كلمة واحدة كانت تنهمر بغزارة وتلقائية في جنازتها.. الكل يجمع على صفة كانت تتقنها وتؤديها بشكل استثنائي.. ولذا كانوا يصرخون بلوعة وحرقة مرددين كلمة السر : الحنونة.. الحنونة..
من الصعب أن تصنع لك شخصية مميزة، والأصعب أن تصنع علامة فارقة لا يشبهك فيها أحد ممن حولك.. وهذا ما استطاعت هذه المرأة أن تحققه دون تكلف بل بعفوية تامة حتى تلازم اسمها عند كل من يعرفها مع الحنان تلازما دلاليا لا ينفك أبدا.
لم تحضر دورات في البرمجة اللغوية العصبية أو في العلاقات الزوجية أو الإنسانية، ولكنها بفطرتها الصافية كانت أستاذة في كل هذه المجالات من خلال سلوكياتها المتميزة مع الجميع بدءا من والدتها وانتهاء بكل من جمعها وإياه ولو موقف واحد مرورا بزوجها وأولادها وإخوانها وأخواتها وأرحامها وجيرانها ومعارفها.
كان بيتها بحق ( بيت العود )، كل الأطفال كانوا يشعرون فيه بنكهة خاصة ومذاق مميز، وما ذلك إلا لاقترابهم من نبع حنانها الفياض. لم تسأم أو تتضجر من طفل أبدا رغم أنهم كانوا يعيدون ترتيب بيتها بطريقتهم الخاصة التي قد تضجر الكثير من النساء، ولكنها كانت ترى سرورها في سرورهم.
كثيرا ما كان يوجه لها اللوم لإبقاء باب بيتها مفتوحا طول الوقت، ولكنها كانت ترد ببساطتها المعهودة وبشاشتها المشهودة: لم أتعود أن أوصد باب بيتي.. يبدو لي أن ذلك كان ينسجم مع قلبها المفتوح للصغير والكبير.
كانت تتحين كل الفرص والمناسبات لتتواصل مع الآخرين عن طريق زيارتهم أو الاتصال بهم والسؤال عنهم وعيادة مريضهم ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم. فقد أصرت مثلا على زيارة جارتها المريضة رغم معاناتها الشخصية من آلام الرأس وأوجاعه الشديدة التي اعترتها بشكل مفاجئ قبيل وفاتها..
عندما نكون في سفر لم نكن نحتار في اختيار هدية لأي أحد من أعزائنا، وحدها كنا نحتار في اختيار هديتها، لأنها عودتنا أن تهدينا بمناسبة وغير مناسبة وأن تقدم هدية لائقة بعطائها ومتناسبة مع ثراء روحها، وهنا مكمن حيرتنا، كيف نقابل عطاءها وكيف نسمو إلى فلك كرمها، أعتقد جازما أننا لم نستطع أن نجاريها في مضمارها هذا فكانت على الدوام تسبقنا، وكان علينا في الأخير الاعتراف بسبقها..
في حياتها الكثير من الدروس لنا جميعا، وهذا ما أحاول التركيز عليه، فلم تكن تكتفي ببر والدتها، بل كانت برة بوالد ووالدة زوجها، ولم تكتفِ بذلك بل كانت تدفع زوجها إلى برهما بكل حرص، كانت تصر على أبي أحمد أن يشتري لأمه كسوة العيد قبل أن يشتري لها هي أو لأولادها، كانت تسأله عن زيارتهما كل يوم. وفي ذلك درس للنساء وللرجال على السواء.
كانت تلزم نفسها بأدوار لا يلتزم بها إلا ذوو النفوس الكبيرة.. جاءت امرأة لا صلة قرابة بينها وبين المرحومة لمجلس فاتحة النساء وكانت تبكي بكاء شديدا، وتقول: لقد عودتني هذه المرأة أن تأتيني ليلة النصف من شعبان في كل سنة لتقدم لي كيسا فيه هدية لي.
وأتحدث هنا عما لمسته وعايشته شخصيا. فولدي منذ بدأ دراسته في الخارج قبل أكثر من 5 سنوات وهي ملتزمة بأن تهيئ له طعاما مميزا كلما عاد من سفره، وهكذا تفعل معنا إذا عدنا من سفر حتى وإن كانت ظروفها الصحية لا تسمح فإنها تكلف نفسها فوق طاقتها لتفي بما ألزمت به نفسها.
كانت تلتزم بصلة أرحامها وجيرانها بشكل عز نظيره رغم ظروف عمل زوجها وظروف تربية ورعاية أبنائها والقيام بشؤون بيتها لوحدها دون خادمة.
لا أدري كيف استطاعت التوفيق بين الأدوار المتعددة والمختلفة وأن تقوم بها خير قيام، إنه التوفيق الرباني الذي يهبه لمن يشاء من عباده.. فنعم الواهب ونعمت الموهبة ونعم الموهوب..
رحم الله من يقرأ الفاتحة لروح فقيدتنا الغالية ( صديقة معتوق الحرز )
8-10-2008
التعليقات (0)