه كلاب حاشيته يخوضون فى سيرته ويقدحون فى كفاءته وقدرته وعطاءه، وهنا
اشتدت ثورة الناس على ذلك الوزير المأفون وخرجوا عليه حتى أنه صلب من أهل قرطبة
اتنين وسبعين رجلاً فى يوم واحد وعلق جثثهم على سور المدينة، ورغمها لم يهابه
الناس ولم يتزعزعوا وكان أكبر همهم الحفاظ على زعيمهم وعالمهم الجليل فأخفوه عند
رجل من الثقاة فى عصره رغم أنه يهودى على غير ملته، ظل عنده نحو العام ثم بدا له
أن يلجأ إلى ابن البسام صديقه القديم كاتب الوزير الأثير عنده، فانتقل إلى داره فى
الليل واستأمنه على نفسه، لكن أبا البسام قدمه قربانا للوزير فلما مثل بين يديه
عاتبه الوزير وسأله أين استترت كل هذه المدة الماضية، فقال عند يهودى أحسن وفادتى
ولم يكن خائناً متآمراً مثل كاتبك، فألتفت الوزير إلى أبى البسام وقال: يهودى يحفظ
الرجل ويخاطر بنفسه ليصون عهده، وأنت يأتمنك الرجل فتخونه، أنت لا عهد ولا أمان لك
ولن تخدم معى بعد اليوم، وخرج أبو البسام هائماً فى الأرض ومات على فاقة وذل وعوز.
 
 
 
كانت هذه واحدة من أحاديث منتصف الليل عند حسين مؤنس،
وقعت أحداثها عندما كان التاريخ يحاك بليل، أما التاريخ الآن فيكتبه رجال أولو عزم
وقوة يعرفون أقدار الرجال ويعرفون للمسئوليات حدودها وأحكامها، لايتآمرون بغية
استحواذ أو سيطرة أوتنفذ، فالمراكز والمناصب تجئ وتذهب، وعلى قلتهم يبقى الرجال.
 

دكتور/ محمد السعدنى  23-3-2010

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !