في معرض الرد
على الأستاذ محمد حسانين هيكل حول أحداث الربيع العربي
بقلم / مجدى المصرى
بادئ ذي بدأ يجب أن نعطي الأستاذ الكبير هيكل حقه كأستاذ لنا ولغيرنا ومن كبار مفكري ومنظري الوطن العربي وإن لم يكن أكبرهم على الإطلاق , ولكن يجب عدم إغفال نقطة هامة جدا وهي أن هيكل إبن للقومية العربية ونتاج لها , لهذا فالقومية العربية تعد قاسماً مشتركاُ لكل كتاباته وأفكاره وهي المُهيمن على توجهاته الفكرية , فأحيانا وحتى ينضبط المعنى منه , يُلوي زراع الفكرة حتى تتوائم مع هذا التوجه.
أما رؤية هيكل للربيع العربي فقد جانبها الكثير من الصواب من ناحية أنها تغيير إقليمي ودولي وسياسي يتحرك بسرعة كاسحة على جبهة عريضة ويحدث آثاراً عميقة ومحفوفة بالمخاطر أيضاً.
ولكنه على الفور ألحق بها إنهيار الحلم القومي العربي , وبالمناسبة يجب أن نقول لهيكل بأنه لم يكن هناك حلماً قومياً عربياً بالمعنى الشعبي العريض , ولكن كان هناك حلماً سلطوياً بدأ يراود الملك فاروق , أن يصبح خليفة للمسلمين عقب إنهيار دار الخلافة العثمانية وتقسيم حجراتها بين الحلفاء على مائدة السادة سايكس وأخيه في الله بيكو.
شُغور الخلافة هو ما أغرى الملك فاروق وأغواه بإمتطاء صهوة الخلافة وأنشأ لها بيت العرب (جامعة الدول العربية) ووجد ضالته ومنطلقه في الدولة اليهودية الناشئة بقرار أممي إحقاقاً لوعد بولفور.
(فالقضاء على هذه الدولة في مهدها وطرد اليهود من فلسطين هو سبيل الخلافة الأوحد) , فرفَض العرب قرار التقسيم بقيادة فاروق , بل وجيشوا الجيوش وعبأوا النفوس لقتال اليهود ولكن جائتهم الرياح بما لا يشتهون وفشلت حربهم في دحر اليهود , فوئِد حلم الملك فاروق في الخلافة.
جاء عبد الناصر في إنقلاب على الملك فإستحضر الفكرة وبعثها ولكن بنكهة حداثية إشتراكية فبدل من لقب (الخليفة) الذي لم يعد يواكب العصر يكون (الزعيم) , عندما خبر تشوق الشعوب العربية وإفتقادها للخطابات الحماسية التي تؤجج المشاعر وتلهب الحناجر , وآمن مُنظرِّي ناصر من أمثال الأستاذ هيكل بهذا الحلم الحداثي وألهموه أو بمعن أدق أوهموه بأنه القائد والزعيم الأوحد للأمة العربية.
وما القذافي وعلي عبدالله صالح وغيرهم من الأنظمة الديكتاتورية التي جثمت فوق الصدر العربي لعقود , ممن تُزيحهم الشعوب اليوم سوي زريعة وصنيعة ناصر , عندما إستشعر بأن الأنظمةالعربية لا تتماشى مع حلمه , فدبر الإنقلابات وصنع قادة جدد يملكون من الخواء ما يسد عين الشمس إتخذوا القمع والحجْر والوصاية منهجا لحكم شعوبهم
وبالتالي حلم كل منهم بأن يكون هو الزعيم بعد ناصر فتفتت العرب أكثر , وتفرق شملهم تحت أوهام الزعامة لمن لا يملكون من مقوماتها سوى الميكروفونات.
نعود إلى أستاذنا هيكل حيث أورد : أن المشروع الغربي وهو أمريكي أوروبي يزحف على خطين وبحركة كماشة على الجناحين تطوق وتحاصر، الخط الأول مرئي مسموع محسوس ومسعاه اغراق المنطقة في صراع (اسلامي – اسلامي) ، وبالتحديد سني شيعي، وقد بدأ زحف هذا الخط من عدة سنوات، عندما سقط النظام الامبراطوري في ايران، وحل محله نظام الثورة الاسلامية..
نتفق ونخلف معه , فهناك فعلاً مشروع أمريكي لإغراق المنطقة في صراع إسلامي إسلامي (سني شيعي) ونختلف معه لعدم إرتباطه بسقوط عرش الشاه , فالنظام الإمبراطوري سقط في إيران عندما تحول إلى القوة الخامسة عسكرياً في العالم وبدأت في مناطحة أقرانها الغربيين في محاولة الترقي لمراتب أعلى ولم يكن هناك بُد من تدمير كل تلك المكتسبات وإزالة هذا التهديد , وتركوا الشاه يسقط , وعاد الخميني والياً وفقيهاً من (باريس).
أما المشروع الأمركي لإحداث الصراع السني الشيعي فقد وُلد أو إستولده خبراء الإستراتيجية الأمريكية المُستقبلية , وبالمناسبة هم من يضعوا السياسات الأمريكية لعقود قادمة وفق مبدأ (أمريكا فقط أمريكا رقم واحد في كل المعادلات العالمية) , وكل الرؤساء الأمريكان جُل عملهم إدارة دفة السياسة وفقاً لتلك الإستراتيجيات ولا يحيدون عنها قيد أنملة.
تغيرت الإستراتيجية المستقبلية الأمريكية تماما وإستولدت فكرة الصراع (السني الشيعي) من أحداث سبتمبر الشهيرة , فمن إستطاع ضرب رموز الكبرياء الأمريكي وفي قلب أمريكا ولم يفعلها أحد منذ تأسيس الولايات المتحدة هم المسلمون السنة (المجاهدون) الذين صنعتهم مخابراتها ودربتهم وسلحتهم ليكونوا معول هدم عدوها السابق (الإتحاد السوفيتي) , ولكنهم إنقلبوا عليها , وقتالهم لن يجدي نفعا فالعقيدة القتالية الجهادية الإستشهادية لديهم لن تخبوا ولن تطفئها أي قدرات عسكرية أمريكية , وكما يقولون (من إستحضر العفريت عليه أن يصرفه) وهو الشيئ المستحيل.
فكان القرار توجيه هذه الصحوة الإيمانية والجهادية شطراً آخراً وتفريغها فيه , حتى تنأي بنفسها بعيد عن تكلفة مثل هذا الصراع , فكانت الخطط والترتيبات لتقوية إيران وليس إضعافها بالآتي :
التهديد المستمر لها بالإجتياح وتوجيه ضربات ساحقة أمريكية إسرائيلية لدفعها دفعاً لتطوير قدراتها وإنفاق غالب دخلها البترولي على المجهود الحربي حتى تصل إلى مستويات عسكرية تعبوية هائلة تسمح لها بدخول حروب طويلة مريرة.
(تنظيف) دول الجوار في المنطقة المحيطة بها من أي تهديدات مُحتملة تعوق هذا المشروع وخاصة أفغانستان والسماح لها بجعل العراق عمقا إستراتيجيا ومنطلقا لها.
البدأ في أسلمة أو التحول في نظم الحكم في المحيط العربي , ليتولى إسلاميون تحدوهم العواطف ويفتقدون إلى أي خبرات سياسية وإستراتيجية , أمور تلك البلاد
تأجيج مشاعر العداء بين السنة والشيعة تدريجيا وتثبيت فكرة الحلم التوسعي الشيعي لدى العرب لتتحول الأنظار شرقا ويصبح صراعا عربيا فارسيا بدلا من الصراع التقليدي العربي الإسرائيلي.
ليتبقى شيئ واحد بسيط وهو (شرارة البدء) والتي لم تحن ساعتها بعد وتحتاج سنوات قليلة تكون فيها باقي الأنظمة قد تغيرت , إما بالإزاحة أو بالوفاة لعجائز الحكام ممن لديهم الخبرة والحنكة السياسية التي تعوق وقوعهم في شراك الحمق.
وما حادثة محاولة إغتيال السفير السعودي في أمريكا سوى بالون إختبار من صنع المخابرات الأمريكية لتبيان مدي نضج الخطة , وهو ما لم تأتي ردود الأفعال العربية عامة والسعودية خاصة بالنتيجة المرجوة وإن كانت الإستثارة لإيران جيدة.
نعود إلى أستاذنا هيكل وفي رده على سؤال طلب منه إعطاء نموذج لتطبيق سايكس بيكو الجديدة عملياً على ما يجري الآن في ليبيا، أجاب هيكل قائلاً: « نحن نعلم مما نقرؤه الآن أن نفط ليبيا جرى توزيع امتيازاته فعلاً، وبنسب أذيعت على الملأ، كانت 30% لفرنسا (شركة توتال) و20% لبريطانيا (شركة بريتش بتروليم)، والحصة أقل لأن بريطانيا أخذت أكثر في نفط العراق.. وليست أمامي الآن نسب التوزيع فيما بقي، لكن ايطاليا تطالب بحق مكتسب (شركة إيني)، ثم ان الشركات الامريكية تلح على دخول قائمة الوارثين.. وبعد إرث الموارد هناك.
نتفق تماماً معه في هذا الطرح فثمن إزاحة القذافي باهظ و(الثروة تفسد الأخلاق) , ولكنه أغفل أن الناتو قد أزاح القذافي وسلم ليبيا للإسلاميين حتى تتم أسلمة ليبيا هي الأخرى تنفيذا للإستراتيجية الأمريكية , فلابد من تكوين فيلق إسلامي من المجاهدين قوامه الملايين من مختلف الدول العربية للزج به في حرب الشيعة تطبيقا لنموذج الحروب الإسلامية الإسلامية الطاحنة مثل (موقعة الجمل وصفين) وغيرهما.
أما بخصوص حديثه عن سوريا فقد قال : بأن التدخل العسكري الاجنبي في سوريا في هذه اللحظة مخيف وأن البديل بالغزو الاجنبي في هذه الظروف يصعب تقدير عواقبه خصوصاً بعد ما جرى في العراق واليمن والسودان وأخيراً ليبيا.
نعم الغزو مخيف وعواقبه رهيبة لا على سوريا فحسب ولكن على العرب جميعا ولكن كل هذا لا يعني شيئا لأمريكا ويجب أن يعلم القاصي والداني أن أمريكا تبحث عن (مقاول إسلامي) سوري تتعاقد معه , وإن كانت ملامحه قد تشكلت في المجلس الوطني الإنتقالي السوري إلا أن تركيبته لم تنضج بعد , وأمريكا تدفع قادته نحو التصعيد مع النظام , فيزداد النظام بطشا ووحشية ودموية وفي النهاية لن يجد قادته من سبيل سوى التعاقد مع أمريكا على غرار مجلس ليبيا , ولكن هذه الخطوة تحتاج إلى التروي بعض الوقت لأن وصول الإسلاميين إلى الحكم في سوريا على الأخص يعني عمليا بدء المواجهة مع إيران من خلال زراعها حزب الله والتي لم تنضج وتستحكم حلقاتها بعد.
أما المشروعين الإيراني والتركي الذين أوردهما أوضح هيكل بأن هناك مشروع ايراني وهو محدود في إطاره لأسباب عديدة تضعها الجغرافيا بالمسافات ويصنعها التاريخ بالثقافات، إلى جانب أن هذا المشروع تحت حصار، وعليه فان استراتيجيته الآن دفاع، وهناك أيضاً مشروع تركي لديه حظ أكبر لأن أساسه التاريخي لا يزال في الذاكرة وفي المواريث.. مذكراً بأن تركيا العثمانية كانت هي الضحية التي توزع ارثها على الآخرين في « سايكس بيكو » الأولى وهي الآن امام اغراء ان تكون شريكاً في الارث الجديد بعد ان كانت ضحيته في سابقه.
فهذا ما نختلف معه فيه فالمشروع الإيراني (تصدير الثورة) بدءه الخميني ومازال مستمرا ولم يتوقف حتى الآن ونجح نجاحات كبيرة في العراق وسوريا ولبنان ولاحت بشائره في البحرين والسعودية والكويت والسودان ووصل مصر ولكن لم يظهر إلى العلن بعد.
أما المشروع التركي فهذا شأن آخر ليس المشاركة في المواريث وإنما الدخول إلى الساحة العربية بصفة (الوريث الشرعي) الوحيد وأدواته واضحة للعيان وهي ثلاث محاور :
معاداة إسرائيل ولو ظاهريا وإستعمال أو توظيف الإعلام لترسيخ هذا المعنى في عقول العامة العرب وإعمال سهم المؤلفة قلوبهم) للعديد من الإعلاميين العرب حتى يدوروا في الفلك التركي وتجميل صورته والحديث عن (النعيم) الذي كان يعيش فيه العرب في كنف الخلافة العثمانية , والثالث هو الإخوان المسلمون ومؤاخاتهم لإستكمال الطرح.
أما حديث هيكل عما حدث من تعديل في السياسة الامريكية نحو تشجيع وتوسيع عملية المواجهة بين جماعات سنة وجماعات شيعة: بهذا القصد طرأت مسألة الاعتراف بالاخوان وبقبول مشاركتهم شرعياً فيما كان محظوراً عليهم من قبل، والاخوان تنظيم سني نشيط، ومن المفيد كذلك أن يرى أصحاب الطلب هذه اللحظة ان يكون للاخوان السنة دور على مستوى الشارع العربي في مواجهة مع الشيعة في قلبه.
فهذا الطرح ليس بالجديد فمع بداية الثورة وقبل أن يتنحى مبارك وبدأت اللقاءات بين الإخوان والأمريكان (لتحديد التوجه المستقبلي) بالضوء الأخضر الأمريكي.
ونافلة القول المنطقة بالكامل تسير بخطى وئيدة نحو (الربيع العربي) بالنكهة الأمريكية لتجد نفسها وبدون أن تدري في مواجهة مباشرة مع إيران ويصبح صراعا مباشرا من أجل البقاء , ومن كتب له البقاء بعد هذا الصراع لن يكون بمقدوره الوقوف على قدمية التي ستكون مبتورة في الحرب وسيحتاج بالطبع إلى (عكازين) مكتوب عليهما MADE IN USA
التعليقات (0)