كنتُ سابع أربعة دخلوا معرض الكتاب الدولي البحريني في يومه الأخير قبل أن يلفظ أنفاسه بسويعاتٍ قليلة وقبل أن يطوي عامه الرابع عشر بهنيئات معدودةٍ ،، أدركناه وهو متثائبٌ استعداداً لرقدة كهفية يبسط فيها ذراعيه بالوصيد عاماً آخر ، كل شيء في المكان ينبئ عن حالة طبيعية لا ميتافيزيقية – طبعاً كالعادة هذه المفردة الأخيرة ليس له محل من الإعراب ولكنه نوع من الترزز واستعراض عضلاتي الثقافية ،، مثلي مثل غيري وما فيش حد أحس من حد – لم يكن المعرضُ ملجأنا الوحيد ونحنُ نزاحم بعضنا في ركضٍ لهثوي للهروب من غبارٍ أغلق علينا ست جهات ولم تكن تلك غريبة الغرائب ولا عجيبة العجائب لعمق علاقةٍ أخوية بيننا وبين الغبار في الفترة الأخيرة إذ لا يمر أسبوع إلا متأبطاً يوما واحدا فيه للجو صفاء ،، وبقية الأيام غبار في غبار يا ولدي ..
لا أدري ما الذي دفعني لهذا الاسترسال إلا لأبين لكم ثقافتي الغبارية الواسعة وخلفيتي العجّية المتنطعة ، وبعودةٍ للوراء والعَود أحمد ولولوجنا معرض الكتاب بالبحرين فقد كان الازدحام على مصراعيه وجنب كل رجل ورجل ست حريم والاختلاط شغال على ودنه وكأننا في يوم الحشر مع الأخذ في الاعتبار سعة المعرض والذي ..
لا يبلغُ السمكُ المحشورُ جانبَه
لفرطِ ما بين قاصيهِ ودانيهِ
كما قال عمُنا البحتري ( الله يحلله ويبشبش الطوبة اللي تحت دماغه الشريف ) في وصف بركة المتوكل ..
وكنتُ وأصدقائي الثلاثة نجوبُ المعرضَ جيئةً وذهاباً فمرة ندفر هذا وننحز ذاك ،، ويصفعنا عمود هنا واسطوانة هناك من هول الزحام ،،
فكأننا من هولِ ماعلقت
كف الزحام نُساقُ للحشرِ
وهمنا الأكبر ألا نحتكَّ بامرأة خطأ أو عمداً ( تقوىً من بعضنا وخوفَ كفٍ من البعض الآخر ) ومن فرط حذرنا وقعنا في المحذور مرة ومراتٍ وتذكرتُ هنا قصةً للدكتور علي الوردي بعد امتطائه دراجة هوائية ( سيكل ) وصادف أن مرّ قربَ رجل يحمل كومةً من الخس على رأسه فعض على أسنانه وضعط المقود ضغطا بكلتا راحتيه كي لا يصدم الرجل إلا أن الرجل تحاشاه بينما اندفع الوردي نحوه اندفاعاً واصطدم به وأصبح هو والرجل والسيكل والخس كومة واحدة .. كل هذا في ذهني وأنا أمرُّ بجانب هذه النسوة ( واللي خفت منه طحت فيه ) وعلمتُ أن الاختلاط – وإن كان بدعة بدعاء حسب قول بعضهم – إلا أنه مربكٌ ومشتتٌ للذهن يجعل الداخل لمعرض الكتاب لا يرى إلا سواداً في سوادٍ وأبيض الكتب يصبح غرابيب سود ، فللنساء طريقةٌ لطيفة في عبور الأماكن فهن يتحركن وكأن ( الأماكن كلها مشتاقة لهن ) ومخلية الطريق أمامهن فلا يرين أحدا سواهن فيمشين دون أن يلتفتن يمنةً ويسرة ويا ويلك وسواد ليل أهلك إن أحتكيت بواحدة منهنَّ فهي في تلك الحالة تستحضر كل شرف مريم لتنهال عليك شتماً وتفسيقاً وإن اعترضت فراشدي على وجهك يجعلك زنبوراً لا يتفتأ من الدوران .
في معرض الكتاب كل الدور تشتكي من عدم رواج الكتب ومن قلة الإقبال عليها فدخلتُ في تناقض صارخ مع نفسي هل ما علق في ذهني طيلة ثلاثين عاما من أن الكتبَ ليس لها سوق رائجة خرافة أم حقيقة ،، وكيف يكون حقيقةً وهذا الزحام المحشري يكذبُه ،، ومقولةً أخرى من أن النساء لا تشغلها إلا الموضة ولا ينطلق عقلها لأبعد من صرعات قصات الشعر الجديدة وكيف تنتف حواجبها لتشكل منه أخاديد ومنحنيات ، ولا يسرح خيالها إلا بقوس قزح لتجعل منه تشكيلة لعدساتها اللاصقة فمرة تراها بيضاء شقراء وعيناها سوداوان كلستكٍ مهترىء ومرة تراها سمراء داكنه وعيناها خضراوان كغابة من ( العقربان ) ،، هل كل ذلك خرافة والمعرض لاتستطيع عد الكتاف التي تلطخ فيك ..
دخلتُ في جدل عقيمٍ – كأكثر جدالنا – مع صاحب إحدى دور العرض فأنا أقول له ما شاء الله تبارك الله كل الناس أصبحوا قراءً ومقروءين وهو يقول كل ما تشاهده ( خرطي في خرطي ) وما هذا الزحام إلا للوناسة وإضاعة الوقت ،، قلتُ له عجيب ، وانتهى الجدال كالعادة لا هو اقتنع برأيي ولا أنا استطعت اقناعه ، فقلتُ لنفسي لماذا لا أتأكد فتوجهتُ تلقاء بعض الدور المزدحمة بالأوادم وغير الأوادم .. فوجدتُ دارا متكتظة حتى بكرة أبيها ومحّالة أمها بالناس وبالحريم خصوصاً فرأيتها داراً تبيع قصصا وذكرياتٍ يندى لها جبين الأحرار والشرفاء – أمثالي – تحت مسمى رواية أدبية فقلتُ ما شاء الله ، امرأة تسجل فضائحها وتفسح عن مكبوتها وتسمى نفسها روائية ، وقممٌ إبداعية كعبد الرحمن منيف وجمال الغيطاني وعبده خال وأضرابهم يسمون روائيين .. عجبي ،، ثم غادرتُ هذه الدار قاصدا أخرى فرأيتها تبيع كتباً ملأى بقصص كرامات وأحلام ما أنزل الله بها من سلطان يقصها رجل أو إمرأة اختار الشردغة لنومته فرأى أحلاما هي حصيلة ما يحشو بها رأسه من أفكار فرآها أضغاث أحلام في نومه وصحا من نومه ليقصها على الناس مخبرا إياهم أنها كرامات حصلت له .. ويا سبحان الله المصدق أكثر من المكذب وكما قيل ( اشتهر وافعل ما شئت ) فالكل سيغض النظر عنك .. لدرجة أن أحلامك كأحلام الأنبياء كلها وحي في وحي ..
ومشيتُ أبحث عن باب المعرض لأفلت بجلدي وإذا بي أدخل في جوقة أوادم محيطين بدار أخرى تبيع كتب طبخ وغسيل ونفخ وعجين وأبراج وحظوظ والناس تحفن من هذه الكتب ..
فقلتُ ياللهول يا لسخرية القدر كما يردد جدنا المعظم يوسف وهبي أهذا ما تنمُّ عنه هذه الزحمة وأنا الذي أطلقت لتفاؤلي العنان ،، وحدثتُ نفسي أن صحوة جديدة تجتاحنا .. ولكنه قدري ..
التعليقات (0)