لا يجد المحامي نفسه محاميا بين عشية وضحاها. يصبح مشروع محام منذ اختياره الإرادي وتفكيره الجاد والهادف بان يصبحه. منذ دخوله كلية الحقوق. منذ حصوله على الشهادة الجامعية التي تضع بين يديه المبادئ الأولى الأساسية في التكوين العلمي. منذ اجتيازه مسابقة الدخول للتحضير للدخول إلى مركز تكوين المحامين. منذ دخوله المركز والى تخرجه منه. منذ دخوله مرحلة التدريب إلى اجتيازها بنجاح. طيلة هذه الفترة هو مشروع محام (النظام الفرنسي). و يبقى المحامي مهما كبرت خبرته بحاجة لمتابعة تطور الواقع والقوانين و مستحدثات المهنة. هذا ما يقره مركز تكوين المحامين في فرنسا حين يفرض على المحامي, كل محام, ساعات حضور ومتابعة في المركز المذكور طيلة ممارسته للمهنة, وبعد تقاعده إذا رغب في البقاء على صلة بالمهنة.
المحامي في البلدان الديمقراطية من دعائم هذه الديمقراطية, كفرد وكمهنة, فهو في دفاعه عن الحريات العامة و حقوق المواطنين يتصدى, في معاركه أمام المحاكم بأنواعها, لكل الجرائم التي يُوكّل فيها, يدافع عن القانون وسيادته إذا ما انتهكته الإدارة أو الدولة, مذكرا هذه الأخيرة بان عليها احترام القانون الذي وضعته بنفسها. يدعمه في كل هذا: ترسانة من القوانين. تكوينه المهني. التنظيم النقابي المنتخب ديمقراطيا والمساند له في عمله المهني والشخصي. أدبيات المهنة. السر المهني. شعوره القوي والواقعي باستقلاله وحصانته.
حق الدفاع حق مقدس عرف منذ العصور السحيقة, وان اتخذ أشكالا مختلفة عبر العصور, فقد كان, على سبيل المثال, اللوغاراف logographe الإغريقي يكتب الخطب والمرافعات ليقرأها المتقاضي بنفسه في الجلسات. وكان الرومان هم أول من ابتكر المرافعات. وقدموا فيها فنونا خالدة ـ سيسرون ــ. وفي فرنسا ما قبل الثورة (النظام القديم) كان يستبعد المحامي من الدفاع الجزائي. دفاعه عن موكله يكون شفهيا. في حين يقوم بالإجراءات المكتوبة متخصص آخر يسمى وكيل, أصبح يعرف فيما بعد بوكيل الدعاوى avoué .
مفهوم الدفاع كجزء من عمل العدالة مفهوم حديث نسبيا ترسخ في ظل دولة القانون. أقرت المادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية أن: " كل متهم له الحق..بان يدافع عن نفسه بنفسه, أو بمساعدة مدافع من اختياره. وإذا لم تتوفر له الإمكانيات المادية لدفع أتعاب المدافع عنه, يمكن أن تقدم له لهذا الغرض مساعدة عندما تقتضي ذلك مصلحة العدالة".
نظم فليب دي فالواز مهنة المحاماة فأمر بتسجيل المحامين في سجل خاص يعتبر في اصل قائمة تسجيل المحامين الحالي Tableau" . يخضع التسجيل فيه لشروط الكفاءة و لامتحان مهني. وهذا ما كمله أمر ordonnance الصادر في 12 أكتوبر 1274 . فكان أول تنظيم منح المحامي لقب أستاذ " Maître" إضافة لتحديد الأتعاب و فرض القسم المهني.
حين كان منتسكيو رئيسا لبرلمان (محكمة) بوردو لم يشد يوما بالقضاة, وإنما أشاد, في كتابه رسائل فارسية, بدور المحامين لأنهم "يعملون لنا ويأخذون على عاتقهم مهمة تثقيفنا" ( lettres persanes LXVIII ). وعرّف فيرتيار في قاموسه المحامي على انه " رجل عالم في الفقه القانوني يدافع عن حق الأطراف المحتاجين لمساعدته بصوت مدو, أو بكتاباته التي تنير القضاء".
استقبل محامو الآخرينtiers état (كان المجتمع الفرنسي قبل الثورة يتكون من 3 فئات: النبلاء. رجال الدين. الآخرون, وهم الأكثرية الساحقة) بحماس كبير الثورة الفرنسية التي أحلت مبدأ مشروعية و سيادة الأمة محل المشروعية الملكية والسيادة الإلهية والقانون المقدس, الذي ساد لأكثر من ألف عام. وفتحت لهم مجالات العمل العام . فساهم المحامون بشكل واسع في العمل السياسي وقيادة شؤون الأمة. وقد تمثل العالم القضائي ب 300 محام اعتبروا " عقول خلاقة". ( J.-P. Royer ) و شكلت نسبة المحامين 30% من مجموع effectif ملاك "الآخرين", ارتفعت إلى 52% في الجمعية الوطنية في 17 حزيران 1789 التي عرفت من بين اشهر المحامين رجال مثل دانتون وربيسبير ... ويذكر التاريخ أهمية مشاركة المحامين في الحركة الدستورية الفرنسية.
ألغت الثورة كل الوسطاء بين المتقاضين والعدالة بما فيهم الوكلاء procureure والمحامين لجعل العلاقة مباشرة بين المتقاضين والقضاة المنتخبين. ولكن الفوضى والاضطراب في العمل القضائي نتيجة لذلك, اضطر نابليون الأول, الذي كان سيفا مسلطا على رقاب المحامين "أصحاب الثوب", لإعادة الوكلاء procureur باسم جديد هو وكلاء الدعاوى, كما عادت نقابات المحامين ordres بمرسوم 14 ديسمبر 1810. ينسب لنابليون القول : " طالما السيف الى جانبي, سيكون ضمن سلطاني قطع لسان كل محام يتجرأ على استخدامه ضد الحكومة". وقد علق لاحقا روجيه بررت على ذلك بقوله : " لقد برهن الزمن أن لسان المحامي كان أكثر صلابة من سيف الجنرال. بدليل ذهاب هذا الأخير وبقاء مهنة المحاماة و توطيدها".
ولد المحامي الجديد بمرسوم 20 جون 1920 (Déontologie de l’avocat Litec, 2004 ,Raymond Martin, ) قبل هذا التاريخ كان لقب محامي يحمله أشخاص ممن لا يمارسون المهنة بعد عام 1927 ولحماية المهنة أصبح القانون يعاقب جزائيا من يمارس المهنة دون تسجيل, ودون حق في حمل اللقب.
سجل فطاحل المحامين بمواقفهم الشجاعة واستقلالهم وفكرهم النير نبل رسالة المحاماة عبرت عنها مواقف شجاعة يذكرها لهم ليس فقط تاريخ المهنة وإنما تاريخ كفاح الإنسان من اجل العدالة. في الدفاع عن الحرية. في النضال من اجل حقوق الإنسان. في التصدي للظلم. وفي وضع الحقائق أمام العدالة لتمكينها من اتخاذ أحكامها وقراراتها بعدل.
يحضرنا هنا موقف المحامي بيرييه مخاطبا القضاة في مرافعته دفاعا عن لويس نابليون الثالث: " إذا كنتم لا تستطيعون أن تكونوا مستقلين وحياديين, تخضعون لسيطرة وضغط قانون سياسي, فكيف يمكنكم إذا أن تكونوا قضاة ؟". أو حين ينظر ديسيز Desièze في عيون القضاة أمامه, في دفاعه عن لويس السادس عشر, متهما إياهم بانحيازهم المسبق وخروجهم عن نزاهة القضاة, وذلك بعبارة بليغة فيها كل مهارة المحامي: " ابحث بينكم عن قضاة فلا أجد إلا هيئة اتهام". أو في مواقف المحامي المخضرم جاك فرجاس, المتفاني في الدفاع عن ثوار جبهة التحرير الجزائرية خلال فترة الاستعمار, وإنقاذه جميلة بوحريد من تنفيذ حكم الإعدام بها بقيادته حملة إعلامية عالمية مطالبة بالإفراج عنها لأنها مجاهدة وليست مجرمة. يروي اليوم بنفسه, بمناسبة زيارة تذكارية مع أصدقائه الجزائريين لمقر نفس المحكمة التي كانت تصدر أحكام الإعدام على المجاهدين قائلا: بعد استنكاري للجو الذي تدور في المحاكمة, ذكرت القضاة بان موكلتي جميلة بحريد تتعرض للتعذيب على سريرها في المستشفى, وبأني شاهدت ذلك بأم عيني. وحين رأيت أن ذلك لم يحرك ضمائر القضاة قلت: " السيد الرئيس هل نحن هنا في جلسة محاكمة قضائية أم في حلبة تعذيب وقتل؟ ". وحين ضجت الصالة المليئة بعتاة المستعمرين, دون تدخل رئيس المحكمة لإسكاتهم, ليصفوني بمحامي الإرهابيين, وبمحامي الرعب, ومساند الخارجين عن القانون, وباني مجرد صيني قذر ( للغمز من أصلي جهة أمي الفيتنامية) التفت إليهم للخلف وقلت فورا وباعتزاز: " اسمح لي سيدي الرئيس أن اذكرهم بان حين كان أجدادي يبنون القصور هناك كان أجدادهم يأكلون البلوط في الغابات".
ليست هذه بطبيعة الحال إلا إشارة سريعة ومحدودة جدا من مواقف آلاف من المحامين دخلوا التاريخ من بابه العريض كمدافعين أشداء عن الحق والعدالة في القارات الخمس. ليس بالإمكان ذكر ذلك في مقالة واحدة أو مجموعة مقالات. (مقالة سترفض نشرها مواقع عديدة من المواقع الالكترونية للمحامين الأوصياء, بحكم "مراكزهم", على اختيار وانتقاء المواضع الملائمة للمحامين. يختارون لهم ما يصلح لهم كاختيار الأستاذ لتلاميذه. أو الموجه الحزبي للمواضيع الثقافية. أو الشيخ للأعمال الموصلة مباشرة للجنة).
قسم المحامي (الفرنسي): " اقسم كمحام أن أمارس مهامي بكرامة, وضمير, واستقلال, ونزاهة, وإنسانية". قسم لا يلزم المحامي بالتزامات, كما كان سابقا, بالموالاة للسلطة, فالموالاة تتعارض مع استقلال المحامي, ومع حق الدفاع.
المحامي المستقل الذي يعتز بكرامته كانسان, مضافا إليها كرامة المهنة, يضع نفسه دائما مساو للقاضي ومعادل له, حتى ولو لم يعترف بذلك ما جرى عليه العمل في المحاكم, ولم تعترف به صراحة الإجراءات القانونية, هذه الإجراءات كثيرا ما تذهب عكس المبادئ الأساسية في القضاء كحق الدفاع وقدسيته.
ومن المفيد الإشارة بهذا الصدد إلى تعليق للأستاذ انوك لوفان Anouk Leven, يلخص موقع المحامي من القاضي : "عندما يعطي القاضي في الجلسات الكلمة للمحامي بقوله " الكلمة لك أستاذ", يجيب المحامي شكرا السيد أو السيدة الرئيس أو الرئيسة". يعترض المحامي لوفان على كلمة شكرا هذه. لان الشكر هنا لا تضع الفاعلين القضائيين على قدم المساواة. المحامي في الأسفل في قاعة المحكمة والقاضي في الأعلى على المنصة. المحامي واقف والقاضي جالس. المحامي ينتظر دوره في الكلام والقضاة هم من يعطونه إياها. ويضيف لوفان في الحياة اليومية, للأسف, هذه الصيغة من المجاملة " شكرا" هي رد فعل عفوي. ولكنها مع ذلك تزيف العلاقة مع القاضي. وكانّ مرافعة أو كلمة المحامي ليست حقا من حقوقه, وكأنّها ليست مفروضة. وكأنّها ليست هي موضوع الدعوى. فالدعوى لا معنى لها , لا مبرر لها دون مرافعات. الدعوى لا تقوم دون مرافعة من حيث المبدأ ( Avocats le Verbe et la Robe. PRAT 2009 ).
ومع ذلك تبقى رسالة المحامي غير معروفة على حقيقتها عند المواطن العادي الحذر غالبا من المحامي ا يرى فيه عدم تورعه عن مهاجمة الانسان الشريف لمصلحة المجرم وكسب قضيته بأي ثمن. وانه ساحر كلمات, يمتلك معرفة قانونية تسمح له بتحريف الحقيقة لمساندة القضية التي يدافع عنها. قادر على الكذب بهدف تبرئة مجرم. هذا في الدولة الديمقراطية التي غالبا ما تكون الشفافية هي القاعدة.
والسؤال, ولكن كيف حال رسالة المحاماة في ظل الأنظمة الشمولية؟ هل تسمو إلى المصداقية في نظر المواطن العادي؟. هل يمكنها الوصول إلى ذلك, ولو اجتهد المحامون؟. أليس غياب دولة القانون والحق وحقوق الإنسان ينتج تلقائيا وفجا :
ـ غياب حرية المحامي واستقلاله. (رغما عنه).
ـ غياب استقلال القضاء ونزاهته. (رغما عنه).
ـ غياب القانون الذي يعلو على الجميع. ( حيث لكل متنفذ قانونه).
ـ غياب التنظيم النقابي الديمقراطي للمهنة. ( يفرض علاقات الخنوع).
ـ الفساد المنتشر والرشاوى التي تصل إلى القضاء. ( رغم كفاح الشرفاء).
ـ النفوذ السياسي والأمني ألمخابراتي. (المتزايد عنفا واتساعا).
ـ ضعف التكوين المهني, وعدم المتابعة في التحصيل النظري والعملي, ومنع المصادر الثقافية المهنية والعامة لحصار الفكر وتوجيهه باتجاه وحيد. (مساهمة النقابات التي تلعب دور الرقيب في منع وصول المفيد لجمهور المحامين).
ـ فرض الأفكار الحزبية والإيديولوجية لمفهوم الحق والدولة والعدالة وحقوق الإنسان ومعنى المواطنية. الرضوخ للعلاقات الاجتماعية العشائرية وتغليبها على القانون وأحكامه والعدل ومفاهيمه. (فرض ممنهج ).
ـ ضعف الإمكانيات المادية لمتابعة متطلبات المحاماة وتطورها ( معاناة شخصية ومهنية بلا حدود).
ـ علاقات الخوف في ظل رأي عام غير مبال. (تبعية وإلغاء شخصية).
ـ منافسات يكون فيها المتقاضي هو الضحية. (الإيقاع بالضحية بكل الوسائل).
ـ غياب المساعدات القضائية لمعدومي الدخل. (ان أُقرت فبالقطارة).
ـ العلاقة المعيبة بين المحامي والقاضي. (نفعية وانتهازية على حساب العدالة).
في ظل هذا لا غرابة من وجود نوعين من المحامين: "المحامي الذي يعرف القانون جيدا. والمحامي الذي لا يعرف القانون وإنما يعرف القاضي جيدا " (حسب تعبير ساخر لكوليش الفنان الفرنسي الهزلي). ( النوع الثاني هو الأكثر نفوذا وانتشارا ).
في ظل الاستبداد والاستهتار بالقانون وبالعدالة لا عجب أن نسمع, من وقت لآخر, في هذا البلد العربي أو ذاك, أخبارا عن ضرب ضابط لمحامي, أو استدعاء رجل امن له وتهديده, أو سجن محامي, أو تهديده بلقمة عيشه. أو فصله من قبل نقاباته التي من المفترض أنها تحميه وتدافع عنه لإعلاء رسالة المحاماة.
في ظل هذا, ورغم وجود محامين مشهود لهم بالمقدرة المهنية والاستقامة والنبل, ماذا يبقى من رسالة المحاماة ؟ وكيف لا تهتز ثقة المواطن العادي برسالة المحاماة.
فلا عجب إن لم تصمد أسوار أية مهنة أمام الاستبداد والفساد. وإنما العجب كل العجب إن بقيت هذه الأسوار صامدة ومنيعة.
ليس من رسالة المحاماة الخضوع لقوانين الطوارئ والأحكام العرفية والقبول بها كأنها قدر لا يمكن رده وترويض المهنة على التعامل معه.
ليس من رسالة المحاماة الترافع الطبيعي وبرضاء كامل أمام محاكم استثنائية وميدانية, مخالفة في تركيبها وإجراءاتها نصوص الدستور وأحكام القوانين.
ليس من رسالة المحاماة السكوت على تطبيق قوانين غير دستورية.
ليس من رسالة المحاماة إفراز نقابات (حزبية, أو عشائرية, أو نفعية) لا تدافع عن المهنة وأفرادها وإنما عن السلطة وأعوانها.
ليس من رسالة المحاماة السكوت على الممارسات المنحرفة التي تغلب العامل المادي والربحي على قيم المهنة وشرفها.
ليس من رسالة المحاماة أن يتصرف المحامي كيفما شاء, بما وضعه المتقاضي بين يديه من مصالحه المادية والمعنوية وحريته.
ليس من رسالة المحاماة السكوت على ملاحقة زميله المحامي لوقفة شرف وقفها, وقول حق, ونقد شريف, لواقع فاسد.
ليس من رسالة المحاماة اعتبار النظام الشمولي مسالة لا تخصه و لا تتعلق برسالته. إلا إذا كان اضطهاد شعب لا يقع ضمن الرسالة.
ليس من رسالة المحاماة الانحناء والانحناء المستديم.
رسالة المحاماة التي أثبتت بأنها أصلب من سيف الدكتاتور نابليون يمكنها إثبات ذلك في كل مكان.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)