| ابراهيم هديه |
حقا انكسرت ضلوعي وانسكب ما تحويه بداخلها من حسرة ، فهول المصاب جمر يذيب أحشائي ، ويستل الروح كالشوك تباعا من شراييني.
انتظرنا بفارغ الصبر مرور قافلة شريان الحياة المتجهة لغزة عبر مدينة بنغازي .. وتأسفنا حينما علمنا بنبأ تغييرها لخط سيرها صوب الطريق الصحراوي باتجاه آخر محطة لها داخل الأراضي الليبية وهي مدينة طبرق . عند منتصف النهار .. ووسط سكون الجميع في خلية قورينا ، أبلغنا بتغيير وجهة الرحلة .. تسلم الشهيد النثرية المالية لكلينا ، وأشرت له بالذهاب لتصريف بعضها بالعملة الصعبة.. كفراقه ، بينما أتمُّ أنا ما تبقى لي من عمل لم أنجزه في الصحيفة. طلبت منه أن يستقل معي سيارتي لنذهب سويا إلى السوق ..ونحضر بعض النواقص والحاجيات ، لكنه أبدى رأياً مخالفاً : ( لالالا .. خلينا ناخذوا ادبشي قبل .. معش نبي انجيها الشقة ) ، وتحت إصرار منه أغلقت نوافذ السيارة ..وأوصدتها وحللت معه في شقته ، وفور دخولنا لها تذكر بأنه جائع ، ووجد بأن زوجته قد أعدت له الطعام الذي لم تأكل منه لكونها كانت مريضة ، تناول ملعقتين بالعدد ، وأطبق الغطاء على الصحن ،ووضعه في الثلاجة ، وردد تمتمته المعهودة ( هه ؟! هه ؟!) ، جلب حقيبة سفره وأتم رصّ حاجياته فيها مذكرا نفسه ( ما نسيتش شي يا صلاح ؟ ما نسيتش شي يا صلاح ؟ ) ، وكلما يردد هذه العبارة يجد أنه قد نسي شيئا ، يقوم على الفور بجلبه ووضعه في تلك الحقيبة الجلدية السوداء التي أغراني بشراء شبيهتها ،وكان من بين ما نسيه .. هو أن يصلي العصر حيث توضأ على الفور .. وصلاه – كان لا يفوّت فرضا حتى في أحلك الظروف - وعندما أتم تحميل أشيائه طلبت منه المغادرة .. غير أن ملك الموت أعطى له الفرصة هذه المرة في أن يودع شقته حجرة .. حجرة ، وشبرا.. شبرا ، فبينما نحن خارجون منها طلب مني العودة لإلقاء نظرة على التصاميم التي أضفاها عليها ، قائلا لي : هذه غرفتي ، وهذه غرفة (البنيات) هبة وعائشة.. وهذه غرفة الجلوس.. وهذا الحمام ..وهذا المطبخ، تاركا مكانا واحدا فقط لم يطلعني عليه وهو الصالة التي كنت جالسا بها، وبعد أن كحل عينيه بالنظر إلى شقته التي بكل تأكيد يحمل كل شبر فيها ذكريات عبقة صحبة أسرته الكريمة، سبقته في الخروج من الشقة وسمعت له تمتمات، حينما ركزت عليها وجدت بأنه يرمي السلام على جدران الشقة ( أوكي .. بالسلامة توا) ، وكأن هناك أحدا بالداخل !! ، تبسمت وهززت برأسي ظنا مني بأن تلك التصرفات ما هي إلا مداعبة لي، ولكنها كانت على العكس تماما !! كان يودع مكانه الأثير إلى قلبه ، وهل نحن إلا أمكنة تسكن أهلها ! حينما شرعنا في النزول من سلالم العمارة تلقينا مكالمة الشهيدة سعاد على هاتفي، كانت تجهش بالبكاء حينها ( نبي نمشي .. أصرف .. ديرلي حل ) ، طلبت منها مهاتفة رئيس التحرير لأخذ الإذن منه، إلا أن رئيس التحرير أخبرها عن شدة الإجراءات والموافقات الأمنية التي كان قد أتمها قبل ما يقارب الأسبوع من الحادثة، أعادت الاتصال بنا بينما نحن في السيارة ونستعد للذهاب للسوق ، وقد ازداد بكاؤها وقالت : ( تعرف يابراهيم .. أنا لو كان ما نمشيش .. تهايالي أنموت .. أنت عارف أني نبي المشية من زمان ) ، هديت من روعها وقلت لها ( ساهل .. ساهل .. ح تمشي المرة الجاية ) . لعمرك إن الموت لمولع بمن كان يرجى نفعه ونوافله انطلقنا أنا والشهيد إلى السوق ، وعند محاولتنا لاختراق زحامه تلقينا الاتصال الأخير من الشهيدة وقالت بأنها أجرت اتصالا بأحد المشرفين على القافلة، وأنه طلب منها التنسيق معي و صلاح، وقالت بأنها ستغامر بالذهاب معنا على الأقل إلى ( طبرق)، ربما تتيسر الأمور هناك وسترافقنا إلى قطاع العزة، واتفقنا أننا عندما نتم أمورنا سنلتقي ونذهب مع بعضنا البعض، دخلنا السوق، وتوجهنا لشراء كاسيتات جهاز التسجيل و حقيبة، وعندما كنا ندخل إلى المحل ونتم الشراء كنت أطلب من البائع إعداد فاتورة ، وصلاح يقول لي ( مش ح نستحقلها ) ، هل كان يهجس بما سوف يحدث .. ربما .. وهل ثمة من يدري ؟ اتجهنا صوب المحطة، كان الظلام قد خيم على المكان مؤذنا بالفاجعة، وازدحمت طريق الفندق البلدي بالخارجين منه، وكنا في حيرة إزاء نوعية السيارة التي سنستقلها، الشهيد صلاح قال : ( وحدة .. وحدة .. أنا توا انوازيلكم سيارة .. فكونا من ها اللي يجاروا .. لأني أنا ويّاهم مش أصحاب ) اختار لنا السيارة ، وسائقها كذلك ثم عرّف الشهيد صلاح بصوت عال للسائق ( اللي معاك .. سعاد بوشيبة .. صحفية ، صلاح نجم .. مصور صحفي ، إبراهيم هدية .. رئيس قسم الأخبار والشؤون السياسية .. وكلنا من صحيفة قورينا)، ضحكنا جميعا وكان ضحكاَ كالبكاء . اقتربت ساعة الرحيل .. ودنا ملك الموت من السماء الدنيا ، ووضع عينيه على من اختارهم الله للشهادة ، واقتربت تباعا رحلة مأساتي ، فبعد أن سلكت السيارة طريق ( المرج) ، انقبض قلبي وضاقت بي الدنيا لدرجة أنني بعثت برسائل وداع للبعض .. وهم يعرفون محتوى تلك الإشارات جيدا ، كان فيها نوع من اللوم والعتاب والوداع في آن واحد ، ظننت في بعضها بأن الله سيختارني للشهادة ، وفي حين كتابتي لها وانشغالي عن رفاقي الشهداء ، كانوا – رحمة الله عليهم – يمازحونني بأن أترك الهاتف ومن أراسله لأنتبه لأحاديثهم وأشارك فيها ، بيد أني كنت مشدوها بكل جوارحي فيما أردت كتابته لمن كاتبت ، وتوالى المزاح فيما بعد ذلك على الشهيدة (سعاد) ، التي ما انفكت اتصالات أهلها -الخائفين عليها- بها ، والتي كانت تطمئنهم بأنها صحبة إخوة لها .. وعلى أطلال مدينة المرج تحدث الشهيد صلاح لنا يعرّف المدينة ، ويصف منازل أصدقاء له هناك .. وفيما كان يتحدث إلينا الشهيد كنا قد ولجنا المرج الأخضر ووصلنا إلى بوابة الخروج منه .. طلبت من السائق الانعطاف يمينا صوب (تاكنس ) ليأخذ بنا الطريق الصحراوي المؤدي (لطبرق) ، أصر السائق – سامحه الله – على أن يمضي قدما في اتجاه مدينة ( البيضاء) قائلا : إن الطريق الصحراوي ممل ، وفيما نصحناه كثيرا .. توقفت عن الإصرار عليه بأن يسلك طريق الصحراء خيفة أن نصاب بما أصبنا به .. وليتني أصررت . إذا ما حمام المرء كان ببلدة دعته إليها حاجة فيطير هدأت سرعة سائقنا فور دخولنا لمدينة البيضاء .. بعد أن غمرنا هواء جبلها الأشم ، مررنا بشارع ( الثورة ) وأشرت لهم على منزل الأستاذ ( الصديق بودوارة ) مدير تحرير قورينا السابق ، اندهشت الشهيدة ( سعاد ) .. فهي كانت تظن أن ( الصديق ) من مدينة ( درنة ) ، وطلبت منا أن نمر عليه أو نهاتفه بعد أن نفينا – أنا والشهيد – لها أن سكناه ( بدرنة ) مكتفين بأن صححنا لها المعلومة قائلين إنه يحاضر في جامعة درنة فقط ، عادت ابتسامة الشهيد صلاح لتغمر المكان مجددا حين تحدث عن إعجابه بما يكتبه الأستاذ ( الصديق ) في زاوية ( صورة وتعليق ) واختار من مخيلته صورة .. واستقى منها كلمات جدا مضحكة ، وعندما انتهى .. قال : ( تي صقع علينا) . ونحن نمر بشارع البيضاء الرئيسي .. تساءلوا إن كنا سنقف في إحدى الاستراحات إن كنا جائعين .. ولم نجد أيّا منا جائعا ، وفضلنا المواصلة عن الوقوف ، إلا أن الشهيد صلاح .. تحدث طالبا الوقوف لأداء صلاتي المغرب والعشاء بحكم أنه محتفظ بوضوئه ، فقلنا له : ( أمسك روحك شويا .. تو بعد البيضاء اندرسوا بالمرة ) ، وافق على ما قلناه .. ومضينا قدما حتى وصلنا إلى مفترق طرق مدينة ( شحات) ، وكنا إن توجهنا إلى الأمام سنصل إلى مدينة درنة مرورا بالقبة .. وهذا ما أصررت على أن يتخذه .. ولكن إصراري اضمحل لرغبة السائق بأن ينعطف شمالا ويتجه لدرنة عبر شحات وسوسة ، وافقته الرأي لخوفي من أن يحدث مكروه .. وحدث. لابد من فقد ومن فاقد هيهات ما في الناس من خالد انعطف شمالا .. وظللتنا أشجار شحات ، وودّ الشهيدة سعاد المبتسمة مع ذكرياتها التي حملتها مع أهالي المنطقة الذين أحسنوا ضيافتهم – وعلى طريقتهم الخاصة حسبما ما سمعنا وما قالت رحمها الله – خلال مهرجان المسرح الوطني الحادي عشر الذي أقيم هناك ، ووجدنا لدى دخولنا هناك أن جل الاستراحات الجيدة كانت مغلقة ، ففضلنا مواصلة المسير حتى نصل درنة ، وفور ولوجنا ( للعقبة ) وطريقها الملتوية اتضحت سرعة سائقنا وقلة خبرته بتلك الطريق سامحه الله .. فبينما كان ملك الموت يدنو من السماء الدنيا .. ليدعو شهيدين عزيزين على قلبي .. والله ، اتسمت نظراتنا مع الصمت الذي خيم على ثنايا السيارة بالانبهار بالأضواء الخلابة التي نراها في كل تجمع سكني في تلك الوديان العميقة كعمق حسرتي عليهم ، رجعت إلى هاتفي وحاولت لدى رؤيتي لأضواء مدينة سوسة التي تسر الناظرين إلقاء سلام آخر لمن يعرف نفسه جيدا !! .. غير أني صرت مشدوها حين دخولنا لمنعطف النحس بالسرعة المجنونة وانعدام الخبرة بأصوات الشهيدين تعلو .. يا ساتر .. يا ساتر .. يا ساتر .. من كليهما ، فلم أجدني إلا مرددا معهم الجملة ذاتها .. ودست برجلي على أرضية السيارة وعلقت نظري على الطريق المقابل .. فلم أكن خائفا من أن ننقلب بالسيارة بقدر خوفي من التصادم مع سيارة مقابلة .. إلا أن الطريق كانت سوداء كليلتي تلك وفارغة من أية سيارة .. وليس كما سمعت في رواية السائق الذي قال بأن السيارة المقابلة ضوؤها ليزري .. ونسي بأني في الحادثة لم يُغْم عليّ ، كل هذا كان في ثوان معدودة .. وأصوات عجلات السيارة ترتفع مع المكابح .. حتى وصلت إلى مجرى مياه أمطار حفر بجانب الجبل المقسوم لنصفين لصنع ذلك المنعطف اللعين .. تشبث المجرى بعجلتي الجانب الأيسر والذي كان يجلس به السائق ، ومن خلفه الشهيد صلاح .. وارتفعت الجهة اليمنى لترتطم بالجدار الجبلي وتنقلب رأسا على عقب .. حينها فقط انقطعت كلمة .. يا ساتر .. وارتفعت الآهات .. فعند انقلاب السيارة كنت قد وقعت على مقود السيارة الذي تشف من ضلوعي ليرجعني بعد ذلك للسقف الذي انطبق على مقعدي ليعانق ظهري على طريقته الخاصة هو الآخر .. السائق سألني ( شنو فيك ؟! ) فطمأنته عن حالتي وأحلته على من كانا خلفي للاطمئنان عليهما لعدم قدرتي على الالتفات للخلف ، أمدني بجهازي الخليوي الذي وقع وترجل من السيارة لينزلني بعدها جمهور من الناس توقفوا خلفنا .. وكأن الله أنزلهم من السماء .. سمعت حينها الشهيد صلاح يسأل ( الجماعة ؟!.. الجماعة؟! ) ، قلت للسائق بأن يطمئنه بعد أن أجلسوني في مقعد خلفي لسيارة عتيقة (مرسيدس 200) وأمامي السائق .. ووسدوا برجلي رأس الشهيدة سعاد في حين كانت رجلاها ممددتين على بقية المقعد .. سألني السائق مجددا بعد أن وضعت يدي على صدري باحثا عن متنفس أو نافذة مشرعة : ( كيف حالك توا .. نعطيك سبسي !!! ) .. فهو مازال في فزع شديد .. شعرت برجلي تسخن شيئا فشيئا وازدادت حالة ضيق التنفس التي انتابتني .. وكنت أقاوم بأن لا يغمى عليّ ، سمعت ( نخطة ) واحدة من الشهيدة سعاد .. ولم أجرؤ على النظر إليها .. حتى وصلنا بوابة الخروج من شحات ، انعطف مسعفنا يمينا وهو مسرع ليجد نفسه هو الآخر مرتطما بشاحنة على يمين الطريق .. ولم يتوقف وآثر المسير للإسعاف .. من شدة الصدمة الثانية التقطت -بصعوبة- نفساً جعلني أتشجع لألتفت للشهيدة سعاد وأرفع يدها وأبحث عن النبض من وريدها .. إلا أن محاولتي باءت بالفشل .. رفعت بالأخرى .. وكررت المحاولة .. لم أجد نبضا على الإطلاق .. وعندما تركتها سقطت على الفور .. قررت أن ألمس وريد رقبتها محاولا استرجاع ما تعلمته في كلية الطب!.. وعندما كشفت المعطف الذي كانت تلبسه والذي غطّيت به عند الإسعاف .. وجدت بأن الوجه مشوه تماما.. لدرجة أن دماغها يتّضح للعيان .. صرخت على الفور .. وتهسترت ..وعرفت أن سخونة رجلي كانت من دمائها الزكية ، وأرجعت الغطاء على وجهها الطاهر .. وتساءلت على الفور بعد شعوري بموتها (كيف صار في صلاح ؟! .. كيف صار في صلاح ؟! ) .. فأجابني السائق بأنه في سيارة أخرى خلفنا .. وتذكرت بأنه ترجل ليركب سيارة أخرى حينما كان يسأل عن حالنا .. لجأت إلى الله .. ودعوته كثيرا .. حتى وصلنا إلى شارع (الصديق بودوارة) الذي لتأخر الوقت لم نرد أن نمر عليه في طريقنا .. ولكنه سهر معنا حتى الصباح !! ، وجدت هاتفي في جيبي فور وصولي لمستشفى الثورة الحميم .. حينما ترجلت من السيارة وتوجهت للإسعاف لوحدي دون مساعدة من مسعف أو من غيره ، تفاجأوا بالدماء التي كانت على رجلي اليسرى .. أخرجت الهاتف من جيبي وطمأنتهم بأن الدماء ليست مني .. واتصلت ب ( يحيى ) ابن عمي الذي جاءني على الفور من عمله وهو بملابس الشرطة ومعه بعض من زملائه .. نقلت إلى قسم التصوير ومن ثم إلى العناية المركزة ، ووضعت تحت التنفس الاصطناعي ، أعطيت ل (حيى) الهاتف وأخبرته بألا يخبر أحدا سوى مجموعة العمل وقلت له بأن ينبه عليهم ألا يخبروا أهلي .. وتوالت الأسئلة علي ّ .. ما اسمك ؟ .. أين تعمل ؟ .. من الذين معك ؟ .. أجبتهم عن اسمي ومكان عملي وقلت لهم عن اسم الشهيدة سعاد .. تغيّرت عليّ الوجوه وتكرر السؤال عن اسم سعاد وعن أي رقم يمكنهم الاتصال عن طريقه بأهلها .. حوالي سبعة أشخاص سألوني السؤال نفسه وأنا أجاوبهم ، وأسألهم سؤالا واحدا .. ما الذي حدث لها ؟!.. كانوا يجيبونني بأنها على ما يرام وأنها بقسم النساء عندما طلبت رؤيتها .. اطمأننت قليلا .. وسألت عن صلاح .. فقال لي ( يحيى ) : ( كويس .. تمام .. فيه شوية كسور .. وقاعد فالقسم الآخر .. ) أغلق عليّ باب العناية المركزة وازدادت حالتي سوءا مع الألم .. تجمع عليّ الأطباء .. وخفت .. وخافوا أن يكون نزيفا غير ظاهري بقلبي .. وجهاز تصوير الأشعة المقطعية معطل .. وبحقنة مهدئة انهمرت في النوم حتى استيقظ الصباح ، وأيقظني بألم معه .. انهالت علي الاتصالات .. وتجمع علي الأحباء .. الصدّيق .. يحيى .. وأقارب وأصدقاء .. وأنا أتساءل عن حالتي الشهيدين .. طمأنوني – كذبا – عن سعاد .. وقال لي الأستاذ الصدّيق إن أهل (صلاح ) فضلوا نقله إلى بنغازي لإجراء تدخل جراحي له هناك .. ولكن حالته جيدة. اتصل بي بعدها رئيس التحرير الذي كان مذهولا .. وأول ما سأل عنه عن كيفية ذهاب الشهيدة سعاد؟!! .. ومن ثم اطمأن عن حالتي .. حينها فقط ساورني الخوف ولم يلبث قليلا حتى اتصل بي شقيقي (صلاح ) واطمأن عن حالتي بعد أن سهر ليلته كلها حينما شعر بأن موظفي الصحيفة يخفون عنه شيئا .. وسأل مباشرة .. (كيف ماتت سعاد ؟ ) .. سقط الهاتف من يدي .. وتقاطرت الدموع .. وازدادت حدة الآلام .. ودخلت في مرحلة الانهيار العصبي .. ولعل الأستاذ ( الصديق بودوارة ) صوّر بمقالته التي كتبها بعد الحادثة مباشرة ( ليلة الأنين ) الحالة التي كنت فيها .. وما حدث لنا في الليلة تلك. طلبت منهم بأن أنقل إلى بنغازي لأكون بجانب أهلي هناك .. وتكفل صديقي ( مفتاح بوزيد ) بتأمين سيارة إسعاف لي ..تحصلت على تحويل من أطباء مستشفى ( الثورة ) الودودين .. حينها وصل شقيقي محمد في ساعة من الزمن واطمأن عليّ .. وعلى وجهه علامات الفزع .. غادر المكان بعد أن سأل عن السائق .. وتوجه لإتمام إجراءات التحقيق واستلام الأمانات .. التي قد استلمها آل الشهيدة سعاد .. ووضعوني في سيارة الإسعاف ذات الفراش الهزيل .. والتي آلمت رضوض ظهري بكل مطب تقع فيه في تلك الطريق المليئة بالمطبات .. وعلى أعتاب بنغازي طلبت من ( يحيى ) الذي رافقني .. بأن نمر على منزلنا ليتمكن أهلي من رؤيتي قبل أن نذهب إلى المستشفى .. وصلنا بيتنا وفتحت أبواب الإسعاف .. ووجدت أمي تبكي قائلة : ( تي كنّا العيل امدّد ؟! ) .. طمأنتها عن حالي .. ودخلت البيت ورفضت الذهاب إلى المشفى .. امتلأ المنزل بالزوار .. وشدة الألم ضيعت عني طعم الليل والنهار .. أُجريت للشهيد صلاح عملية جراحية .. ودخل في غيبوبة ليست عميقة كما قيل لي ، فنمت ليلتي تلك .. والليلة التي من بعدها لم تذق عيناي للنوم طعما .. لم أطمئن عن حال صلاح .. سهرت حتى الصباح .. إلى أن زارني رئيس التحرير ( د . رمضان البريكي ) وأكد لي سوء حالة الشهيد صلاح مثلما أكدها لي مدير التحرير الأستاذ ( علي جابر) من قبله .. غادر الدكتور رمضان للصلاة .. وعاد إخوتي منها .. وبعد تناول الغداء .. توجه شقيقاي ( عبد الله وصلاح ) إلى المشفى للاطمئنان على حالة الشهيد صلاح .. استلقى بجانبي محمد أخي .. ووصل اتصال على هاتفه من ( عبدالله ) الذي صُدم عندما وجد أني كنت من رد عليه .. طلب محمد .. فقلت له إنه نائم .. أغلق على الفور .. استيقظ محمد واتصل به مباشرة .. لم يقل شيئا بقدر ما كان يستمع .. وبعد تغير ملامح وجهه ..وقف ودخل إلى صالة البيت . لحظات قليلة .. وقلبي ينقبض .. دخلت عليّ أمي قائلة : (إبراهيم .. عظّم الله أجرك في صاحبك.. ياريتني ما شفته ) .. وغمرتني وانهمرنا في البكاء .. أصبت بانهيار شديد .. وصدمة هائلة.. آه .. ما أصعب الفراق! ..خاصة وإن كانت الفاجعة بإخوة كهؤلاء .. يعجز حقا اللسان عن وصف حالة مثل تلك .. يخيم السواد فعلا على القلب .. وتحجب عن رؤيتك للكون غشاوة سوداء .. تستذكر حينها فقط .. في ثنايا مكتب الشهيد صلاح الذي لم ولن أدخله مرة أخرى .. تلك (اللمة الحلوة) حوله .. وفنجان القهوة المسائي الذي أشربه سوية والشهيدة سعاد .. تتقطع أوصال القلب .. وتلتهب المشاعر حرقة وحنينا .. لأن أرى وجوههم الزكيّة مجددا .. وفي أطلال اعتدنا الجلوس فيها سويا .. أجلس انتظارا لعودتهم .. كي يملأوا مكاننا الذي اعتدنا الجلوس فيه بتلك الابتسامة العزيزة على قلبي ..ولن يعودوا .. ماذا تراني سأفعل من دونهم ؟.. وأنا لا أملك إلا أن أقول .. ولكنها الأقدار ليس بنافع فيها سوى التسليم والإخلاد و{إنا لله وإنا إليه راجعون}. القصة الكاملة للحادثة التي تعرض لها الفريق الصحفي بصحيفة قورينا أثناء لحاقهم بقافلة "شريان الحياة" المتجهة إلى غزة .. بتاريخ 2009/3/3. بقلم:براهيم هدية |
التعليقات (0)