بقلم : محمد بن سالم بن عمر- عضو اتحاد الكتاب التونسيين .
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
تكشف لنا دراسات الآثار و النقوش البدائية أن القدر مثل القوة الخفية التي أحس بها الإنسان البدائي منذ أن وجد نفسه في مواجهة الطبيـــــــــــــــعة الجميلة و المخيفة ، و منذ أن واجه الموت في الخطر الداهم ، و أحس بيد خفية تمتد إليه بالنجاة ... و منذ أن عجز عن تفسير قضايا كثيرة تمر به بين الحين و الآخر...هذا القدر مثل حقيقة رهيبة في حس الإنسان القديم يخافها و يتقيها غالبا ،و قد سعى الإنسان أن يبرز هذه الصورة في أطره الفنية المتنوعة ، و يجعلها في حالات كثيرة مضمونه المهم .فلقد اهتم الأدب اليوناني شديد الإهتمام بالقدر ، و اتخذه موضوعا لعدد من مسرحياته ، يبرزه في ملاحمه و شعره و رواياته ، و كانت صورة القدر دائما مشربة بالوثنية ، و بتصورات الإنسان السوداء تجعله ظلما محضا ، ينصب على الإنسان و يحاصره باللعنات و المصائب ، و يدخل معه في صراع مرير ، و تفنن الأدباء في تلوين فنهم بألوان قاتمة لشحن المتلقين بمشاعر سوداء إزاء القدر !!؟
و أخذ الأدب الروماني عن الأدب اليوناني هذه الصورة المضطربة للقدر ، و عرضها في أعماله الأدبية ، و نجد أثر ذلك في الإلياذة ملحمة الأدب الروماني الكبرى و في مسرحيات " بلوتوس " الفكاهية الساخرة .
و لما جاءت المسيحية توجهت بالأدب إلى الآخرة و أصبحت التماثيل العارية ممنوعة، و اتجه الفن إلى تصوير النزعات السامية في الإنسان و الخصال الحميدة فيه، كالتوبة و الإستشهاد في سبيل الدين ، و تحمل الآلام و العذاب في سبيله ، و تمجيد الله و إعلاء كلمة المسيح عليه السلام ، و الإشادة بطهارة العذراء و استشهاد القديسين ...! و كانت المسيحية ترى بوجه عام أن الفنون التصويرية وسيلة طيبة لتثقيف المسيحيين في دينهم ، حتى قال بعض قديسيهم : " إن اللوحات في الكنائس تشرح للأميين ما لا يستطيعون قراءته في بطون الكتب ".
أما الأدب الأوروبي المعاصر فهو حفيد الأدبين الأثيني و الروماني في نظرته للقدر ، و تصوره للكون و الإنسان و الحياة و العلاقة بين الله و الإنسان أو بين الطبيعة الغامضة و الإنسان ، إذ لا يختلف في خطوطه العامة عن تصور " سوفوكليس " أديب اليونانيين في مسرحية ﴿ أوديب﴾ و "يوربيدوس "و " فرجيل "و "بلوتوس " خاصة و أنه تلون بموجات الإلحاد و معاداة الكنيسة التي بدأت في عصر النهضة واستمرت مدة طويلة ، و قد استبدل الأديب الأوروبي في بعض الحالات به قدرا آخر كالطبيعة أو الظروف أو قوة المجتمع ، و حاول أن يفسر الألوهية في صورة مادية محسوسة ، دون أن يسقط قضية الصراع منها ، وهي القضية الكبرى في التصور اليوناني الوثني ... و ظل الإنسان في هذه الصورة مظلوما مقهورا ، و ظل في صراع مع القوة الغامضة الجديدة ، ينهزم أحيانا و ينتصر أحيانا أخرى. و قد حمل المسرح الأوروبي منذ العصر الكلاسيكي الجديد و حتى عصرنا الحاضر أشكالا من هذه الصورة القاتمة، و جسد صراع الإنسان المتوهم مع الألوهية و صور القدر ظلما مطلقا ينصب على الإنسان.!
و تقوم مسرحيات "آرمان سلاكرو" و "جان كوكتو" و "موريس مترلتر"و "البيركامي"و "جان بول سارتر" على فكرة الصراع مع القوة الخفية و الآلام المضخمة التي يعانيها الإنسان نتيجة لهذا الصراع ، فالمسرح المعاصر يعترف بالقدر و يخاف منه و يبحث من خلال تصوره له عن براءة للفرد الأوروبي من ذنوبه وإلحاده للتخلص من تبعة الذنوب و الإلحاد و التناقضات و إلقائها على قوة غيبية لا يريد أن يبحث عن حقيقتها ، و توهم الأديب الغربي أنه لا مجال لأن يلتقي قدر الله و إرادة الإنسان في انسجام و توافق جعله يصرخ بهستيرية عجيبة ، لماذا الحياة ؟! و ما المصير؟.
في الحقيقة ، لقد ساعدت عدة عوامل على تأصل مثل هذا الفن الهائم الضائع في متاهات التاريخ ، في أوروبا و في أصقاع مختلفة من العالم (راجع كتاب : بن سالم بن عمر( محمد) نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه – المطبعة العصرية ،2009 / الطبعة الأولى .) ، و قد ساهمت الكنيسة بدور هام في تكريس واقع الضياع و التخبط ... فلقد جعل كهنة الكنيسة:
- راجع كتاب : بن سالم بن عمر( محمد) نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه – المطبعة العصرية ،2009 / الطبعة الأولى .
"النصرانية " : مرقعات من البوذية و الوثنية ، و جعلوا التعاليم الدينية كلمات جوفاء من أي مدلول روحي سام يجتذب الأفئدة و يسر البصائر ، و حرفوا الكلم عن مواضعه ليشتروا بذلك ثمنا قليلا ، فطغت الخرافات و الأساطير و ألبس الحق بالباطل ...؟! و تولد عن ذلك نزعة عقلية نقدية انتشرت بسرعة، بسبب النقمة على الكنيسة و الضيق من تسلطها على الناس و الحكام و إشعال الحروب الصليبية التي دفعت أعدادا كبيرة من الناس إليها ، و النظام الإقطاعي الذي سام الناس ظلما وخسفا و باركته الكنيسة و شاركت فيه ، و موقف رجال الدين المشين من العلم و العلماء ... هذه العوامل ساعدت على إقناع الناس بالدعوة العقلية و بناء الحياة بمعزل عن الكنيسة و ترهاتها ، فانتشرت الفلسفة العقلية في بداية ما اصطلح عليه بعصر النهضة ، و كان لهذه الفلسفة تصورات بديلة للتصورات المسيحية السائدة ، فشجعت حركة الإلحاد و حولت مقاليد الإنسان من الغيب و القدر – كما هو في التصور النصراني الذي يثلث أو يوحد – إلى العقل البشري ، و جعلت ما يقدمه العقل من تشريعات و تنظيمات هو الحكم ، و أعطت منجزات الإنسان قبل المسيحية – الرومانية و اليونانية – الأولوية ، ووجهت الباحثين إلى دراستها و تنظيمها ، لأنه إبداع إنساني لا يستلهم تعاليم السماء ، و أصبح النظام العقلي هو الذي يدير قضايا الحياة كلها من السياسة ، حيث "الميكيافلية " ، إلى الفنون و الآداب ، حيث يحيط العقل بالعواطف البشرية ، و لم تعد أراء الكنيسة مسموعة و لم يعد الأدب الذي يستند إلى التصورات النصرانية – أدب العصور الوسطى – مقبولا لدى النقاد و الجمهور . و ظهرت الكلاسيكية الأدبية معبرة عن هذا الواقع الجديد بفضل "كورني "و "موليير" و " راسين " الذين أعجبوا بالنظام الكلاسيكي و الأدب اليوناني فأخذوا بقواعدهما و استخرجوا أصول الكلاسيكية من الأدب القديم و من كتاب "أرسطو " و الشروح التالية عليه و طبقوها في مسرحياتهم وأدبهم . و هيأت الظروف التي أحاطت بالغربيين في القرن التاسع عشر للتيارات الفردية و فلسفاتها ، فقد كثرت الحروب و اشتدت النزعة الإستعمارية ، و توالت الأزمات الإقتصادية و الإضطرابات الإجتماعية ، فأصيب الفرد الغربي بموجات من خيبة الأمل و اليأس ، و بدأ يفقد الثقة بالنظام العقلي الذي أنجب الكلاسيكية ، و شعر بالحاجة الشديدة إلى ملاذ عاطفي ، فأقبل على الفلسفات المثالية ، و طبقها في ميادين حياته ، و على رأسها الفن و الأدب . و من مظاهر ذلك تشكل المدرسة الرومانسية الفرنسية بفضل قصائد "سندال "و "الفريد دي موسيه " و "ستندال " و "لامرتين " و "شاتوبريان " و مسرحيات "فكتور هوجو" .و قد حملت الرومانسية الفرنسية خلفها ركاما هائلا من الظروف المضطربة و الفشل و خيبات الأمل و عجز العلمانية عن تحقيق حلم الإنسان بالسعادة . و لقد آمن الأدباء الرومانسيون بالمبادئ التي طرحتها الفلسفات المثالية و ثاروا من خلال إبداعاتهم الأدبية على الكلاسيكية و مبادئها. و ظهرت الرومانسية الأنقليزية بفضل قصائد "وردزورث " و "ولييم بليك " و " كولردج " و " شيللي "التي جسدت النزعة الفردية و الإهتمام الشديد بالعاطفة و الوجدان . و استوت الرومانسية مذهبا أدبيا واضح المعالم بفضل كتابات " هربرت ريد " و "ولييم بليك " و " كولردج " و "هوجو" و "سيلر" و آخرين . كما ساهمت منذ منتصف القرن العشرين الحربان العالميتان ، و الأزمات الإقتصادية الكبرى ، و تفكك الأسرة الغربية و تردي الأخلاق و موجات الحيرة و القلق و الضياع .. في جعل الفرد الغربي مستعدا لقبول الفلسفات الواقعية و الماركسية و الوجودية ، فأدب الإشتراكيين الماركسيين عبر بدقة عن المذهب المادي الجدلي الذي يربط الحياة كلها بمحور واحد هو المادة ، و يدير ظهره نهائيا لعالم الغيب و الخالق . كما أن المذهب الواقعي الإشتراكي لم يظهر إلا بعد أن ظهر " مكسيم غوركي " و "بوشكين " و آخرون اقتنعوا بالمبادئ الماركسية و أنتجوا أدبا يبرز قضاياها الرئيسية . كما كان لكتابات " سوتشكوف " و "روجيه غارودي " و "أرنست فيشر " و " جورج لوكاتش " الفضل في تأصيل الواقعية الإشتراكية . و عكس أدب الوجوديين فلسفتهم الغارقة في الوجود المادي و المنقطعة عن السماء و العاجزة عن التعامل مع البيئة ، و قد استوت الوجودية مذهبا أدبيا بفضل كتابات " سارتر " عن الإلتزام و تحليلاته الأدبية . و لعل أهم القضايا التي يحملها الأدب الوجودي تتمثل في عبثية الحياة ، و التمرد الفوضوي على المجتمع ، و القلق الدائم ، و لا سيما القلق من الموت ، و اعتبار الموت نهاية غير عادلة للحياة ، و تنصيب الذات البشرية في مقام الألوهية ، و منحها القدرة الكاملة على تسيير الحياة . و منذ ما سمي بعهد الإصلاح و النهضة أخذت هذه المفاهيم الغربية تنتقل إلى قدر من الأدباء في البلاد العربية و الإسلامية، أقبلوا على الثقافة الغربية و أعجبوا بالأدب الغربي و مذاهبه ، و فتنوا بمسرحه و لم يحسوا بما فيه من أمراض ، فدبت فيهم العدوى و ولعوا بكل ما ينتجه الغربيون في الفن ، و ما لبث إنتاجهم الأدبي أن حمل جراثيم كثيرة فتاكة ...! أخطرها النظرة الغارقة في التشاؤم للحياة و التصور القاتم للقدر ، فإذا بهم يناقشون في أشعارهم أو قصصهم أو مسرحياتهم قضايا الحياة و الموت و يبثون في شخصياتهم الأدبية التي ينشئونها شعور العبث و الظلم ، و تجري على ألسنتها عبارات الخصومة و التمرد و الصراع ، ليقولوا لك في النهاية أن الحياة عبث لا طائل وراءه ، و أن الإنسان مقهور شاء أم أبى !؟إن هذه النقلة الخطيرة في أدبنا و نظرتنا للكون و الإنسان و الحياة ، لم تأت صدفة بل هناك ما يبررها : فبالإضافة إلى الإستعمار الذي بسط نفوذه على جل البلاد العربية و الإسلامية و قام بمجهودات جبارة لاجتثاث هويتنا ، و انبهارنا بمنجزاته الحضارية ، -انبهار الغالب بالمغلوب - قام الإستشراق بدور خطير في مجريات أدابنا و علومنا و فننا عموما ، فقد ظل المستشرقون أساتذة لعلوم حضارتنا لفترة طويلة مما مكنهم من تربية جيل واسع ممن أشربوا مفاهيمهم و تجربتهم و روحهم المعادية لقيمنا الحضارية الأصيلة ، و قد تربى هذا الجيل على مناهجهم في تناول القضايا المختلفة دون مراعاة خصوصيتنا الحضارية و قيمنا الإسلامية . و بعد أن انحصر دور المستشرقين في بلادنا العربية و الإسلامية خرج هؤلاء التلاميذ أساتذة لعلومنا و فنوننا ، و كان دورهم أخطر ، و ضرباتهم أعنف في نقل الخراب إلى ديارنا من المستشرقين أنفسهم . و هكذا بدأت مع بدايات العصر الحديث الغزوة الحضارية الكبرى لبلدان العالم العربي و الإسلامي ، و استيقظت معها كل دعاوي الشعوبيين ، و أعداء أمتنا ، لتصبح العنصرية و العرقية هما التكوين الإنتمائي ، و تبدأ الغربة الطويلة التي تعيشها الأمة العربية و الإسلامية .. !!؟ من ذلك إقدام طه حسين على الطعن في أصول اللغة العربية حتى ينهار الأساس الذي نفسر به تراث الأجداد ، و يصبح التفسير و الشرح تحكميا ، و بانهيار الأسلوب العربي ينهار الأسلوب القرآني كذلك ، لشدة الصلة بينهما و نزول القرآن " بلسان عربي مبين ". كما حوربت القيم التي بنى عليها المسلمون حضارتهم و أزيحت فكرة الأصول الثابتة بهدف تغليب طوابع التطور المطلق الذي لا يعترف أساسا بالضوابط و الحدود، ففي سنة 1930م ارتفع صوت محمد عبد الله عنان في مقال له في "السياسة الأسبوعية " قائلا: «.. أعتقد أن المستقبل ليس لأدب القصة ، و أن هذا النوع من الكتابة سيبقى في مكانه بعيدا عن النهضة الفكرية و الأدبية العامة ، ما بقيت الحياة الإسلامية قائمة على أصولها و تقاليدها الأثيلة ، و ما بقي للأخلاق و الخلال معيارها الإسلامي "!؟
و قد أشر هذا لفتح الطريق أمام حرية الإباحية و تمجيد العلاقة الجنسية خارج نطاق الزواج الشرعي و الجرأة على كل القيم و المعايير الإسلامية الثابتة ، و أصبحت هذه الجرأة على قيم الإسلام شرطا من شروط الإبداع حسب البعض ، يقول علي أحمد سعيد " أدونيس " : " إن السبب الذي يكنه العرب للإبداع ، هو أن الثقافة العربية بشكلها الموروث هي ثقافة ذات معنى ديني "!!؟ و يضيف كمال أبوديب في هذا المعنى : " من الدال جدا على أن النص المقدس في جميع الثقافات التي نعرفها هو نص قديم ، فليس هناك من نص مقدس حديث و الحداثة بهذا المعنى هي ظاهرة اللاقداسة ... و لا سبيل لأن يكون الأدب حديثا إلا إذا رفض كل نص مقدس و أصبح نقيضا لكل ما هو مقدس حتى العبادة " ! ؟ راجع ردا على هذه الترهات في كتاب : بن سالم بن عمر( محمد) نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه – المطبعة العصرية ،2009 / الطبعة الأولى / جدلية الحداثة التغريبية و التخلف." بل تصل الجرأة ببعض الكتاب أن يبشروا بالحقد و الكراهية و الأنانية و تمني الموت ، يقول الأستاذ "ولسون" في كتابه " اللامنتمي " لا صلاح لهذا العالم المليء بالتناقضات إلا بالثورة و الغضب و عدم الإنتماء إلى أية قيمة أخلاقية من القيم الموروثة بل لا بد من مواجهة العالم بكل مشاعر الحقد و الكراهية " !! و يقول محمد الماغوط في نفس الموضوع : " على اللامنتمي أن يحس باللاجدوى لأن هذا الوجود بلا موقف و لا دليل و لا مستقر و لا مرشد ، فليس للامنتمي إلا الإحساس بالسأم و يتمنى الموت و الأنانية الفردية و رفض كل المعطيات الخارجية " !! إن هذه الثقافات المستعارة ، و القيم الغريبة و التقليد الأعمى للغرب ، قد سرب إلى النفوس جموحا عاطفيا سلبيا و أورثها العلل الذي أفرزتها الفلسفات الفردية كالوجودية و الرومانسية و غيرهما ، و لعلنا لا نشك في أن الفكر الوجودي يمثل أعظم الروافد التي أشاعت موجات الإغتراب و الضياع في إبداعاتنا الشعرية و الفنية عموما ، لقد أصبح الإنسان بفضل هذه " الفلسفات " يحس بالضياع و الغربة في عالم التكرار الممل الذي فقد المعنى ، عالم يحس فيه الإنسان بوحدته و تفرده و نفيه في هذا الكون ، بعد أن يرفض العناية الإلاهية و هدايتها له في كل التفاصيل الحياتية و يتمرد على كل قيم سابقة تعوق تحقيق وجوده !؟
خصائص الفن الهائم
بينا حتى الآن كيف كان "الفن الهائم " وليد فلسفات مريضة و تيارات جانحة منحرفة من الفكر و الثقافة الإعتقاد ، و نظرة خاطئة لحقيقة الألوهية و القدر ، و قد انعكس كل ذلك على مختلف الفنون و أصبحت جل الإبداعات الفنية لا تعكس إلا الحيرة و التخبط ، و الهروب من المواقف الجادة ، و الإنسلاخ عن الدين الحق و معطياته ، و الإغراق في اليأس و القنوط ، و النزوع إلى الهدم و التحلل . و لقد عانى المجتمع الإسلامي منذ عهد النبوة من مثل هذا الفن الهائم على وجهه ، و الضائع في متاهات التاريخ و الذي تخطى حرمات العقيدة و العقل ، و حمل صورا و مواقف و قضايا معادية للإسلام ، كالشعر الذي هجا به الشعراء المشركون رسول الله صلى الله عليه و سلم و الصحابة الكرام ، و تبذلوا فيه حتى ولغوا في أعراضهم و سخروا فيه من المفهومات الإسلامية ، و كالشعر و النثر الذين يدعوان إلى الرذيلة أو إلى قضية يحاربها الإسلام ، أو يسوغان محرما . و قد واجه المسلمون هذا التيار ، فأهدر الرسول صلى الله عليه و سلم دماء الشعراء الذين نالوا من مبادئ الإسلام و من أعراض المسلمين ، و أمر صلى الله عليه و سلم بقتل عدد من الشعراء المشركين و اليهود ممن آذوا المسلمين بشعرهم منهم على سبيل المثال : أبو عفك أحد بني عمرو بن عوف ، و عبد الله بن خطل القرشي ، و مقيس بن صبابة الكناني ، و أبو عزة الجمحي ، و عصماء بنت مروان ، و كعب بن الأشرف ، و أبو رافع سلام بن أبي الحقيق . و هناك شعراء لم ينفذ فيهم القتل لهروبهم أو توبتهم و دخولهم في الإسلام ، مثل هبيرة بن أبي وهب ، و الحارث بن هشام (" أنظر سيرة بن هشام 5/636، و الطبري 3/59"). و سار الخلفاء الراشدون على نهج النبوة فراقبوا إلتزام الشعراء بالإطار الخلقي الإسلامي و عاقبوا الشعراء الخارجين عليه كالحطيئة و ضابئ البرجمي و الأحوص ... و كانت هذه المواقف درسا من دروس التوجيه و شكلا من أشكال معالجة العلاقة السلبية بين الأدب و الإسلام .كما ظهرت تجاوزات في العصور التالية تخطت جدران العقيدة ، كالغزل بالغلمان و التعهر و الدعوة إلى معاقرة الخمرة و التغني بها ، و إعلان الإيمان بالحلول و التناسخ و الإلحاد ، و العبث بالقيم الإسلامية على سبيل الدعابة أو المجون ... و غير ذلك من التجاوزات الكبيرة و الصغيرة ، فعارضتها السلطات الرسمية ، و عوقب أصحابها بالسجن أو القتل ، كما حدث لبشار و الحلاج . و قد تطورت هذه الحالات الشاذة في الأدب العربي و الإسلامي في العصر الحديث ، و شهد تغيرات هائلة دفعت جله إلى جزر نائية حتى غدا هذا الفن غريبا عن فن الإسلام ، دخيلا
- أنظر سيرة بن هشام 5/636، و الطبري 3/59
عليه ، و صرنا لا نرى في إنتاج أدباء هذه الأيام العجاف ، إلا الحيرة و التخبط ، و سكب الدموع و تصعيد الآهات ، و السخط على الحياة و الأحياء ، و التنكر للقيم الرفيعة و المبادئ السامية ، و الإنسلاخ عن الدين و أهدافه ، و الإغراق في اليأس و القنوط ... !؟ و لعل أبرز ما يميز هؤلاء الأدباء ميلهم الشديد إلى تصوير الآلام النفسية ، و الإنتكاسات العاطفية ، و هم مغرمون بتصوير الأحزان و العذاب و الهجر ... إن مثل هذا الأدب لا يستطيع أن ينهض بأمة، أو يبني قوة قادرة أو يشكل من المستقبل جنة وارفة الظلال، تفوح بالحب و الأمل و العمل البناء ، لأنه لا يقوم برموزه و دلالاته على أسس سليمة من الواقع التاريخي أو التجريبي . كما أصبح الحزن غاية في حد ذاته ، لأنهم يرسمون لوحات تطفح باليأس و الألم و قسوة الحياة ، و يعكس إيقاعها الناقم المتشائم رؤية نفس مدمرة ساخطة ، و ينظرون إلى الناس نظرة فيها الكثير من المقت و الإنكار و النقمة .
و لا شك أن مثل هذا الأدب يصدر عن نفس حائرة مضطربة بلا عقيدة ، أو بعقيدة قد اهتزت أمامها السبل فتركت صاحبها بلا يقين و لذلك جاء إفرازها أيضا حائرا مضطربا ، و ضالا عن هداية الله ، لا يرى اتساقا في الكون و إنما عبثا ، و لا ينتظر أملا بل يلف روحه التشاؤم ، و لا يرى لوجوده ووجود البشرية غاية ، ما دامت علة الوجود عن نفسه غائبة ، فكل إناء بما فيه يرشح و من فارقه الإيمان و جافاه اليقين فقد تلازمه الحيرة و يغلب على سلوكه العبث و سيبقى أبدا كما كان "سيزيف" في الأسطورة اليونانية ، حاملا صخرته صاعدا بها ، فساقطة منه ، و بينما هو يواصل الحمل و الصعود ، يظل قانون العبث ، و اللامنطق و العشوائية و اللاجدوى يحكم العالم .! و قديما تصور عمر الخيام الكون كتابا لا ينفذ العلم البشري إلى واحد من سطوره ، و غيبا مجهولا يطرقه الإنسان دون جدوى ، فجاء شعره موغلا في الضياع و العبث و السلبية ، و انغمس حتى الأذقان في اللذة بأشكالها و صنوفها جميعا أملا في التخفيف من الألم و التساؤل و الحيرة ؟! و صور لنا الناقد الألماني "هيلموت أوليج " واقع الأديب العالمي "هنري ميلر" فقال : " إن عالمه يقوم على ازدراء العمل و تعاطي الشراب كمخدر و الإتصال الجنسي ، و أن هذا العالم عنده هو العلة الغائية للوجود ، و الإباحية هي منوال الحياة ، وهو يعتمد على كل المثيرات العنيفة "-"( معنى الواقعية ص 54") ﴿ ﴾ و منذ ديوانه الأول راح صلاح عبد الصبور ﴿ ﴾" (عنوان الديوان : الناس في بلادي ") يصرخ في قصائده أن الحياة عبث ، و أن الناموس الذي يسيرها خطأ، و أن فيها انحرافا صميما يعجز الإنسان عن إصلاحه ، و أن الموت نهاية غير عادلة للحياة ، و أن القدر ظلم محض ...!و عبرت قصائد بدر شاكر السياب كلها تقريبا عن صيحات الإنكار و الحيرة و التخبط في دياجير الظلام
- معنى الواقعية ص 54
- عنوان الديوان : الناس في بلادي .
!؟أما الموضوعات المطروقة في القصة العربية فتدور جلها حول " الحب "أو " الخيانة الزوجية " ، أو الحديث عن حياة البغايا و الراقصات ... و تغرق أحداث القصة بتفصيل حالات الإنحراف و السقوط ، و تصويرها في صورة لذيذة ، تحمل بذور الشر التي تنمو و تطغى على المقاصد النبيلة التي يمكن أن توجد في القصة ، و توحي القصة لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن تسارع إلى عشيق ، و تسمي ارتباطها بعشيقها هذا رباطا مقدسا !!؟ بينما يسمى ارتباطها بزوجها عقد بيع الجسد ! و قد بذل كتاب القصة و لا يزالون جهودا منظمة لإنشاء موازين و قيم و تصورات غريبة عن مجتمعنا العربي الإسلامي . و سعوا جاهدين إلى إطلاق الغرائز من كل عقال إخلاقي ، قصد انطلاق السعار الجنسي المحموم بلا حواجز .. باسم الحرية، وهي عندهم لا تعني سوى الشهوة و النزوة. يقول فؤاد دوارة في نقده لقصة " لا أنام " لإحسان عبد القدوس : " لا أعرف قيمة فنية واحدة يمكن أن تدفع الكاتب الروائي إلى أن يملأ روايته بكل هذه التفصيلات الدقيقة عن أفضل السبل لخداع الأهل و ممارسة الرذيلة في أمن و دعة"﴿ ﴾ " - في الرواية المصرية ص 136 .".أعتقد أن أدب الإنحلال و العبودية الذي يبشر به هؤلاء الكتاب/ "الأدباء" لا يمكن أن يجد صدى لدى الناس و يروج بينهم إلا حين تفرغ الشعوب من القدرة على الكفاح في سبيل مثل أرفع من شهوة الجسد ، لأنه كلما غابت الفكرة ، يعلو الصنم ، صنم البطن و الجنس و عبادة الذات ، و تتقلص اهتمامات الإنسان و فعاليته الإجتماعية ، فيصبح المأكل و الملبس و الزينة المبالغ فيها و الجنس المحموم و تزجية الوقت في اللهو و العبث شغل الإنسان الشاغل ، و بذلك يفقد الفن أي تأثير في البناء و يصبح أداة هدم ، يبث في أعماق النفس اليأس و الخراب و الإستسلام للواقع المرير و لشهوات النفس الأمارة بالسوء بطبعها . و حينئذ يأتي دور الكتاب الذين تخصصوا في إعطاء الشعوب جرعة من الوهم و الخيال للتعويض عن الواقع ،و ذلك بسرد القصص الخيالية الكاذبة التي تعطي الوهم بدلا من إعطاء الحقيقة ، و استعارة الرموز التي تتنافى مع عقائدنا و ثوابتنا و بصائرنا القرآنية لإفساد الذوق السليم و التصور الراقي و التمكين للفردية و الأنانية و الرفض
- في الرواية المصرية ص 136
المطلق لكل ماهو غيبي ، و نسخ الكثير من المثل العليا ، و القيم السامقة التي بشرت بها كل رسالات الأنبياء عليهم السلام .
إن هذا الفهم الخاطئ للفن عموما و دوره في واقع الحياة هو الذي مهد لولادة شعر غامض لا طعم له و لا رائحة بل و يتربص التعقيد بالقصيدة من مطلعها إلى آخرها ، و هذا الغموض و التعقيد ، يقف في وجهك شاهرا سيفه و لا يتيح لك فرصة ولوج عالم الشعر – إن كان هناك عالم أصلا – و أصبح "الشعراء " في هذا الزمن الأغبر يستعذبون حشد كم هائل من المصطلحات و الألفاظ التي تستعصي على الفهم بالنسبة للقراء ، و في غالب الأحيان بالنسبة "للشاعر" نفسه . و هكذا أصبح الغموض و الإبهام و الرمز الغريب من سمات الشعر الحديث ، واختلط الشعر بالنثر ، و الغامض بالمفهوم ، و السهل بالصعب واعتقد بعضهم - أمثال أدونيس – أن الغموض هو القوة المحفزة على ولوج عالم الشاعر ، و أن الوضوح يسلب في كثير من الأحيان تلك المتعة التي يحققها الغموض !؟ إن أمثال هؤلاء " الشعراء " قد برهنوا في الحقيقة على الإفلاس الإبداعي الصحيح ، لأن الغموض لن يمكنهم من الوصول إلى عقول الناس و وجداناتهم ، و الشعر الذي لا يحدث تأثيرا في عقل الإنسان و وجدانه ليس بشعر. و سنسوق هنا اعتراف أحد هؤلاء " الشعراء " بتفاهة ما يكتبه بعض زملائه ، يقول أدونيس : " في الشعر الجديد اختلاط و فوضى و غرور تافه و شبه أمية ، و من الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلب الشعر من إدراك لأسرار اللغة و السيطرة عليها و من لا يعرف من فن الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما ، إن الشعر الجديد مليء بالحواة و المهرجين "!
بالإضافة إلى كل ما سبق ذكره ظهرت فئة مرتزقة من الأدباء و الفنانين حادت بالفن عن رسالته السامية في الحياة و قد و صفهم أحد الشعراء خير وصف حين قال :
وهم الجمع ثوب أو رغيف و صك من رصيد أو حوالــه
و ألقاب يتيه بها قرود و ليس لها معان أو دلالــــه
فخامته هزيل ليس يدري بأن الناس قد فضحوا هزاله
و هذه الفئة تتعلق بالأشكال و الأمجاد الزائفة ، وهي في سعي دائب لتحضى بلقب " المفكر " أو " المثقف " أو" أستاذ الجيل" إلى غير ذلك من الألقاب التي يحن إليها ضعاف العقول ، و تصل السفالة بهؤلاء إلى قلب حقائق الأشياء وسط عالم مليء بالضجيج و الخداع ، و يصير الفن أداة هدم وآلة تشويه للحياة ، و لن يكون هذا الفن إلا فنا ميتا لا يتعدى تأثيره حدود زمانه و مكانه لأنه فن طبول دعاية و نفاق و تملق و تزييف و تدليس . و قد يمدح اليوم ما كان هجاه بالأمس ، و قد يهجو غدا ما كان قد مدحه اليوم . و هكذا هم في كل واد يهيمون، و يقولون ما لا يفعلون... حتى بدا لقائل : أن وطنه قد ولد من رحم طبلة و أن الناس قد صاروا يتنفسون من زكرة !؟
راجع تفصيل ذلك في :
Islam3mille.blogspot.com
http://www.elaphblog.com/islam3000
http://www.elaphblog.com/daawatalhak
http://www.elaphblog.com/islamonegod
للتواصل مع الكاتب :
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
Portable :00216 93833734
التعليقات (0)