في غزةصفقة "شاليط" تحقق وعداً لطفلة فلسطينية نكثه بيل كلينتون
العربية نت _لندن - كمال قبيسي
منتصف ديسمبر/ كانون الأول 1998 في غزة: الرئيس الأمريكي آنذاك، بيل كلينتون، ومعه وزيرة خارجيته مادلين أولبرايت، وكذلك الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، إضافة لكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، وغيرهم الكثير، أحاطوا بطفلة فلسطينية حين جاؤوا بها للرئيس الأمريكي لتروي له مأساتها في العيش بعيدا عن والدها الذي مرت عليه ذلك العام 9 سنوات سجينا في إسرائيل، أي أقل بعامين مما كان عمر ابنته الصغيرة نهاد زقوت.
ذلك المشهد الذي تستعيده "العربية.نت" مع مبادلة الأسرى الفلسطينيين بالجندي الإسرائيلي، جلعاد شاليط، أغاظ الإسرائيليين كثيرا ذلك العام، لأن الوكالات بثت صورة عنه لوسائل الاعلام، وفيه نزل بعض الدمع من عيني كلينتون تأثرا ببكاء الطفلة وبما كان يترجمه صائب عريقات من كلماتها، فجفف كلينتون عينيه بمنديله، وأعطى المنديل لنهاد زقوت لتجفف دموعها أيضا.
وانتهى اللقاء بأن ربت كلينتون على كتفها ووعدها بأن يعمل على إطلاق سراح والدها من السجن الاسرائيلي في موعد أقصاه شهر. ولأن اللقاء كان بأوائل رمضان فقد برمجت الطفلة موعد اطلاق سراح أبيها بحيث يكون في عيد الفطر، ليأتي كهدية الفطر والعمر كله، ثم عادت الى بيتها في مخيم جباليا للاجئين، ومعها سكن في البيت حلمها بأن يفي زعيم أكبر دولة في العالم بوعده الرئاسي، فكان لا يفارق يقظتها.
وكانت الطفلة قلقة مما تسمعه من أخوتها ومن الجيران عن هادم كبير للأحلام الفلسطينية قد يعطل عليها الفرحة، لأنه كان ذلك العام، كما هو الآن، رئيسا لوزراء إسرائيل، واسمه بنيامين نتنياهو، فرسمت صورته في ذهنها كأكبر حجرة تسد على أبيها طريق العودة للبيت، ومن يومها تبرعم في مخيلتها سيناريو من التحدي معزز بوعد من رئيس الدولة الكبرى.
وهل الهلال حاملا معه عيد الفطر في 18 يناير/كانون الثاني 1999 بالفرح والمسرة للجميع، الا على نهاد زقوت، لأن والدها لم يعد الى البيت كما كانت تحلم، وكذلك لم يعد في عيد الفطر الثاني بعد عام، ثم مضى الزمن ومر 11 عيد فطر آخر عليها، من دون أن ترى الصغيرة والدها محمد عبد الرحمن زقوت الا خلف قضبان سجن "نفحة" الاسرائيلي، البعيد في صحراء النقب 100 كيلومتر عن "كالكوتا الشرق الأوسط" حيث غزة ومخيماتها التي لا تعرف مكانا غيرها للعيش.
مجنون وقتيلان إسرائيليان بأشهر شوارع تل أبيب الوالد الاسير واستدار الزمان على حلم الطفولة، حتى جاء الأسبوع الماضي بخبر لنهاد زقوت التي أصبح عمرها 24 سنة ومتزوجة وأم لابنتين بأنها سترى الوالد هذه المرة في البيت بجباليا، حيث كانت قبل الزواج تقيم مع والدتها، ميسرة زقوت، وأشقائها الأربعة: رامي ومحمد وماجد وجهاد، المتزوجين جميعهم الآن باستثاء الأخير، فغشيتها الفرحة مضاعفة لأنها شملت الانتصار على هادم أحلام الفلسطينيين، وفي عهده بالذات.
وما حدث لوالدها محمد زقوت، البالغ عمره الآن 48 سنة، يدعو للتأمل، فقد كان عاملا بسيطا في ورشة بناء بتل أبيب في الثمانينات حين بدأ يرى نفسه في مرآة ضميره كمساهم بإعمار دولة اغتصبت الأرض التي قامت عليها من أصحابها الشرعيين، وهو منهم.
لذلك لم يتحمل زقوت الاستمرار عاملا في ورش أصحابها عقاريون إسرائيليون، فانتصر عليه ضميره فجأة في أحد الأيام وقام بما اهتزت له تل أبيب: في 21 مارس/آذار 1989 نزل من ورشة كان يعمل فيها بشارع "ديزنغوف" الشهير في الوسط التجاري، وبيده سكين مسنون، وبدأ بطعن مميت في رقبة أول إسرائيلي وقعت عليه عيناه.
وكان القتيل مهما، لأنه كان المسؤول الأول ذلك الوقت عن هيئة البيئة بتل أبيب. ثم مضى وطعن اسرائيليا ثانيا، فأرداه قتيلا على الرصيف وسط صراخ المذعورين الهاربين. وبعده أسرع يركض نحو ثالث كان عند زاوية شارع قريب، فسدد له قبل أن تعتقله الشرطة طعنة بمؤخرة رأسه، ولم تكن قاتلة، لكن الاسرائيلي تمناها لو قضت عليه، لأن السكين غرزت في جزء من نخاعه الشوكي وحولته الى واحد من مجانين اسرائيل.
في ذلك العام كان عمر نهاد زقوت سنتين، ومن بعدها لم تر والدها الا مرة كل أسبوعين وهو أسير، الى حين زار الرئيس الأميركي الأسبق غزة في منتصف الشهر الأخير من 1998 فكتبت نهاد قبل زيارته بأسبوع الى سفيان أبو زينة، المسؤول ذلك الوقت عن "جمعية الأسرى الفلسطينيين" لتعلمه برغبتها في لقاء الرئيس كلينتون، أو "وحيد القرن" كما كان يسميه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
كتبت على الورقة تقول: "..لأنهم قالوا لي انه زعيم أكبر دولة، ويقدر يضغط على نتنياهو ليخرج والدي من سجن نفحة" بحسب ما أنهت رسالتها، فكان اللقاء بكلينتون شهيرا، واستمر ربع ساعة، وانتهى بوعد مبلل بالدمع الفلسطيني الأميركي، لكنه كان شبيها بزبد الموج حين يرتمي عند شاطئ غزة: ما أن خرج من فم سيد البيت الأبيض حتى تبعثر وتبخر.
نسخة من فيلم "رسالة إلى كلينتون" للبيت الأبيض الطفلة نهاد زقوت تحدّث بيل كلينتون عن أبيها الأسير بعد 3 سنوات قام المخرج الفلسطيني، سعود مهنا، بإعداد فيلم عن نهاد زقوت، وسماه "رسالة الى كلينتون" وهو قصير مدته 16 دقيقة، وكلفته كانت 10 آلاف دولار، وفيه صوّر شعور طفلة فقدت الأمل بأن ترى الأب الذي وعدها رئيس أميركي بإطلاق سراحه، وحنث بوعده المشهود ولم يفعل.
ثم قام مهنا بترجمة الفيلم الى الانجليزية وأرسل نسخة منه الى البيت الأبيض "لعل وعسى يتذكر الوعد ويفي به قبل انتهاء ولايته" وفقا لما ورد في خبر كتبته عن الفيلم الذي حدثني عنه مهنا عبر الهاتف من مكتبه بالمحطة الفضائية الفلسطينية، حيث كان يعمل وقتها في غزة.
وكان المخرج البالغ عمره 53 سنة حاليا، استمد قصة الفيلم مما قرأه عن نهاد زقوت، وبعضه من 3 موضوعات كتبتها عنها على مراحل، وأولها كان "الطفلة الفلسطينية التي أبكت بيل كلينتون" قبل 12 سنة، فقال انه اشتغل بإخراجه 5 أشهر ولعبت فيه الطفلة دورا رئيسيا، وظهرت فيه والدتها ميسرة زقوت، وجرت وقائعه في بيت العائلة بمخيم جباليا.
في ذلك البيت تواعدت أمس السبت على اللقاء عبر الهاتف مجددا مع نهاد زقوت التي لم تتذكرني وأتعبني الحصول على رقمها من جديد، لأكتب عنها للمرة الرابعة، وعبر "العربية.نت" هذه المرة، آملا أن تكون الأخيرة عنها كابنة أسير، والسبب أن نهاد زقوت هي النجمة الساطعة بامتياز بين أبناء الأسرى الفلسطينيين العائدين الى الحرية.
وسألتها "العربية.نت" عما قد تقوله لكلينتون فيما لو ظهر أمامها الآن، فقالت نهاد: "أنا لا أحقد عليه، وأشعر أني سامحته. لكني لو رأيته في هذه اللحظة لقلت ان ما عجزت عنه حين كنت رئيس أكبر دولة بالعالم تمكن من تحقيقه فلسطينيون عاديون ليست لهم دولة بعد".
صبر طويل برسم كتاب "غينيس" للأرقام القياسية نهاد وزوجها رامي شقورة وابنتيهما ريماس وليان وروت نهاد لـ "العربية.نت" أنها كانت تعيش حزينة بشكل دائم، "لكن الحال تغيرت الآن.. تعال وانظر كيف أقام أهل الحي الزينة في كل مكان استعدادا لاستقبال أبي الذي أكاد لا أصدق بأنه سيعود لنا ولأمي التي صبرت على فراق طال 22 سنة، ولم تطلب الطلاق لتتزوج غيره، وهذا رقم قياسي في التفاني والاخلاص" وفق تقديرها. ثم ضحكت وقالت: "اين جماعة كتاب غينيس للأرقام القياسية" ؟
وتحدثت أيضا والدتها ميسرة، وقالت ان العائلة كانت حزينة في السنوات العشر الأخيرة بشكل خاص "لأن ادارة السجون الاسرائيلية تمنع أي فلسطيني بلغ عمره 16 سنة من زيارة أي أسير، ولأن نهاد صغيرة العائلة فهي لم تر والدها منذ 8 سنوات تقريبا، وانا نفسي لم أره منذ اعتقلوه، الا بالصورة" وفق تعبيرها.
وذكرت أم رامي أن زوجها فتحاوي "لكننا سنبقى مقيمين بجباليا" وقالت ان الحياة كانت قاسية عليها ومعها 5 أطفال لأب أسير. مع ذلك عملت على تربيتهم وتعليمهم "فنهاد متخرجة بالتعليم الأساسي من جامعة القدس المفتوحة بقطاع غزة، وزوجها يعمل بوزارة الزراعة، وبقية الأولاد يعملون، وقد وهبنا الله عز وجل كل ما نطلب بعودة أبو رامي من السجن أيضا، فالحمد لله".
وفجأة ترامت أصوات صدرت مما يشبه أنه كان دفعة من الزوار المهنئين، لأن الابتهاج غمر ميسرة زقوت فراحت تزغرد مع من دخلوا مزغردين، وتخبر عبر الهاتف بأنها ستذبح عجلين حين تستقبل زوجها عند معبر رفح يوم الثلاثاء وتعود به الى بيته الذي بناه بساعديه، وكان لا بد أن تتركها "العربية.نت" على ما كانت عليه من فرحة نادرة في غزة منذ زمن طويل
التعليقات (0)