1
كنت قبل عشرين سنة مضت امارس رياضة العصف الفكري كان صديقي الشاعر احمد ابوردن ؛ كلما اختطف من قلب المشهد العادي طبقة العدمي ذلك الذي يستمطره من مائدة الغيم فيصوغه كلمات يدثرها بحزنه الأبدي الذي سكبته أنثى في روحه ذات مساء كان يبكي ... كان صديقي يبكي دموعه مجان من أحرف ... كنت التقط تلك الأحرف لأمارس عليها عصفا فكريا ... كان المسكين يتألم
لا يعنيني ألمه في شيء
نحن صعلوكان لا نعرف مذاق الأنثى
كنا نراها كائنها من عالم آخر
كم كان أحمد شاعرا حزين .. لا يملك من الدنيا غير حزنه
كان يقتات حزنه
وما أجمل أن تكون كائنا بحجم حزنك
هل جربت يوما أن تقول وآسفاه أنني هنا في هذا الكون
ما هو الذنب الذي اقترفته
اتدري لماذا اقول أنني أرثي لحال الأنسان
واصرخ من أعماقي أننا متنا في اللحظة التي ولدنا فيها
في يوم شتوي مطير والريح تئن فاغرة فاها تريد ان تبتلعنا في جوفها ، قادتنا رائحة أنثى إلى مقهى جميل في الصوفية ، قادتنا إلى حيث الدفء يحتضن الدفء تسللت شهوة النساكفه الى قلوبنا لمجرد أن رأيناها .. لم نكن قد طعمنها من قبل .. فنحن كائنان بدويان
بادرني احمد وعيناه إلى علب النسكافة:
ـ ما رأيك في أن تكتب قصيدة بعنوان (شجرة النسكافة) كنا نعتقد أن النسكافه شجرة .. ونحن الذين قرأنا امهات الكتب في الفلسفة والتاريخ والدين والحضارة ووو...
يعلم اللعين أنني لست بشاعر لم أكتب قصيدة في حياتي .. لكنه كان يطلق علي محجن الشعر والمحجن وعاء يعرفه البدو .. قلت له ويل لك أيها الجلاد الذي لا يتركني أهنأ لحظة مع رائحة الفتاة التي تبعنا خطاها كل هذا الريح والمطر ...
كانت عيناه لاتزالان تتبعان الرائحة التي تتطاير من فنجان نسكافيه أمام احد الزبائن .. لم يكن لدينا ثمن هذا الفنجان اللعين .. وكنا نشحذ مخيلتنا بما يكون عليه طعم النسكافية .. ونكتفي بذلك
رددت له الصاع هامسا في اذنه
ـ ما رأيك في أن ترسم لوحة بعنوان .
ابتسمت الفتاة وأومأت بالإيجاب.
نظر الى شزرا وقال أنا شاعر أيها الصعلوك
انا الملك الضليل .. يطربه لقب امرئ القيس
ثم غادرنا قبل أن يهدأ المطر أو تلوي الريح في مكان سحيق ………
لكن قبل وصولنا الى منعطف الطريق المؤدي الى الشارع الرئيس في الدوار السابع
همس صوت رقيق في آذاننا
لماذا تركتماني وحيدة ألست فتاتكما
قفلنا عائدين الى المقهى
لم نجد سوى رائحة النسكافة
وبقايا أنثى مرت منها
لكن ما كان ذياك الصوت الخفي الشجي ؟ هي قدرتنا التخيلية التي طورناها لدرجة كبيرة تفوق الوصف
اتدري ...
كم تمنينا أن نشرب النسكافة لكننا اكتفينا بالرائحة فقط
قال لي أحمد في حرقة
اليس من السهل على صعلوك معصوف فكريا ومخيلاتيا مثلك أن يخلق شجرة نسكافة،
قلت له ولكنها لا شكل لها في الذاكرة المعرفية، أو الذاكرة البصرية. وها عشرون سنة تمضي، لم استطع خلق تلك الشجرة .. شجرة أحمد
في اليوم التالي، المطير، القارس، قادتنا رائحة ذات الأنثى إلى حيث تتلاطم (مواجيد الماء والظمأ والصحراء والبداوة مختلطة بأفكار افلاطون في محاورته لآنكسمارس كتابا كنا نقرأؤه على طول المسافة الممتدة من ناعور الى الصوفية حيث بقايا تلك الأنثى ) ، كانت لحظةً امتدت من نافذتها يدا وقد خلقت على هيئة الطير ما لم تخلقه يدي على هيئة لشجرة النسكافة .
يقول افلاطون إن القيمة في كونها قيمة لا تكون الا على قدر مثالها الذي تستوي فيها الأضداد.. كنت غارقا في شرح هذه المعضلة .. ورأي أن سؤال انكسمارس كان وجيها في طبع القيمة في العقل .. ما هو الشيء الذي جعلنا نعتقد أن هذه القيمة هي قيمة ... إنه سؤال في العمق لم يوفق افلاطون في اجابته ..
لكنك يا تيسير لا تدري الى أين يريد افلاطون سحب محاوره
لا..لا .. افلاطون .. افلاطون .. إنما اراد بقوله .....
كانت أنثانا (تضحك.. تضحك.. وينساب صوت الأنوثة من صدرها المشرئب ومن شفةٍ أنضجتها الحرائق.وعيناها آه ما اجمل عيناها وصدرها البض الغض .. نداء الأنوثة الخالد
إن حرائق أنثانا جنونية الطبع والطبيعة تضحك مل أوداجها قائلة من هذين المعتوهين .. أومع كل هذا المطر والريح يحظر افلاطون وانكسمارس ..
كان صراخنا يعلو كثيرا حتى عندما كنا نسير في دروب ناعور وأزقتها وانثناءاتها او في واديها .
. احب عبد الرحمن بدوي وهو يكرهه يعتبره افاقا كبيرا يقول أنت دائما ما تستعيد شيخك الأفاق
كان يؤذني احمد كثيرا في موقفه من بدوي
يسميه
عاهرة الفلسفة
بدوي لم يكن فيلسوفا نعم .. ولكنه قدم قراءة جميلة للفلسفة
يرى احمد أن بدوي كان سطحيا .. كان يسير على السطح دائما لأنه لا يملك الأدوات التي تجعله يغوص في العمق حيث الدر هناك ..
كان كثيرا ما يستشهد بالتحليل الذي يصفه بالمقرف لكتابي السياسية وفن الخطابة لارسطو طاليس وتحليله الذي هو اقرب الى الوصف منه الى التحليل المعرفي العميق للسفسطائية التي سبقت سقراط واعتباره سقراط من من كبار السفسطائيين ..
بدوي بالنسبة لي غير ذلك ابدا
..
.
كانت أنثانا تنبت من علب النسكافة على إيقاع ضحكتها في لوحة أحمد الشعرية رؤوس بمناقير وأجنحة وذيول.. إن جنون أحمد حرائقي لكنه مضحك .
حلقت أنثانا في فضاء الظمأ النابت من عيون أحمد هذا الكائن الشعري
الذي لا يحسن غير الشعر
والصمت عندما تمر بالقرب منه أنثى
بعد عشرين سنة
كتبت إلى احمد هذه القطعة
قلت لنا: (تناولوا أحلامكم بسرعةٍ رجاءً بسرعة فالزمن مرّمن هنا )
واختفيت، ياصديقي
تركتني في الثواني المجاورة
تناول أحمد حلمه بسرعة
وتناولت أنثاي حلمها السعيد بسرعةٍ أيضا،
لكنك نسيت أنني بقيت في الثواني المجاورة
وحيدا
اجلس إلى طاولة تحلم بنا
في هذا القفر البعيد
لم تعد ثمة رائحة للأنثى
اليوم
سأشعل الشموع
واعتكف
لأعيد تشكيل المشهد القديم
"تقودنا الأنثى إلى حيث الدفء
يحتضن فضاء اللوحة التي غادرتها
ظلك الذي لا زال هنا
ولكنني سأضيف إلى المشهد شجرة نسكافة
قد تحط عليها حين تتعب
لكنني عرفت اخيرا
ما الذي توارى هناك من عهر صداقتنا
لاذ بالصمت أحمد
وببتسامة خفيفه
قلت له أتدري ماذا كان يصنع شيخنا المثقل بسنيه في وادي ناعور ؟
و أجبتني
بلا اصابع يبحث عن وحيه،
عن أي وحي ليشهده على ولائه
2
أه ياحمد كيف غدرت بك ... يوم أن تبعت الفتاة وحدي
في ليلة دعوتها بليلة السكينة
بلا غسق انهمر فيها المطر بشدة ، ونامت الخيبة، وتثاءب النحيب .
فتحت كل شئ وأبقيتني معها بلا نواميس أو قواعد او قواميس، أخبرتها بعقدة مثلثك ذو الضلاع الثلاثة الذي ليست له زوايا، وبأن بوابات الغيب تنفتح كلما تحضر الرغبة. ضحكت كثيرا وهي تحدق بجدران الغرفة كأنها لغز لكن رائحة النسكافيه ما تزال تتبعني
قلت لها تعالي الي خرائبي . قالت كيف ؟ تعالي معي نبتعد عن جنون الثواني المهرطقات والسنوات ذوات الألسنة تعالي نجهض الفعل. . هكذا هكذا الشيخ علمني : احترق بالتجربة لكن لا تجرب العالم يقوم على اهتزاز خفي بين مجالين ، ولا يمكن ان يدار بالتدخل . ولا يمكن للمجالين أن يلتقيا .....
سألتني كيف؟ قلت .... نسق المتخيل العاري عن التجسيم لا يمكن له ان يتحول الى فم يبتلع الرغبة
لقد حاولت أن اعلمها لعبة مثلثك ... المعرفي ..
حين يفترشها ويلعق زواياها ينبت ثمة شيئ في مكان محدد ..من أين ابتدأ الخط المنحني في زاوية مثلث الحكمة الهرمسي والى أين ينتهي ؟ ظننتني أعمذ عقلها وأغسل روحها واسكن عيناها المتراقصة.
يوم اخر بلا غسق، وجوع يفتح فكيه للمطر، ورائحة النسكافه تنسكب في جوفي .. ازمنة ومثلثات فقدت سحرها وناعور أخرى فقدت سحرها .. والشيخ يفتح كوة في الجدار أنه يرمقني بحروفه . فجأة تفاقم جدل بين العقل والسماء واذن مؤذن: النص ، انك لسارق علا صوتي : من ذبح العقل وصيره امرأةً او قمحا يحترق او جوعا ينبت في على حفافي الوجود ؟
في شرفات السابعة ليلا بتوقيت مجنوننا نوفالس
منذ ان رجموا به روؤسنا وسحقوا معان جميلة كانت تمر مسرعة على شفاهنا
منذ اغتسلوا بدمه الدافق على جسد الظل
صارت ذاكرتنا لحظة عابرة في جسد الوقت .
واذنت في فضاء الغرفة
كانت تقول لي اسرجي لي نبض الليل كيما أكون الجرئ لمن طالبوك بدليل اختلافك ، لكني خذلتها يا صديقي وقدمت لها اوجاع المائدة ممزوجة بفرح باقةً من نجوم محاصرة في ابراجها السقيمة. وكنت كلما قالت آهة تترجمها لهم من رداء دخان بدلا من دم نافر في عروق بلوطة ناعور القديمة .. قالت المسكينة متسائلة كيف تحز رقبة الغيب يا تيسير وتصب ملح كوابيسه فوق غثائي الجريح ونسيت انك من سميتني السيدة نسكافيه ..
ها انت ذا فتحت كل شئ ورحلت وابقيتني نواقيس تدق بصوت عاجز كليل
يا انت يا من أرعدت سماواته الى العنق بماء النسيان ، هل لي بكأسٍ من نقيع القمر ؟ هل لي بالمقطع الأخير من بتهوفن ..
كم أعجبني رنين العبارة الأخيرة
لو كنت اعلم بما ستفتحه علي بوابات عهرك لدخلتها وملأت بها احشاء سياق اخر لا يتماس .. ما ذا تريد ؟
سؤال مفاجئ
ومدهش
لا أعلم ماذا أريد ..
أريد أن أطعم شيئا ما ذقته من قبل..
أريد أن أسكب الأثير في زجاجة من وقت واسقيه أحمد أبوردن.. أو أعصر له عقل أبي حيان التوحيدي في كأس واصبه في شغاف روحه ..
ومن أبو حيان هذا .. أنه شخص بحجم الخيبه ...
بلا غسق، غاب في احراشه الليل ، ونامت المسرات ، وتثاءب قعر الضرورات. وصاح به الشيخ
فتحت كل شئ ورحلت وأبقيتني معها بلا نواميس او قواميس، لماذا لم تخبرها كما اخبرك المعلمون الأوائل ، بأن المثلث الحقيقي ليست له زوايا، وبأن بوابات الغيب تنفتح كلما تهدلت رغبة من هناك من فم المبالغة في حدها القاطع، المبالغة تقفل مداخل السماء وتكبل الاشكال بالصور والريشة باللوحة واللوحة بالرسام؟
لماذا افترقتما قبل ان اقول لكما ان دهاء السلف هو الذي جعل قعر المعرفة يضيء؟ ادمعت روحها ، وتوهج الكلام اكثر، وتجنح اللسان صوب الجوزاء الباردة ، وانساحت الدفائن:
حين يفترشها ويلعق زواياها
على مساء السابعة عصراً
منذ ان رجمونا
وجزوا عنق ابي حيانك
منذ اغتسلوا بدمه الدافق على جسده.. صار القلب زيارة عابرة .
.. اغثني ياكاهناً بلا اصابع وانقذني من هذا الغرفة اللعينة.. ذنبي ارتكبته دونك في أنني طارت رائحة النسكافيه اليها ..
هل كتب علي ان اتجسد فكرة عابثة لعوب طارتها .. على سفر الوسائد المخملية .. وأن أكون اجتراح ندم يسح دموعه على مذابح الحلم الكئيب هل اطارح النسكافيه على أنها ثيبا لعوب ..؟ وكأن الفراغ يرقص من حوالي وأنا أسكب فيه اسمينا نطفا لم تخلق بعد
لا لن تغرقني الرمال بسحرها أنا البدوي القادم من جرة الإثم المدفونة في قعر الذكريات
هل قلت لك اننا في لحظة جوع تتطاولنا على السماء سحابة قاصية واننا اعتدنا ركوب السحاب خيلا ...
هل قلت لك أننا أثيمة مبتلة بالسكينة وحفنة من لهفة وجوع
هل قلت لك أننا لفافة من ضوء ظللنا في فم الحلم
هل قلت لك أننا نشيدا صعد من الهاوية أو فجرا
طلع
من
عنق الليل
نثرنا
اواصراً
على
كل شئ
نحن ايضا نجمان. وبقايا اول حرف اراد استراقه،
كل نسيان
التعليقات (0)