مواضيع اليوم

في فلسطين .. ثورة حتى المجهول

بلال الشوبكي

2010-09-23 13:27:55

0

في فلسطين .. ثورة حتى المجهول!
بلال الشوبكي 

 لو جاز لي أن أصف الحرية كما أرى، لقلت: هي وعيٌ وتمكّن من خلق البدائل، وقدرة على الاختيار بعد المفاضلة. بعبارة أخرى، هي الاختيار من متعدد اعتماداً على العقل، فمن لا يمتلك سوى فكرة فهو عبد لها، ولمن يسعى للحرية بمنهجية لا توالد للأفكار فيها، فهو أسير للمنهجية، وجلُّ المصائب أن يكون الأسير عقلاً، ومن معاني أسر العقل، تحول الوسائل إلى غايات. كيف؟ الأسير لا يرى سوى آسره وجدران الأسر. وأسير المنهجية لا يرى غيرها من وسائل وليس بمقدروه رؤية الغايات خلف جدار الوسيلة، حينها؛ فإن أقصى نظره سيكون حدود منهجيته الضيقة.
في فلسطين ولدت ثورة حتى النصر، شبّت ثورة حتى النصر، شابت ثورة حتى الثورة. هذه الجملة ملخص تشخيص الوضع الفلسطيني القائم. فالثورة إطار منهجية التحرير، والنصر غايتها. عشرات السنين مضت ولم تؤت الثورة أكلها. لماذا؟ لسبب أساسي، هو انقطاع خلق البدائل، وتأسيساً على ما أوردت أعلاه، فإن الثائر الفلسطيني لم يعد قادراً على المفاضلة، ليتحول إلى أسير للمنهجية. وحين تبنى البعض منهجية أخرى، لم ينعم الفلسطيني بالقدرة على الاختيار من متعدد، لأن المجتمع انقسم إلى اثنين، كلٌّ عبد لمنهجيته، يحرم النظر إلى نظيره، والأمر الأخطر أنه لا يفكر بخلق بدائل أخرى حتى لو كان الأمر تطويراً لمنهجيته لا نفياً لها.
أورد قولي هذا، بعد أن رأيت التساؤلات حول جدوى المفاوضات المباشرة أو المقاومة المسلحة تمخر عباب وسائل الإعلام كافة. والسؤال الأهم في هذه المرحلة، لماذا لم ينجح أي من الخيارين في تحقيق أهدافه؟ ولماذا لم يتم تطوير تلك المنهجيات أو خلق غيرها؟ الإجابة بالإضافة إلى ما سبق هو الآتي:
انفصام القيادة إلى فكرية وسياسية
إن عدم خلق البدائل من الأفكار هو أمر متعلق بالمفكر ذاته، وإذا كان لكل مجتمع مفكريه، فكيف تنضبُ الأفكار؟ وكيف تسير الثورة دون فكر؟ الإجابة مفادها: إبطال لدور المفكر، فهو موجود ومنتج للبدائل وفي فلسطين نماذج عدة لمفكرين ينحني لهم القلم، لكن أفكارهم تحاصرها الكتب، ولم تنتقل إلى ما هو أبعد من ذلك، ومرد الأمر لانفصام القيادة.
يقول عبد الحميد أبو سليمان في كتابه أزمة العقل المسلم، أن أول أسباب أزمة الفكر في العالم الإسلامي متجذرة في التاريخ حين انفصلت القيادة السياسية عن القيادة الفكرية. في فلسطين لا يبدو الأمر مختلفًا جداً عما طرحه أبو سليمان، فالمجتمع الفلسطيني يعاني انفصاما في القيادة فكرياً وسياسياً، فحين تغيرت القاعدة السياسية التي تعتمد عليها الثورة لصالح قاعدة سياسية مُستوردٌ من هم قائمون عليها، فإن القيادة السياسية ليس من مصلحتها التماهي مع القيادة الفكرية لتشكل قيادة واحدة، بل ليس بالامكان ذلك لاختلاف الغايات.
فالقيادة الفكرية غايتها الحرية، والقيادة السياسية غايتها البقاء، لأنها؛ على عكس الفكرية وجودها مرتبط بتحقق الهدف، فالقيادة السياسية أداة آنية، أما الفكر فهو متجدد رغم تحقق الأهداف. للتوضيح أكثر، فإن أي حركة تحرر في العالم وجودها مرتبط بوجود المحتل أو المستعمر، بما يعني أن تحقيق أهدافها هو فقدان لمبرر وجودها. لكن كيف للقيادة السياسية أن تسعى لوجودها فقط؟ تسعى لذلك حين تنشأ منفصلة عن الأهداف، بل إنها تنشأ في بعض الأحيان بثقافة تؤمن بأن تحقيق الأهداف محض أوهام، ومع الوقت تتشكل ثقافة سياسية تؤمن بالوسيلة أكثر من الغاية، فتصبح أسيرة ذاتها كأداة.

الفساد
السبب الآخر لسعي حركات التحرر للبقاء -والبقاء أمر مختلف عن الصمود هنا، فبقاء حركات التحرر يعني بقاء المُستعبِد- هو الفساد. حين تمر حركات التحرر بفترات طويلة دون تحقيق الأهداف، فإن القاعدة السياسية غير الواعية ستفرز قيادات أو ترضى بقيادات تحافظ على المنهجية لإيمانها بالمنهجية كهدف. ولن يقبل بهذه المهمة إلا القيادة التي تسعى للمنفعة من وراء هذا الموقع، فيلتقي هدفها ببقاء حركة التحرر كمصدر للمنفعة الذاتية مع هدف القاعدة فاقدة البدائل ببقاء حركة التحرر كوسيلة في زيّ غاية.
وعليه؛ فإن القيادة السياسية ستسعى لمحاربة المفكرين في المجتمع، لأنها تدرك خطورة بقائهم كمصدر لا ينضب للأفكار والبدائل، والتي يعني الإيمان بأي منها تغيُّر المنهجية التي يرتبط وجودهم كقادة بوجودها. وهنا لا بد من الإشارة، أن كثرٌ من يستهجنون بقاء المفكرين خارج نطاق التأثير بفاعلية في الشأن العام، والحقُّ أن يقال: إن المفكرين أُخرجوا ولم يخرجوا من دائرة التأثير عبر وسائل عدة قد تصل حد الإغتيال. وفي بعض الحالات الجزئية التي تسعى فيها القيادة السياسية لعدم الصدام مع القيادة الفكرية، فإن الهدف يكون الاحتواء مع إفقادهم المنابر اللازمة لإيصال أفكارهم، ورهن الوصول إليها بمهادنة القيادة السياسية، والنتيجة المتوقعة عزلة المفكرين أو هجرتهم.
البوصلة تشير إلى الداخل!
ما يزيد الأمور تعقيداً في مثل هذه الحالات، هو أن النتيجة لا تكون فقط عدم تحقق الأهداف التي من أجلها انبثقت حركات التحرر، وإنما آثارا كارثية على بنية المجتمع ذاته. فانقسام المنهجيات في ظل الانغلاق الفكري، يعني انقسام المجتمع إلى اثنين أو أكثر. فحين يتحول المنهج إلى مبتغى كما تم الإيضاح سابقاً فإن الغاية الأولى التي من أجلها أُوجِدت الوسائل المتحولة إلى غايات ستكون قد اندثرت، وفي الحالة الفلسطينية فإن هذه الغاية المندثرة هي الحرية.
الآن، لدينا غاية صُوَرِيَّة هي الحرية ونيل الاستقلال، وقد فقدت معناها الحقيقي. والغايات الفعلية لا صلة لها بوجود الاحتلال. النتيجة، هي فقدان التناقض مع الاحتلال لأن التحرير لم يعد هدفاً. وبما أن المنهج أصبح غاية كل من لديه منهج، فإن تناقضاً في الغايات أصبح قائماً داخل نفس المجتمع. والمنطق يقول أن التناقض والاختلاف والخلاف في أي مجتمع يجب ألا يتعدى الوسائل أو الأهداف الجزئية؛ لإن معنى وجود تناقض في الهدف العام، أن الانقسام والعداء سيصبح أمراً حتمياً، وهو ما أصبح فعلاً.
ولذلك فإن ردود أفعال كل طرف فلسطيني على نشاط الطرف الآخر أكبر بكثير من ردود الأفعال على سياسات الاحتلال الاسرائيلي. وفي كثير من الأحيان تحوّل رسم صيغة العلاقة مع الاحتلال إلى أداة في حرب الانقسام الداخلية، ولذلك لم تعد حتى المنهجية تتمتع بخصالها النظرية، فعلى أرض الواقع لا يوجد لا مفاوضات ولا مقاومة، وإنما:
• مساومة قائمة على الابتزاز يطلق عليها مفاوضات. ما أقصده هنا هو ما يعلمه كثير من الناس، أن المفاوض لا بد من امتلاكه نقاط قوة حتى يقوم بوظيفته، وإلا فإنه إذا ما تعرض لداء تحول الوسائل إلى غايات سيقبل بأي شيء مقابل وظيفة مفاوض. وهنا يمكننا أن نفهم كيف أن الحياة مفاوضات، وكيف يمكن الذهاب لمفاوضات مع الإعلان أن نسبة النجاح هي واحد في المئة. فهي الغاية لانعدام الفكر، وهي الغاية لارتباط وجود القائمين عليها بوجودها.
• صمود متكيّف يطلق عليه مقاومة. هناك فصائل مقاومة كثيرة، وترفض مفاوضة إسرائيل، لكن نشاطها المقاوم موسمي، ومن يقوم بالمقاومة فعلياً قلة من المجتمع. فإذا كانت المفاوضات هي مفاوضات الواحد في المئة نسبة نجاح، فإن المقاومة هي مقاومة الواحد في الألف نسبة مشاركة. الاحتلال الإسرائيلي ليس كأي حالة استعمارية، فمن يحتل فلسطين ليس جيشاً فقط حتى تقاومه الفصائل عسكرياً. هو احتلال مترافق مع إحلال لمجتمع مكان مجتمع. وإذا ما كان هناك إيمان بمنهجية المقاومة، فلا بد أن تكون مقاومة مجتمع لمجتمع، والمقاومة هنا أبعد بكثير من حمل بندقية، هي مقاومة الذات أولاً، ومن ثم مقاومة الاحتلال بشكل شمولي يتجاوز المفهوم المجتزأ للمقاومة.
يتباهى الفلسطينييون بأنهم استطاعوا حتى اللحظة الصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي، حقيقة الأمر هم صمدوا طويلاً، لكن صمودهم لم يكن مناوئاً للاحتلال وإنما متكيّفاً معه. فإغلاق إسرائيل لمداخل المدن في الضفة الغربية مثلاً لم ينل من عزيمة الفلسطينيين، لكنهم لم يخرجوا ليرفضوا وجود هذه الحواجز ومقاومتها، وإنما أجهدوا أنفسهم في اكتشاف طرق فرعية، ليصبح الأمر صموداً متكيّفاً مع سياسات الاحتلال، لا صموداً مناوئاً لسياسته. الحديث قد يطول حول الخلل الذي أصاب فكرة المقاومة، لكن بإيجاز يمكن القول: إن المقاومة بحاجة لإعادة دراستها في ضوء توسيع مفهومها واستمراريتها وشموليتها ووضوح غاياتها وضبط علاقة الجزء العسكري منها بالمجتمع المدني من حيث القطاعات المشاركة فيها.
• كاتب ومحلل سياسي فلسطيني، ماليزيا.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات