في رحاب مرسم الفنانة سناء الكشيري.. لذة القراءة وقلق التأويل
د. عبـد الفتـاح الفاتحـي
تبتعد البنيات الفنية في لوحات سناء الكشيري عن الفلكلورية التي تتجسد في الإنتاج التشكيلي المغربي، لوحات الفانتازيا وموضوعات الفرس والبداوة والمدينة (لوحات "البزار" أو الزينة، والزخرفة)... لتؤسس لها عالما جديدا بها.
تتشكل لوحات سناء من عناصر تمثل سندا أيقونيا مليئا بالدلالات والمعاني. سند له قابلية كبيرة للوصف، نظرا لسهولة إدراك العلاقات والأنساق التعبيرية القائمة بين عناصر التكوين وحركات الخطوط واتزان الأشكال وتوازن الألوان مع رؤية العين وانعكاس النور والظل.
هذه الخصائص المميزة للتشكيل في لوحات سناء تُمَكِّن القارئ من تفكيك -(بالمعنى السيميولوجي)- البناء الدلالي للوحات وإدراك انطباع دلالي بحسب مستويات القراءة ورغبة التعالق مع النص التشكيلي وإيحاءاته. ذلك أن عملية تجزيء النص التشكيلي (اللوحة) من بنية مركبة إلى عناصر مفككة هي عملية ممكنة وضرورية لكل قارئ (المتخصص الناقد) و(العادي)، بل وتيسر عملية البحث عن الأنساق المركبة (العلائق المنظمة والسائدة بين مختلف العناصر الشكلية، تجاوب الألوان، توازن الكتل، السيميترية...). مما يعني أن هذه الخصائص الفنية ميسرة الفهم للنقاد والقراء العاديين على السواء.
ولا تختلف عناصر تكوين لوحات سناء كثيرا، بل تتماثل إلى حد بعيد، تحرص على وحدة الموضوع (التيمة)، أساسها التأمل والانشداه الروحي إلى عالم المثل، وذلك من خلال وجوه مشدوهة تارة نحو الأعلى في استدلال على رغبة الانعتاق من دناءة القيم المادية في عالم اليوم، وطورا منكسرة الهمم ندما على فرط الانغماس في ملذات الحياة، تعارض وتقابل يخلق عناصر التشويق والشعرية في النص التشكيلي لسناء الكشيري.
وتتحرك المساحات في اللوحة، بين الفراغ اللازم، إضافة لباقي الموجودات الأخرى كالأشكال والألوان مانحة المتلقي خارطة طريق لممارسة التّأويل بل وإعادة الإنتاج، كما تؤكد على ذلك نظرية التلقي عند "هانس روبرت ياوس و روبرت هولب أن ايزر". ولعل ذاك ما يجعل عموم المتلقين على أن يُكَوِّنُون صورا ومعان صوفية، تبدو منبعثة في مختلف لوحات سناء، صورا لأشخاص وأشكال في لحظات البحث عن الخلاص، محياها بملامح الدروشة والاستعطاف التواق إلى قبول التوبة والخلاص.
إن قراءة الناقد الفني للوحات سناء الكشيري يلفيها بشكل من الأشكال لا تتوانى في تجسيد نمط الصدمة الحضارية التي يعيشها إنسان اليوم، ولذلك فقارئ لوحاتها يُكَوِّن مبدئيا صورا صوفية لشخصيات ذات ملامح رهبة النساك والدراويش، تستعجل الخلاص من حياة شوهت قيمها ومبادؤها.
والحق أن هذه الرهبنة والدروشة تبرز بشكل قوي في تكوينات اللوحات التي نقشت بدقة وباتزان لكثير من الأشكال والأحجام إلى جانب الوجوه الشاخصة نحو الأعلى في سعي للارتقاء الروحي من الفساد المادي، وتدني القيم في واقع اليوم، لذلك تحرص لوحات سناء على تحميل الكثير من الملامح والأشكال المشوهة.
إن الوجوه المشوهة بملامح شاخصة؛ موزعة في مجموع فضاءات اللوحات تشد المتلقي بتميز محياها التي توحي لارتباط وجداني ودلالي قوي بالخلفية الثقافية المغربية العربية والإسلامية. شخوص قريبة من الصور والأشكال في المنمنمات المغاربية "ادم وحواء في الجنة" أو مشاهد تتصل بطقوس دينية القيام للصلاة "تجهد الصوفية"، وفي حالات تعذيب الذات من فرط انغماسها في الملذات.
إن عناصر التكوين في لوحات الكشيري على قدر بساطتها فإنها تزيح الإبهام والغموض وتيسر للقارئ تكوين مضمون دلالي حرفي يُجَسِّر الانتقال إلى مستوى التأويل الدلالي. عناصر لا ينقطع وصل إيحاءاتها الدلالية بين المعنى الحرفي للنص التشكيلي والمعنى التأويلي أو التفسيري. خِصِّيصة وتَفَرُّد قد لا تجده ممكنا إلا في لوحات المحترفين الكبار في عالم التشكيل.
ريشة سناء الكشيري تمتاز بحرية لمساتها وتلقائية وداعتها المسحية تلتزم التوازن والتوزيع العادل لمساحات عناصر اللوحة كلية بما يتناغم ومشهد الرؤية لدى المشاهد. والفراغات بين العناصر وأشكال اللوحة، تخلق تَعَالُقا لرسم أشكال جديدة، ويصبح الفراغ مريحا للعين من جهة، ومن جهة يساهم في رسم ملامح جديدة، تضمن كثافة في دلالات اللوحة.
إن موجودات لوحات سناء تعطي فرصة للعين لتنفتح على عناصر أخرى في سياق تدبير فضاء اللوحة لخلق طاقة التنامي الدلالي كأفق أوسع للتأويل (القراءة المثالية).
لغز الإنْشِداد والانجذاب قد لا يحل باستقراء طبيعة الألوان الدافئة التي تستعملها الفنانة في لوحاتها، حيث لا تميل إلى تعدد الألوان وتضارب طبيعتها، حتى أنك تقول أن اللون البني والأبيض والأسود ألوان محجوزة للوحات سناء الكشيري.
وكثيرون هم الذين يجهلون عناصر الإنشداد والانجداب إلى لواحات سناء الكشيري على الرغم من غموض تراكيب عناصرها في الكثير من الأحيان، لكنهم يحسون في المقابل بفضول القراءة وتشفير عناصرها لتكوين دلالة غير منتهية.
وقليلة هي اللوحات التي تثير في المتلقي فضيلة السؤال والتساؤل، كما هو واقع الحال حين تكون أمام لوحات سناء الكشيري، التي تخلق للمتلقي جوا رهيبا وقلقا محبوبا. قلق اكتشاف دلالة عناصر اللوحات، عبر التحفيز المسترشد بعناصر تتضمنها كل لوحة على حذا، تثير تركيب دلالات عناصر اللوحات، فيتجاوز المتلقي دلالات القراءة الحرفية ليتعقب آثار تعالق وتراكب عناصر اللوحة نحو إبداع نصوص تشكيلية جديدة، واقتراح لوحات بديلة.
إن تَلقي النِّتاج الفني والتشكيلي لسناء لا تتوقف فيه العمليات القرائية عند تفكيك مكونات عناصر اللوحة، بل ينتهي بتحفيز للبدء في عمليات تأويل جديدة تذكي رغبة بناء أشكال هندسية مطورة للوحة في أفق البلوغ بناء لوحات نموذجية.
تدفع القراءة النقدية للوحاتها في اتجاه اكتشاف معالم بناء نص سردي تتعدد فيه وجهات نظر أو (تتعدد فيه الأصوات) وجوه ومحيا شاردة تتراوح إيحاءاتها بين الندم والسعي إلى الخلاص، ومن جهة ثانية تتعدد الأشكال التي تغطي باقي مساحات اللوحة من حيث الكم والحجم.
وتتشكل لوحاتها من وحدة كلية تدرك بصريا من المشاهدة المبدئية لترسم نمطا معينا من الدلالة المبهمة، إلا أنها في ذات الوقت تضغط على المتلقي لتطوير طبيعة القراءة الحرفية إلى القراءة التأويلية، وهو ما يكلف جهد التفكيك والتجزيء لمكونات عناصر اللوحة.
إن النص التشكيلي عند الفنانة سناء الكشيري يثير فضول المتلقين لتفكيك عناصره، ويحفز على التساؤل عن الفنان وتاريخ اللوحة وعنوانها، تحسبا لاستجماع معطيات معينة تنهي ألم الفضول وحالة القلق المتكونة من الغموض السهل في دلالات اللوحة، قلق يستمر محيرا ومحفزا لوجود تيمة النظام واللانظام والتشنج في لوحاتها.
تفرض اللوحة التشكيلية عند سناء الكشيري خلق جدلية تفاعلية بين اللوحة (الإنتاج) والمتلقي"، ذلك أن استمرار تأثير اللوحة لا يتم ما لم تدرك عين المتلقي عناصر تكوين اللوحة بشكل متوالي على نحو دائم ومتجدد، فإما يكتفي فيه المتلقي تكتفي بتقليدها، وإما يتجاوزها وينتقدها.
وإذا كانت لوحات سناء تضمن إبهاما لدى المتلقي فلأنها لا تحتمل المعنى كله، ولا تقول كل شيء، لذلك فهي تحتاج إلى "القارئ النموذجي"، أو "القارئ المثالي" الذي يعيد ملأ الفجوات والفراغات لاكتمال المعنى على حد تعبير أمبرتو إيكو.
وحينما كانت لوحات سناء الكشيري لا تحتمل معنى واحد، احتفظت لنفسها بهامش من الإبهام والغموض، إبهام يقوم القارئ بتأويله عبر ملأ الفراغات الدلالية، وإعادة تركيب عناصر اللوحة، في إطار ما يسمى بـ "أفق الانتظار أو التوقع"، استحضار المتلقي معارفه ومعلوماته لتفكيك عناصر اللوحة، فيستحسنها أو ينتقدها.
elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)