مصطفى الغرافي
إذا اعتمدنا الخلاصة التي يقدمها ابن خلدون حول مسألة الاختلاف في دار الإسلام، أمكننا التقرير أن الاختلاف في "مقالات الإسلاميين" واقع لا محالة. وهو أمر مرتد، كما نص على ذلك صاحب "المقدمة"، إلى كون النصوص المقدسة، قرآن وسنة، إنما تحملها "لغة"، وهذا في حد ذاته سبب كاف لظهور الاختلاف بين الفرقاء في التلقي والتأويل. يقول صاحب "المقدمة": "وكان السلف يستخرجونها [ الأحكام الشرعية] من تلك الأدلة [الكتاب والسنة في ذلك الوقت] على اختلاف بينهم، وكان لا بد من وقوعه [الاختلاف] ضرورة، لأن الأدلة غالبها من النصوص، وهي بلغة العرب، وفي اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها، اختلاف بينهم معروف، وأيضا فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت، وتتعارض في أكثر أحكامها فيحتاج الترجيح وهو مختلف أيضا".
وإذن، فالاختلاف بين الفرقاء في دار الإسلام كان "ضرورة" ، باصطلاح خلدوني، لأن النص مهما كان مقدسا فقد حملته "لغة" جرى على سمتها في تبليغ أحكامه وبيان مقاصده، وهو اعتبار جعل النص الديني قابلا للتعدد في المعنى والانفتاح في الدلالة، بما فتح المجال وسيعا أما اصطراع المنهجيات المستندة إلى موجهات في الفهم والتفسير متباينة. يقول الماوردي:
"كلام كل كتاب، وأخبار كل نبي، لا يخلو من احتمال تأويلات مختلفة، لأن ذلك موجود في الكلام بنفس طباعه [...] ولا كلام أولى بهذه الصفات من كلام الله جل ذكره، إذ كان أفصح الكلام وأوجزه، وأكثره رموزا وأجمعه للمعاني الكثيرة [...] ولا بد في الدين من وقوع الحوادث التي يحتاج إلى النظر فيها، والنوازل التي لا يستغني العلماء عن استخراجها، وعن خبر يشكل معناه، وأثر تختلف التأويلات في فحواه على مر الأيام، فإذا دفعوا إليه اختلفت الآراء في المسائل، وتفرقت الأهواء في النوازل، وصار لكل رأي تبع ومشرعون، وأئمة ومؤتمون، وكان سببا لاختلاف الأمم وانشقاق عصاها".
إن الاختلاف، حسب هذا الشاهد الذي لا يخلو من عمق، واقع لا محالة متى وجدت محاجة تأويلية دينية، تصطنع من آليات الفهم والتفسير ماتراه مسعفا في تطويع النص والخبر المقدسين لمقاصد المؤولين، فقد يحدث أن يترتب عن "تلقي" أحد المراجع الدينية لآي التنزيل "قراءة" أو "فهم" خاص يرتهن، بالضرورة، إلى الكفايات التأويلية التي حصل "المؤول" وشغل، ثم ما يلبث أن ينتصب على رأس كل "قراءة" إمام يتحلق حوله أتباع، فيكون ذلك باعثا خصيبا على نشأة المذاهب والطوائف. يقول ابن قتيبة: "ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يدان برأيه وله عليه تبع".
يرتد الخلاف بين متلقي القرآن العظيم من الإسلاميين إلى الصراع حول ملكية النص الديني: من يتملك شرعية تعيين "المعنى" المقصود من "التنزيل"، الذي اكتمن "مفارقة بلاغية"؛ فهو من طرف كتاب "هدى" و"بلاغ" للناس فيفترض فيه، لذلك، انتهاج المباشرة في "توصيل" الأوامر الدينية وتفصيل الشرائع الإلهية. لكن "التنزيل" يعدل عن هذه السبيل فيقدم مضامينه، بدلا من ذلك، بطريقة هي قمة في تشغيل "العتاد البلاغي" من مجازات واستعارات وكنايات. وهو ما أحوج الفرق الإسلامية إلى إعمال الذهن من أجل تعيين "معنى" آي التنزيل بطريق "التأويل"، فكان بدهيا، والحال هذه، أن يختلف زعماء الفرق في تأول الآي خاصة "المتشابهة" منها. فقد راح كل فريق ينتحل لنفسه صفة "الراسخين في العلم" في الآية الكريمة: (هو الذي أنزل إليك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) [آل عمران، آية:7].
لقد وجدت الفرق الإسلامية على اختلاف مشاربها وتنوع مرجعياتها في "مجاز القرآن" مدخلا دينيا وشرعيا، فتح أمامهم المجال وسيعا لاصطناع "التأويل" آلية ذهنية وبلاغية، أسعفتهم في تأول ما تشابه من آي القرآن بما يتوافق والمقاصد، التي قرروها "أصولا" لمذهبهم، فما وافق "أصلا" من أصول المذهب عد عند أصحابه "محكما" يدل بظاهره ويمتنع عن التأويل، وما خالف أصول المذهب اعتبر "متشابها"، فيتأول بما يرده إلى موافقة المذهب. ذلك ما لحظه نصر حامد أبو زيد وقرره بالقول: "إن المعتزلة اعتبروا كل ما يدعم وجهة نظرهم محكما يدل بظاهره، وكل ما يخالف هذه الوجهة اعتبروه متشابها يجوز بل يحق لهم تأويله [...] وكان من الطبيعي أن يلجأ خصوم المعتزلة لنفس السلاح، فيعتبروا ما يدعم وجهة نظر المعتزلة متشابها".
وقد انتهى الأمر أن أصبح القرآن مجالا للخصومة بين المتنازعين سياسيا ومذهبيا، كل يجد فيه ما يدعم رأيه، ويعضد فهمه وتصوره تبعا لـ "أهوائه" في السياسة والاعتقاد. يقول ابن قتيبة السني عن خصومه إنهم "فسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم".
وقد رد الجاحظ المعتزلي هذا الاتهام بالقول: "فأنتم [أصحاب الحديث] أملياء بالخرافات أقوياء على رد الصحيح وتصحيح السقيم، ورد التنزيل والحديث المشهور إلى أهوائكم وقد عارضناكم وقابلناكم وقارضناكم".
ولما كانت مصالح الطوائف والجماعات الإسلامية متعارضة، فقد ترتب عن ذلك "تعارضات إيديولوجية" شكل "المذهب الكلامي" والموقع من هرم السلطة أساس إنتاجها وبالتالي تعارضها. فقد كانت المجتمعات الإسلامية، كما يمكن أن نستبين من كتب الملل والأهواء والنحل، تعج بالمذاهب والمعتقدات، لكن هذه التعددية لم يكن معترفا بها على مستوى الخطاب العام، إذ كان هناك دائما تطلع من كل من اعتقد في مذهب أو نحلة إلى فرض خطابه، على المستوى الإيديولوجي، بوصفه "الخطاب الحق". ومن ناحية مقابلة كانت هناك دائما سلطة قائمة تسعى إلى توحيد الجميع تحت مذهب واحد "رسمي"، يمثل توجهات السلطة ويحفظ لها وجودها ومصالحها. إن هذه الكثرة في المذاهب والمعتقدات ستفتح المجال وسيعا لتلبس "العقدي" بـ"الإيديولوجي". وهو تلبس يحدث عندما يتطلع المعتقدون في المذاهب المختلفة إلى تثبيت خطاب وحيد يدعي ملكية الحقيقة، وينتحل لنفسه صفة "الفرقة الناجية"، لأنه إذا كانت هناك كثرة في المذاهب والمعتقدات فمن المحقق أن "الحق مع واحد" كما يقرر مؤرخو الفرق والمذاهب.
باحث من المغرب
التعليقات (0)