المكان ، غرفة يسودها الظلام , الزمان ، لا اعلم تحديداً السنة والشهر واليوم ، أقبع في مكاني متحسساً الفراغ فلا اجد شيئا يؤنس وحدتي ويملي علي هذا الفراغ سوى ماضي من الذكريات .
حدثتني نفسي أن اكتب اليك ياولدي اسطراً علك تعي ما معنى ان يسجن انسان مدة 20 عاماً جزاءا ًعلى كلمة كتبها او كلاماً قاله ، في زمان صار فيه تبلد المشاعر ، والكلام المعسول ، سلماً يعلوا بنا نحو مجد باهت .
كيف أعبر لك عن الامي ووحدتي , وقد بدأت انسى الكلام هنا ، فأنا لم أكلم احدا منذ 20 عاما ولا أجد احداً افضي اليه بمكنونات نفسي وما يعتلج بداخلها من الالام وصراعات ، لا اكلم الا نفسي ، أهمس همساً حتى لا يسمعني احد ، ذلك ان القائمون على هذا السجن هنا اتخذوا من صمتي وصمت جميع السجناء قاعدة أساسية يؤسسون بها امبراطوريتهم على صمت المظلومين والمحزونين
لا نسمع سوى محاضرات يلقيها علينا مدير السجن بين الحين والاخر تتضمن اسوء عبارات التعنيف والالفاظ الفاضحة والاهانات ، وكأننا مخلوقات كتب عليها ان تقضي أسيرة للذل والمهانة.
لا ارى احداً سوى السجان الذي اعتاد على زيارتي ثلاث مرات في اليوم وهي مواعيد وجبات الطعام ، في الصباح وعند الظهر وفي المساء ، لا يكلمني اطلاقا وقد حاولت ذات مرة ان اتجاذب اطراف الحديث معه ولكن تبين لي انه أصم فأزادات معاناتي أكثر مما هي عليه .
لم أنعم بزيارة احد من المعارف والاصدقاء منذ اليوم الاول لسجني ، ولا اعلم حتى الان لماذا يمتنع الجميع عن زيارتي؟
بدا كل شيء يضيق بي ، الزنزانة ، الجدران ، السرير الذي استلقي عليه ، كل شيء ما عدا أملي بأن القاك في يوم ما ، فهذا الشيء الوحيد الذي بقي حيا مع نفسي والذي لم يمت طوال تلك الفترة .
ولدي العزيز تراك الان كبرت واصبحت رجلاً ناضجاً يعي ، ماهية الحياة ، ومتطلباتها ، وكيفة ان نتعامل معها متجنبين الوقوع في شراكها ، اتمنى ، وانت تقرأ رسالتي ان لا يخالجك الشعور بالخجل لان والدك قابع في سجون لا يعلم مدى بشاعتها الا الله ، عزيزي والدك لم يكن مجرماً ، ولم يصنف في خانة المجرمين والقتله ، انما هم وضعوني قسراً بين هولاء لكي يقمعوا الاصوات المنادية بحرية شعوبها ، والتحرر من سطوة الافراد وتسلطهم وتحكمهم بمصائر الخلق والعباد ، هم يحاولون جاهدين كبح جماح اصواتنا المنادية بالحرية ، ونحن ورغم وطأة الظلم والمعاناة داخل وخارج سجوننا ما نزال ننادي بحريتنا وحرية ابناءنا ، لاننا ولدنا احراراً ولا نخضع لقواعد التابع والمتوبع ، فنحن في سبيل الحرية ياولدي نرغب ان نسجن في الدهاليز المظلمة والموحشة على ان نرى شخصا تططأ له الرؤوس يقود ابناءنا حسب ما تمليه عليه اهواءه وكأنهم قطع شطرنج بيد لاعب ماهر.
راميار فارس الهركي
كاتب وصحافي من العراق
ملاحظة : هذه المقالة نشرت مسبقا في مدونتي ، وقد أجريت عليها ما أستطعت من تعديلات قليلة مع حذف الكثير .
التعليقات (0)