مواضيع اليوم

في وداع الشهيد صلاح نجم- مقال للصحفي الليبيى ابراهيم هدية

nasser damaj

2009-05-20 10:50:32

0

‮ ‬وداعاً‮ .. ‬أخويّ‮ ‬
صجيفة قورينا الليببية
smoke
ابراهيم هديه

حقا انكسرت ضلوعي‮ ‬وانسكب ما تحويه بداخلها من حسرة‮ ‬،‮ ‬فهول المصاب جمر‮ ‬يذيب أحشائي‮ ‬،‮ ‬ويستل الروح كالشوك تباعا من شراييني‮.‬

انتظرنا بفارغ‮ ‬الصبر مرور قافلة شريان الحياة المتجهة لغزة عبر مدينة بنغازي‮ .. ‬وتأسفنا حينما علمنا بنبأ تغييرها لخط سيرها صوب الطريق الصحراوي‮ ‬باتجاه آخر محطة لها داخل الأراضي‮ ‬الليبية وهي‮ ‬مدينة طبرق‮ .‬
‮ ‬عند منتصف النهار‮ .. ‬ووسط سكون الجميع في‮ ‬خلية قورينا‮ ‬،‮ ‬أبلغنا بتغيير وجهة الرحلة‮ .. ‬تسلم الشهيد النثرية المالية لكلينا‮ ‬،‮ ‬وأشرت له بالذهاب لتصريف بعضها بالعملة الصعبة‮.. ‬كفراقه‮ ‬،‮ ‬بينما أتمُّ‮ ‬أنا ما تبقى لي‮ ‬من عمل لم أنجزه في‮ ‬الصحيفة‮.‬
طلبت منه أن‮ ‬يستقل معي‮ ‬سيارتي‮ ‬لنذهب سويا إلى السوق‮ ..‬ونحضر بعض النواقص والحاجيات‮ ‬،‮ ‬لكنه أبدى رأياً‮ ‬مخالفاً‮ : ( ‬لالالا‮ .. ‬خلينا ناخذوا ادبشي‮ ‬قبل‮ .. ‬معش نبي‮ ‬انجيها الشقة‮ ) ‬،‮ ‬وتحت إصرار منه أغلقت نوافذ السيارة‮ ..‬وأوصدتها وحللت معه في‮ ‬شقته‮ ‬،‮ ‬وفور دخولنا لها تذكر بأنه جائع‮ ‬،‮ ‬ووجد بأن زوجته قد أعدت له الطعام الذي‮ ‬لم تأكل منه لكونها كانت مريضة‮ ‬،‮ ‬تناول ملعقتين بالعدد‮ ‬،‮ ‬وأطبق الغطاء على الصحن‮ ‬،ووضعه في‮ ‬الثلاجة‮ ‬،‮ ‬وردد تمتمته المعهودة‮ ( ‬هه ؟‮! ‬هه ؟‮!) ‬،‮ ‬جلب حقيبة سفره وأتم رصّ‮ ‬حاجياته فيها مذكرا نفسه‮ ( ‬ما نسيتش شي‮ ‬يا صلاح ؟ ما نسيتش شي‮ ‬يا صلاح ؟‮ ) ‬،‮ ‬وكلما‮ ‬يردد هذه العبارة‮ ‬يجد أنه قد نسي‮ ‬شيئا‮ ‬،‮ ‬يقوم على الفور بجلبه ووضعه في‮ ‬تلك الحقيبة الجلدية السوداء التي‮ ‬أغراني‮ ‬بشراء شبيهتها‮ ‬،وكان من بين ما نسيه‮ .. ‬هو أن‮ ‬يصلي‮ ‬العصر حيث توضأ على الفور‮ .. ‬وصلاه‮ ‬– كان لا‮ ‬يفوّت فرضا حتى في‮ ‬أحلك الظروف‮ - ‬وعندما أتم تحميل أشيائه طلبت منه المغادرة‮ .. ‬غير أن ملك الموت أعطى له الفرصة هذه المرة في‮ ‬أن‮ ‬يودع شقته حجرة‮ .. ‬حجرة‮ ‬،‮ ‬وشبرا‮.. ‬شبرا‮ ‬،‮ ‬فبينما نحن خارجون منها طلب مني‮ ‬العودة لإلقاء نظرة على التصاميم التي‮ ‬أضفاها عليها‮ ‬،‮ ‬قائلا لي‮ : ‬هذه‮ ‬غرفتي‮ ‬،‮ ‬وهذه‮ ‬غرفة‮ (‬البنيات‮) ‬هبة وعائشة‮.. ‬وهذه‮ ‬غرفة الجلوس‮.. ‬وهذا الحمام‮ ..‬وهذا المطبخ،‮ ‬تاركا مكانا واحدا فقط لم‮ ‬يطلعني‮ ‬عليه وهو الصالة التي‮ ‬كنت جالسا بها،‮ ‬وبعد أن كحل عينيه بالنظر إلى شقته التي‮ ‬بكل تأكيد‮ ‬يحمل كل شبر فيها ذكريات عبقة صحبة أسرته الكريمة،‮ ‬سبقته في‮ ‬الخروج من الشقة وسمعت له تمتمات،‮ ‬حينما ركزت عليها وجدت بأنه‮ ‬يرمي‮ ‬السلام على جدران الشقة‮ ( ‬أوكي‮ .. ‬بالسلامة توا‮) ‬،‮ ‬وكأن هناك أحدا بالداخل‮ !! ‬،‮ ‬تبسمت وهززت برأسي‮ ‬ظنا مني‮ ‬بأن تلك التصرفات ما هي‮ ‬إلا مداعبة لي،‮ ‬ولكنها كانت على العكس تماما‮ !! ‬
كان‮ ‬يودع مكانه الأثير إلى قلبه‮ ‬،‮ ‬وهل نحن إلا أمكنة تسكن أهلها‮ !‬
حينما شرعنا في‮ ‬النزول من سلالم العمارة تلقينا مكالمة الشهيدة سعاد على هاتفي،‮ ‬كانت تجهش بالبكاء حينها‮ ( ‬نبي‮ ‬نمشي‮ .. ‬أصرف‮ .. ‬ديرلي‮ ‬حل‮ ) ‬،‮ ‬طلبت منها مهاتفة رئيس التحرير لأخذ الإذن منه،‮ ‬إلا أن رئيس التحرير أخبرها عن شدة الإجراءات والموافقات الأمنية التي‮ ‬كان قد أتمها قبل ما‮ ‬يقارب الأسبوع من الحادثة،‮ ‬أعادت الاتصال بنا بينما نحن في‮ ‬السيارة ونستعد للذهاب للسوق‮ ‬،‮ ‬وقد ازداد بكاؤها وقالت‮ : ( ‬تعرف‮ ‬يابراهيم‮ .. ‬أنا لو كان ما نمشيش‮ .. ‬تهايالي‮ ‬أنموت‮ .. ‬أنت عارف أني‮ ‬نبي‮ ‬المشية من زمان‮ ) ‬،‮ ‬هديت من روعها وقلت لها‮ ( ‬ساهل‮ .. ‬ساهل‮ .. ‬ح تمشي‮ ‬المرة الجاية‮ ) .‬
لعمرك إن الموت لمولع
بمن كان‮ ‬يرجى نفعه ونوافله
‮ ‬انطلقنا أنا والشهيد إلى السوق‮ ‬،‮ ‬وعند محاولتنا لاختراق زحامه تلقينا الاتصال الأخير من الشهيدة وقالت بأنها أجرت اتصالا بأحد المشرفين على القافلة،‮ ‬وأنه طلب منها التنسيق معي‮ ‬و صلاح،‮ ‬وقالت بأنها ستغامر بالذهاب معنا على الأقل إلى‮ ( ‬طبرق‮)‬،‮ ‬ربما تتيسر الأمور هناك وسترافقنا إلى قطاع العزة،‮ ‬واتفقنا أننا عندما نتم أمورنا سنلتقي‮ ‬ونذهب مع بعضنا البعض،‮ ‬دخلنا السوق،‮ ‬وتوجهنا لشراء كاسيتات جهاز التسجيل و حقيبة،‮ ‬وعندما كنا ندخل إلى المحل ونتم الشراء كنت أطلب من البائع إعداد فاتورة‮ ‬،‮ ‬وصلاح‮ ‬يقول لي‮ ( ‬مش ح نستحقلها‮ ) ‬،‮ ‬هل كان‮ ‬يهجس بما سوف‮ ‬يحدث‮ .. ‬ربما‮ .. ‬وهل ثمة من‮ ‬يدري‮ ‬؟‮ ‬
اتجهنا صوب المحطة،‮ ‬كان الظلام قد خيم على المكان مؤذنا بالفاجعة،‮ ‬وازدحمت طريق الفندق البلدي‮ ‬بالخارجين منه،‮ ‬وكنا في‮ ‬حيرة إزاء نوعية السيارة التي‮ ‬سنستقلها،‮ ‬الشهيد صلاح قال‮ : ( ‬وحدة‮ .. ‬وحدة‮ .. ‬أنا توا انوازيلكم سيارة‮ .. ‬فكونا من ها اللي‮ ‬يجاروا‮ .. ‬لأني‮ ‬أنا ويّاهم مش أصحاب‮ ) ‬اختار لنا السيارة‮ ‬،‮ ‬وسائقها كذلك ثم عرّف الشهيد صلاح بصوت عال للسائق‮ ( ‬اللي‮ ‬معاك‮ .. ‬سعاد بوشيبة‮ .. ‬صحفية‮ ‬،‮ ‬صلاح نجم‮ .. ‬مصور صحفي‮ ‬،‮ ‬إبراهيم هدية‮ .. ‬رئيس قسم الأخبار والشؤون السياسية‮ .. ‬وكلنا‮ ‬من صحيفة قورينا‮)‬،‮ ‬ضحكنا جميعا‮ ‬وكان ضحكاَ‮ ‬كالبكاء‮ .‬
اقتربت ساعة الرحيل‮ .. ‬ودنا ملك الموت من السماء الدنيا‮ ‬،‮ ‬ووضع عينيه على من اختارهم الله للشهادة‮ ‬،‮ ‬واقتربت تباعا رحلة مأساتي‮ ‬،‮ ‬فبعد أن سلكت السيارة‮ ‬طريق‮ ( ‬المرج‮) ‬،‮ ‬انقبض قلبي‮ ‬وضاقت بي‮ ‬الدنيا لدرجة أنني‮ ‬بعثت برسائل وداع للبعض‮ .. ‬وهم‮ ‬يعرفون محتوى تلك الإشارات جيدا‮ ‬،‮ ‬كان فيها نوع من اللوم والعتاب والوداع في‮ ‬آن واحد‮ ‬،‮ ‬ظننت في‮ ‬بعضها بأن الله سيختارني‮ ‬للشهادة‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬حين كتابتي‮ ‬لها وانشغالي‮ ‬عن رفاقي‮ ‬الشهداء‮ ‬،‮ ‬كانوا‮ ‬– رحمة الله عليهم‮ ‬– يمازحونني‮ ‬بأن أترك الهاتف ومن أراسله لأنتبه لأحاديثهم وأشارك فيها‮ ‬،‮ ‬بيد أني‮ ‬كنت مشدوها بكل جوارحي‮ ‬فيما أردت كتابته لمن كاتبت‮ ‬،‮ ‬وتوالى المزاح فيما بعد ذلك على الشهيدة‮ (‬سعاد‮) ‬،‮ ‬التي‮ ‬ما انفكت اتصالات أهلها‮ -‬الخائفين عليها‮- ‬بها‮ ‬،‮ ‬والتي‮ ‬كانت تطمئنهم بأنها صحبة إخوة لها‮ .. ‬وعلى أطلال مدينة المرج تحدث الشهيد صلاح لنا‮ ‬يعرّف المدينة‮ ‬،‮ ‬ويصف منازل أصدقاء له هناك‮ .. ‬وفيما كان‮ ‬يتحدث إلينا الشهيد كنا قد ولجنا المرج الأخضر ووصلنا إلى بوابة الخروج منه‮ .. ‬طلبت من السائق الانعطاف‮ ‬يمينا صوب‮ (‬تاكنس‮ ) ‬ليأخذ بنا الطريق الصحراوي‮ ‬المؤدي‮ (‬لطبرق‮) ‬،‮ ‬أصر السائق‮ ‬– سامحه الله‮ ‬– على أن‮ ‬يمضي‮ ‬قدما في‮ ‬اتجاه مدينة‮ ( ‬البيضاء‮) ‬قائلا‮ : ‬إن الطريق الصحراوي‮ ‬ممل‮ ‬،‮ ‬وفيما نصحناه كثيرا‮ .. ‬توقفت عن الإصرار عليه بأن‮ ‬يسلك طريق الصحراء خيفة أن نصاب بما أصبنا به‮ .. ‬وليتني‮ ‬أصررت‮ .‬
‮ ‬إذا ما حمام المرء كان ببلدة‮ ‬
دعته إليها حاجة فيطير
هدأت سرعة سائقنا فور دخولنا لمدينة البيضاء‮ .. ‬بعد أن‮ ‬غمرنا هواء جبلها الأشم‮ ‬،‮ ‬مررنا بشارع‮ ( ‬الثورة‮ ) ‬وأشرت لهم على منزل الأستاذ‮ ( ‬الصديق بودوارة‮ ) ‬مدير تحرير قورينا السابق‮ ‬،‮ ‬اندهشت الشهيدة‮ ( ‬سعاد‮ ) .. ‬فهي‮ ‬كانت تظن أن‮ ( ‬الصديق‮ ) ‬من مدينة‮ ( ‬درنة‮ ) ‬،‮ ‬وطلبت منا أن نمر عليه أو نهاتفه بعد أن نفينا‮ ‬– أنا والشهيد‮ ‬– لها أن سكناه‮ ( ‬بدرنة‮ ) ‬مكتفين بأن صححنا لها المعلومة قائلين إنه‮ ‬يحاضر في‮ ‬جامعة درنة فقط‮ ‬،‮ ‬عادت ابتسامة الشهيد صلاح لتغمر المكان مجددا حين تحدث عن إعجابه بما‮ ‬يكتبه الأستاذ‮ ( ‬الصديق‮ ) ‬في‮ ‬زاوية‮ ( ‬صورة وتعليق‮ ) ‬واختار من مخيلته صورة‮ .. ‬واستقى منها كلمات جدا مضحكة‮ ‬،‮ ‬وعندما انتهى‮ .. ‬قال‮ : ( ‬تي‮ ‬صقع علينا‮) .‬
ونحن نمر بشارع البيضاء الرئيسي‮ .. ‬تساءلوا إن كنا سنقف في‮ ‬إحدى الاستراحات إن كنا جائعين‮ .. ‬ولم نجد أيّا منا جائعا‮ ‬،‮ ‬وفضلنا المواصلة عن الوقوف‮ ‬،‮ ‬إلا أن الشهيد صلاح‮ .. ‬تحدث طالبا الوقوف لأداء صلاتي‮ ‬المغرب والعشاء بحكم أنه محتفظ بوضوئه‮ ‬،‮ ‬فقلنا له‮ : ( ‬أمسك روحك شويا‮ .. ‬تو بعد البيضاء اندرسوا بالمرة‮ ) ‬،‮ ‬وافق على ما قلناه‮ .. ‬ومضينا قدما حتى وصلنا إلى مفترق طرق مدينة‮ ( ‬شحات‮) ‬،‮ ‬وكنا إن توجهنا إلى الأمام سنصل إلى مدينة درنة مرورا بالقبة‮ .. ‬وهذا ما أصررت على أن‮ ‬يتخذه‮ .. ‬ولكن إصراري‮ ‬اضمحل لرغبة السائق بأن‮ ‬ينعطف شمالا ويتجه لدرنة عبر‮ ‬شحات‮ ‬وسوسة‮ ‬،‮ ‬وافقته الرأي‮ ‬لخوفي‮ ‬من أن‮ ‬يحدث مكروه‮ .. ‬وحدث‮.‬
لابد من فقد ومن فاقد
‮ ‬هيهات ما في‮ ‬الناس من خالد
انعطف شمالا‮ .. ‬وظللتنا أشجار شحات‮ ‬،‮ ‬وودّ‮ ‬الشهيدة سعاد المبتسمة مع ذكرياتها التي‮ ‬حملتها مع أهالي‮ ‬المنطقة الذين أحسنوا ضيافتهم‮ ‬– وعلى طريقتهم الخاصة حسبما ما سمعنا وما قالت رحمها الله‮ ‬– خلال مهرجان المسرح الوطني‮ ‬الحادي‮ ‬عشر الذي‮ ‬أقيم هناك‮ ‬،‮ ‬ووجدنا لدى دخولنا هناك أن جل الاستراحات الجيدة كانت مغلقة‮ ‬،‮ ‬ففضلنا مواصلة المسير حتى نصل درنة‮ ‬،‮ ‬وفور ولوجنا‮ ( ‬للعقبة‮ ) ‬وطريقها الملتوية اتضحت سرعة سائقنا وقلة خبرته بتلك الطريق سامحه الله‮ .. ‬فبينما كان ملك الموت‮ ‬يدنو من السماء الدنيا‮ .. ‬ليدعو شهيدين عزيزين على قلبي‮ .. ‬والله‮ ‬،‮ ‬اتسمت نظراتنا مع الصمت الذي‮ ‬خيم على ثنايا السيارة بالانبهار بالأضواء الخلابة التي‮ ‬نراها في‮ ‬كل تجمع سكني‮ ‬في‮ ‬تلك الوديان العميقة كعمق حسرتي‮ ‬عليهم‮ ‬،‮ ‬رجعت إلى هاتفي‮ ‬وحاولت لدى رؤيتي‮ ‬لأضواء مدينة سوسة التي‮ ‬تسر الناظرين إلقاء سلام آخر لمن‮ ‬يعرف نفسه جيدا‮ !! .. ‬غير أني‮ ‬صرت مشدوها حين دخولنا لمنعطف النحس بالسرعة المجنونة وانعدام الخبرة بأصوات الشهيدين تعلو‮ .. ‬يا ساتر‮ .. ‬يا ساتر‮ .. ‬يا ساتر‮ .. ‬من كليهما‮ ‬،‮ ‬فلم أجدني‮ ‬إلا مرددا معهم الجملة ذاتها‮ .. ‬ودست برجلي‮ ‬على أرضية السيارة وعلقت نظري‮ ‬على الطريق المقابل‮ .. ‬فلم أكن خائفا من أن ننقلب بالسيارة بقدر خوفي‮ ‬من التصادم مع سيارة مقابلة‮ .. ‬إلا أن الطريق كانت سوداء كليلتي‮ ‬تلك وفارغة من أية سيارة‮ .. ‬وليس كما سمعت في‮ ‬رواية السائق الذي‮ ‬قال بأن السيارة المقابلة ضوؤها ليزري‮ .. ‬ونسي‮ ‬بأني‮ ‬في‮ ‬الحادثة لم‮ ‬يُغْم عليّ‮ ‬،‮ ‬كل هذا كان في‮ ‬ثوان معدودة‮ .. ‬وأصوات عجلات السيارة ترتفع مع المكابح‮ .. ‬حتى وصلت إلى مجرى مياه أمطار حفر بجانب الجبل المقسوم لنصفين لصنع ذلك المنعطف اللعين‮ .. ‬تشبث المجرى بعجلتي‮ ‬الجانب الأيسر والذي‮ ‬كان‮ ‬يجلس به السائق‮ ‬،‮ ‬ومن خلفه الشهيد صلاح‮ .. ‬وارتفعت الجهة اليمنى لترتطم بالجدار الجبلي‮ ‬وتنقلب رأسا على عقب‮ .. ‬حينها فقط انقطعت كلمة‮ .. ‬يا ساتر‮ .. ‬وارتفعت الآهات‮ .. ‬فعند انقلاب السيارة كنت قد وقعت على مقود السيارة الذي‮ ‬تشف من ضلوعي‮ ‬ليرجعني‮ ‬بعد ذلك للسقف الذي‮ ‬انطبق على مقعدي‮ ‬ليعانق ظهري‮ ‬على طريقته الخاصة هو الآخر‮ .. ‬السائق سألني‮ ( ‬شنو فيك ؟‮! ) ‬فطمأنته عن حالتي‮ ‬وأحلته على من كانا خلفي‮ ‬للاطمئنان عليهما لعدم قدرتي‮ ‬على الالتفات للخلف‮ ‬،‮ ‬أمدني‮ ‬بجهازي‮ ‬الخليوي‮ ‬الذي‮ ‬وقع وترجل من السيارة لينزلني‮ ‬بعدها جمهور من الناس توقفوا خلفنا‮ .. ‬وكأن الله أنزلهم من السماء‮ .. ‬سمعت حينها الشهيد صلاح‮ ‬يسأل‮ ( ‬الجماعة ؟‮!.. ‬الجماعة؟‮! ) ‬،‮ ‬قلت للسائق بأن‮ ‬يطمئنه بعد أن أجلسوني‮ ‬في‮ ‬مقعد خلفي‮ ‬لسيارة عتيقة‮ (‬مرسيدس‮ ‬200‮) ‬ وأمامي‮ ‬السائق‮ .. ‬ووسدوا برجلي‮ ‬رأس الشهيدة سعاد في‮ ‬حين كانت رجلاها ممددتين على بقية المقعد‮ .. ‬سألني‮ ‬السائق مجددا بعد أن وضعت‮ ‬يدي‮ ‬على صدري‮ ‬باحثا عن متنفس أو نافذة مشرعة‮ : ( ‬كيف حالك توا‮ .. ‬نعطيك سبسي‮ !!! ) .. ‬فهو‮ ‬مازال في‮ ‬فزع شديد‮ .. ‬شعرت برجلي‮ ‬تسخن شيئا فشيئا وازدادت حالة ضيق التنفس التي‮ ‬انتابتني‮ .. ‬وكنت أقاوم بأن لا‮ ‬يغمى عليّ‮ ‬،‮ ‬سمعت‮ ( ‬نخطة‮ ) ‬واحدة من الشهيدة سعاد‮ .. ‬ولم أجرؤ على النظر إليها‮ .. ‬حتى وصلنا بوابة الخروج من شحات‮ ‬،‮ ‬انعطف مسعفنا‮ ‬يمينا وهو مسرع ليجد نفسه هو الآخر مرتطما بشاحنة على‮ ‬يمين الطريق‮ .. ‬ولم‮ ‬يتوقف وآثر المسير للإسعاف‮ .. ‬من شدة الصدمة الثانية التقطت‮ -‬بصعوبة‮- ‬نفساً‮ ‬جعلني‮ ‬أتشجع لألتفت للشهيدة سعاد وأرفع‮ ‬يدها وأبحث عن النبض من وريدها‮ .. ‬إلا أن محاولتي‮ ‬باءت بالفشل‮ .. ‬رفعت بالأخرى‮ .. ‬وكررت المحاولة‮ .. ‬لم أجد نبضا على الإطلاق‮ .. ‬وعندما تركتها سقطت على الفور‮ .. ‬قررت أن ألمس وريد رقبتها محاولا استرجاع ما تعلمته في‮ ‬كلية الطب‮!.. ‬وعندما كشفت المعطف الذي‮ ‬كانت تلبسه والذي‮ ‬غطّيت به عند الإسعاف‮ .. ‬وجدت بأن الوجه مشوه تماما‮.. ‬لدرجة أن دماغها‮ ‬يتّضح للعيان‮ .. ‬صرخت على الفور‮ .. ‬وتهسترت‮ ..‬وعرفت أن سخونة رجلي‮ ‬كانت من دمائها الزكية‮ ‬،‮ ‬وأرجعت الغطاء على وجهها الطاهر‮ .. ‬وتساءلت على الفور بعد شعوري‮ ‬بموتها‮ (‬كيف صار في‮ ‬صلاح ؟‮! .. ‬كيف صار في‮ ‬صلاح ؟‮! ) .. ‬فأجابني‮ ‬السائق بأنه في‮ ‬سيارة أخرى خلفنا‮ .. ‬وتذكرت بأنه ترجل ليركب سيارة أخرى حينما كان‮ ‬يسأل عن حالنا‮ .. ‬
لجأت إلى الله‮ .. ‬ودعوته كثيرا‮ .. ‬حتى وصلنا إلى شارع‮ (‬الصديق بودوارة‮) ‬الذي‮ ‬لتأخر الوقت لم نرد أن نمر عليه في‮ ‬طريقنا‮ .. ‬ولكنه سهر معنا حتى الصباح‮ !! ‬،‮ ‬وجدت هاتفي‮ ‬في‮ ‬جيبي‮ ‬فور وصولي‮ ‬لمستشفى الثورة الحميم‮ .. ‬حينما ترجلت من السيارة وتوجهت للإسعاف لوحدي‮ ‬دون مساعدة من مسعف أو من‮ ‬غيره‮ ‬،‮ ‬تفاجأوا بالدماء التي‮ ‬كانت على رجلي‮ ‬اليسرى‮ .. ‬أخرجت الهاتف من جيبي‮ ‬وطمأنتهم بأن الدماء ليست مني‮ .. ‬واتصلت ب‮ ( ‬يحيى‮ ) ‬ابن عمي‮ ‬الذي‮ ‬جاءني‮ ‬على الفور من عمله وهو بملابس الشرطة ومعه بعض من زملائه‮ ..‬‮ ‬نقلت إلى قسم التصوير ومن ثم إلى العناية المركزة‮ ‬،‮ ‬ووضعت تحت التنفس الاصطناعي‮ ‬،‮ ‬أعطيت ل‮ (‬حيى‮) ‬الهاتف وأخبرته بألا‮ ‬يخبر أحدا‮ ‬سوى مجموعة العمل وقلت له بأن‮ ‬ينبه عليهم ألا‮ ‬يخبروا أهلي‮ .. ‬وتوالت الأسئلة علي‮ ‬ّ‮ .. ‬ما اسمك ؟‮ .. ‬أين تعمل ؟‮ .. ‬من الذين معك ؟‮ .. ‬أجبتهم عن اسمي‮ ‬ومكان عملي‮ ‬وقلت لهم عن اسم الشهيدة سعاد‮ .. ‬تغيّرت عليّ‮ ‬الوجوه وتكرر السؤال عن اسم سعاد وعن أي‮ ‬رقم‮ ‬يمكنهم الاتصال عن طريقه بأهلها‮ .. ‬حوالي‮ ‬سبعة أشخاص سألوني‮ ‬السؤال نفسه وأنا أجاوبهم‮ ‬،‮ ‬وأسألهم سؤالا واحدا‮ .. ‬ما الذي‮ ‬حدث لها ؟‮!.. ‬كانوا‮ ‬يجيبونني‮ ‬بأنها على ما‮ ‬يرام وأنها بقسم النساء عندما طلبت رؤيتها‮ .. ‬اطمأننت قليلا‮ .. ‬وسألت عن صلاح‮ .. ‬فقال‮ ‬لي‮ ( ‬يحيى‮ ) : ( ‬كويس‮ .. ‬تمام‮ .. ‬فيه شوية كسور‮ .. ‬وقاعد فالقسم الآخر‮ .. ) ‬أغلق عليّ‮ ‬باب العناية المركزة وازدادت حالتي‮ ‬سوءا مع الألم‮ .. ‬تجمع عليّ‮ ‬الأطباء‮ .. ‬وخفت‮ .. ‬وخافوا أن‮ ‬يكون نزيفا‮ ‬غير ظاهري‮ ‬بقلبي‮ .. ‬وجهاز تصوير الأشعة المقطعية معطل‮ .. ‬وبحقنة مهدئة انهمرت في‮ ‬النوم حتى استيقظ الصباح‮ ‬،‮ ‬وأيقظني‮ ‬بألم معه‮ .. ‬انهالت علي‮ ‬الاتصالات‮ .. ‬وتجمع علي‮ ‬الأحباء‮ .. ‬الصدّيق‮ .. ‬يحيى‮ .. ‬وأقارب وأصدقاء‮ .. ‬وأنا أتساءل عن حالتي‮ ‬الشهيدين‮ .. ‬طمأنوني‮ ‬– كذبا‮ ‬– عن سعاد‮ .. ‬وقال لي‮ ‬الأستاذ الصدّيق إن أهل‮ (‬صلاح‮ ) ‬فضلوا نقله إلى بنغازي‮ ‬لإجراء تدخل جراحي‮ ‬له هناك‮ .. ‬ولكن حالته جيدة‮.‬
اتصل بي‮ ‬بعدها رئيس التحرير الذي‮ ‬كان مذهولا‮ .. ‬وأول ما سأل عنه عن كيفية ذهاب الشهيدة سعاد؟‮!! .. ‬ومن ثم اطمأن عن حالتي‮ .. ‬حينها فقط ساورني‮ ‬الخوف ولم‮ ‬يلبث قليلا حتى اتصل بي‮ ‬شقيقي‮ (‬صلاح‮ ) ‬واطمأن عن حالتي‮ ‬بعد أن سهر ليلته كلها حينما شعر بأن موظفي‮ ‬الصحيفة‮ ‬يخفون عنه شيئا‮ .. ‬وسأل مباشرة‮ .. (‬كيف ماتت سعاد ؟‮ ) .. ‬سقط الهاتف من‮ ‬يدي‮ .. ‬وتقاطرت الدموع‮ .. ‬وازدادت حدة الآلام‮ .. ‬ودخلت في‮ ‬مرحلة الانهيار العصبي‮ .. ‬ولعل الأستاذ‮ ( ‬الصديق بودوارة‮ ) ‬صوّر‮ ‬بمقالته التي‮ ‬كتبها بعد الحادثة مباشرة‮ ( ‬ليلة الأنين‮ ) ‬الحالة التي‮ ‬كنت فيها‮ .. ‬وما حدث لنا في‮ ‬الليلة تلك‮.‬
طلبت منهم بأن أنقل إلى بنغازي‮ ‬لأكون بجانب أهلي‮ ‬هناك‮ .. ‬وتكفل صديقي‮ ( ‬مفتاح بوزيد‮ ) ‬بتأمين سيارة إسعاف لي‮ ..‬تحصلت على تحويل من أطباء مستشفى‮ ( ‬الثورة‮ ) ‬الودودين‮ .. ‬حينها وصل شقيقي‮ ‬محمد في‮ ‬ساعة من الزمن واطمأن عليّ‮ .. ‬وعلى وجهه علامات الفزع‮ .. ‬غادر المكان بعد أن سأل عن السائق‮ .. ‬وتوجه لإتمام إجراءات التحقيق واستلام الأمانات‮ .. ‬التي‮ ‬قد استلمها آل الشهيدة سعاد‮ .. ‬ووضعوني‮ ‬في‮ ‬سيارة الإسعاف ذات الفراش الهزيل‮ .. ‬والتي‮ ‬آلمت رضوض ظهري‮ ‬بكل مطب تقع فيه في‮ ‬تلك الطريق المليئة بالمطبات‮ .. ‬وعلى أعتاب بنغازي‮ ‬طلبت من‮ ( ‬يحيى‮ ) ‬الذي‮ ‬رافقني‮ .. ‬بأن نمر على منزلنا ليتمكن أهلي‮ ‬من رؤيتي‮ ‬قبل أن نذهب إلى المستشفى‮ .. ‬وصلنا بيتنا وفتحت أبواب الإسعاف‮ .. ‬ووجدت أمي‮ ‬تبكي‮ ‬قائلة‮ : ( ‬تي‮ ‬كنّا العيل امدّد ؟‮! ) .. ‬طمأنتها عن حالي‮ .. ‬ودخلت البيت ورفضت الذهاب إلى المشفى‮ .. ‬امتلأ المنزل بالزوار‮ .. ‬وشدة الألم ضيعت عني‮ ‬طعم الليل والنهار‮ .. ‬أُجريت للشهيد صلاح عملية جراحية‮ .. ‬ودخل في‮ ‬غيبوبة ليست عميقة كما قيل لي‮ ‬،‮ ‬فنمت ليلتي‮ ‬تلك‮ .. ‬والليلة التي‮ ‬من بعدها لم تذق عيناي‮ ‬للنوم طعما‮ .. ‬لم أطمئن عن حال صلاح‮ .. ‬سهرت حتى الصباح‮ .. ‬إلى أن زارني‮ ‬رئيس التحرير‮ ( ‬د‮ . ‬رمضان البريكي‮ ) ‬وأكد لي‮ ‬سوء حالة الشهيد صلاح مثلما أكدها لي‮ ‬مدير التحرير الأستاذ‮ ( ‬علي‮ ‬جابر‮) ‬من قبله‮ .. ‬غادر الدكتور رمضان للصلاة‮ .. ‬وعاد إخوتي‮ ‬منها‮ .. ‬وبعد تناول الغداء‮ .. ‬توجه شقيقاي‮ ( ‬عبد الله وصلاح‮ ) ‬إلى المشفى للاطمئنان على حالة الشهيد صلاح‮ .. ‬استلقى بجانبي‮ ‬محمد أخي‮ .. ‬ووصل اتصال على هاتفه من‮ ( ‬عبدالله‮ ) ‬الذي‮ ‬صُدم عندما وجد أني‮ ‬كنت من رد عليه‮ .. ‬طلب محمد‮ .. ‬فقلت له إنه نائم‮ .. ‬أغلق على الفور‮ .. ‬استيقظ محمد واتصل به مباشرة‮ .. ‬لم‮ ‬يقل شيئا بقدر ما كان‮ ‬يستمع‮ .. ‬وبعد تغير ملامح وجهه‮ ..‬وقف ودخل إلى صالة البيت‮ .‬
لحظات قليلة‮ .. ‬وقلبي‮ ‬ينقبض‮ .. ‬دخلت عليّ‮ ‬أمي‮ ‬قائلة‮ : (‬إبراهيم‮ .. ‬عظّم الله أجرك في‮ ‬صاحبك‮.. ‬ياريتني‮ ‬ما شفته‮ ) .. ‬وغمرتني‮ ‬وانهمرنا في‮ ‬البكاء‮ .. ‬أصبت بانهيار شديد‮ .. ‬وصدمة هائلة‮.. ‬آه‮ .. ‬ما أصعب الفراق‮! ..‬خاصة وإن كانت الفاجعة بإخوة كهؤلاء‮ .. ‬يعجز حقا اللسان عن وصف حالة مثل تلك‮ .. ‬يخيم السواد فعلا على القلب‮ .. ‬وتحجب عن رؤيتك للكون‮ ‬غشاوة سوداء‮ .. ‬تستذكر حينها فقط‮ .. ‬في‮ ‬ثنايا مكتب الشهيد صلاح الذي‮ ‬لم ولن أدخله مرة أخرى‮ .. ‬تلك‮ (‬اللمة الحلوة‮) ‬حوله‮ .. ‬وفنجان القهوة المسائي‮ ‬الذي‮ ‬أشربه سوية والشهيدة سعاد‮ .. ‬تتقطع أوصال القلب‮ .. ‬وتلتهب المشاعر حرقة وحنينا‮ .. ‬لأن أرى وجوههم الزكيّة مجددا‮ .. ‬وفي‮ ‬أطلال اعتدنا الجلوس فيها سويا‮ .. ‬أجلس انتظارا لعودتهم‮ .. ‬كي‮ ‬يملأوا مكاننا الذي‮ ‬اعتدنا الجلوس فيه بتلك الابتسامة العزيزة على قلبي‮ ..‬ولن‮ ‬يعودوا‮ .. ‬ماذا تراني‮ ‬سأفعل من دونهم ؟‮.. ‬وأنا لا أملك إلا أن أقول‮ .. ‬
ولكنها الأقدار ليس بنافع
فيها سوى التسليم والإخلاد
‬و{إنا لله وإنا إليه راجعون‮}.‬
‬القصة الكاملة للحادثة التي‮ ‬تعرض لها الفريق‮ ‬الصحفي‮ ‬بصحيفة قورينا أثناء لحاقهم بقافلة‮ "‬شريان الحياة‮" ‬المتجهة إلى‮ ‬غزة‮ .. ‬بتاريخ‮ ‬2009/3/3‮.‬

بقلم‮:‬براهيم هدية




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات