مواضيع اليوم

في مدرسة الطغاة

رؤى نزار محمد

2011-06-06 18:23:23

0

 


ان من لم تغوه الرغبة في أن يكون الأول في المدينة لن يفقه شيئاً من اللعبة السياسية، ولن يفهم شيئاً من إرادة إخضاع الآخرين لتحويلهم إلى أشياء، كما لن يحدس شيئاً من العناصر التي يتكون منها فن الاحتقار.


قليلون هم أولئك الذين لم يشعروا بالظمأ إلى امتلاك السلطة بدرجة من الدرجات . إنه شعور طبيعي يتخذ عند التأمل كل خصائص الحالة المرضية التي لا نشفى منها إلا عرضاً، أو بعد عملية نضج باطني شبيهة بما جرى داخل شارلكان حين تخلى عن العرش في بروكسل وهو في ذروة مجده، ملقناً العالم درسًا مفاده أن الإفراط في الملل يمكن أن يولد مشاهد لا تقل إثارة للإعجاب عما يولده الإفراط في الشجاعة . إلا أن الزهد في السلطة أعجوبة كان أم شذوذاً، هو تحد لثوابتنا وهويتنا لا يحدث إلا في لحظات استثنائية، كحالة قصوى ترضي الفيلسوف وتربك المؤرخ .

افحص نفسك لحظة يساورك الطموح وتفترسك حمّاه، قم بعد ذلك بتشريح ( سوراتك ) تجدها مسبوقة بأعراض غريبة، على رأسها نوع من التهيج الخاص يظل يلهب حماستك ويثير حذرك .
فإذا أنت قد سممك المستقبل لفرط الأمل، تشعر فجأة بأنك مسؤول عن الحاضر مسؤول عن المستقبل، في قلب الديمومة المعبأة برعشاتك، تلك الديمومة التي تحلم بالانفجار معها وكأنك عامل فوضى كونية . وإذا أنت منتبه إلى أحداث دماغك وتقلبات دمك، منكب على اختلالك، متلهف على علاماته مغرم بها.

إن الجنون السياسي مصدر اضطرابات ولحظات وهن لا يعرف نظير لها . وهو جنون قد يطغى على الذكاء لكنه يعرف في المقابل كيف يغلب الغرائز ويلقي بك في فوضى مخلصة . حيث تبهجك فكرة الخير وتحديداً فكرة الشر الذي تتخيل إنك قادر على إتيانه، فتحس بنشوة عارمة. هكذا تحصل معجزة إعاقاتك، إذ تنصبك سيدا على الجميع وعلى كل شيء .

ستلاحظ من حولك اختلالاً مماثلاً لدى كل من تفترسهم الرغبة نفسها، لن يتعرف عليهم أحد طالما ظلوا تحت هيمنة المرض نفسه. سيظلون فريسة سكر لا يشبه أي سكر وسيتغير كل شيء فيهم حتى نبرة الصوت. إن الطموح مخدر يجعل كل مدمن له مجنوناً كامنًا قد يكشف عن نفسه في أي لحظة، تلك السمات، تلك الهيئة الشبيهة بهيئة بهيمة جامحة، تلك الملامح القلقة التي تبدو مشحونة بنشوة دنيئة، إنها أعراض لا بد أن يلاحظها أحدنا على نفسه أو على الآخرين، وإلا ظل في غفلة عن لعنات السلطة ونعمها. السلطة، ذاك الجحيم المنشط، ذاك الخليط من السم والترياق.

تخيل الآن المسار المعاكس. ما أن تزول عنك الحمى حتى تراك وقد انكشف عنك السحر فإذا أنت عادي حد الإفراط، خالٍ من كل طموح ومن ثم خالٍ من أي وسيلة لتكون اسماً علمًا أو شيئاً مميزاً. إنك اللاشيء وقد تشخص . الفراغ وقد تجسد : غدد وأمعاء بعيدة النظر، عظام أعيدت من ضلالها، جسد اجتاحه الوعي وتطهر من ذاته فإذا هو خارج اللعبة، خارج الزمن، معلق في أناه المتجمد داخل معرفة مطلقة لا معارف فيها. أين تجد اللحظة الهاربة ؟ من يعيدها إليك ؟ ليس من حولك إلا مسعورون أو مسحورون . حشد من الشاذين هجرهم العقل ولجأ إليك أنت الوحيد الذي فهم كل شيء . أنت المتفرج المطلق التائه وسط مغفلين، العصي أبداً على المهزلة الجماعية . هكذا تظل تكبر الفجوة الفاصلة بينك وبين الآخرين ، حتى إنك تسأل إن لم تكن قد قبضت على حقيقة ظلت تراوغ الجميع . قد يبدو لك هذا الكشف بسيطاً وقد يبدو لك أساسياً لكن مضمونه سيظل غامضاً في نظرك . الأمر الوحيد الذي تشك فيه هو بلوغك درجة عجيبة من التوازن بفضل استغناء ذهنك عن كل شراكة مع الغير. أنت العاقل دون وجه حق . أنت أكثر الحكماء اعتدالاً . هكذا تبدو لنفسك . وإذا ظل بينك وبين من حولك من المسعورين وجه شبه فأنت تشعر بأن شيئاً ما بات يميزك عنهم إلى الأبد. ذاك الشعور أو ذاك الوهم ، سيدفعك إلى القيام بنفس الأعمال التي يقومون بها ولكن بحماسة أخف وبقناعة أقل. سيصبح الغش في نظرك مسألة شرف والطريقة الوحيدة للانتصار على ( سوراتك ) أو للحيلولة دون عودتها . ولما استوجب كل ذلك ما لا يقل عن كشف أو انهيار. فإن استنتاجك الوحيد سيتمثل في أن كل من لم يمر بأزمة مشابهة ، سيسقط أكثر فأكثر في الغلو المتلبس بجنسنا البشري .

إميل سيوران

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات