مواضيع اليوم

في ربوع الذاكرة ـ قصة قصيرة

يوسف رشيد

2010-08-16 11:20:11

0

ـ الضَّياع :
لم أشك لحظة في حبها لي ، لكني مع ذلك ، كنتُ موقنا أن حبنا هذا لن يعصِمَنا عن مخاطرَ جمَّة ، لا بد أنها ستعترضنا شئنا أم أبينا ..
لماذا لم تصرّحْ لي بحبها حتى هذه اللحظة ؟
رحم الله جدّتي ، كانت تقول لي : في العتمة تستوي كل النسوة ..
بقيتُ في الغرفة وحيدًا مع دمعة لا أعرف لماذا سقطتْ ..
قلبتُ شفتي ، قد تكون ترحّمًا على جدتي .. قلت ذلك وأنا أسحق عقب السيجارة ..
أيام تمطر السماءُ حزنا ، يقولون : ها هي السماء غضبى ..
ويقولون : إننا أشرار ونستحق ذلك ..
ويقولون : ما يزال في العمر متسع ، وسنكون .....

ـ التمرُّد :
في صغري ، كان حلمي الأوحد ، أن أكبرَ بسرعة ، لئلا يحاسبَني أبي فيما لو تأخرتُ قليلا ، أو بتُّ خارج البيت دون إذن مسبق .. لكن حلمي لم يكنْ يكتمل إلا حين أكون في الأزقة والشوارع والحقول التي نزحْتُ عنها مبكرا مع الأسرة .. فإذا ذهبتُ إلى القرية ، تضيق أمامي الحقولُ الفسيحة ، وتشردُ بي الأفكارُ بعيدا ، يغمرني فرحٌ باللهو وبالمحبة البريئة ، وبالعشق الذي لم أذقه ..
كنتُ أنا وهادي نتمشى عبر الحقول الشمالية ، حين نظر إليّ ضاحكا عن أسنان متباعدة متسخة ، كأنه فرغ للتو من أكل حفنة تراب ، ثم ضيَّق عينيْه ، وسألني بلهجة رجل متزن : أراكَ تفكر فيها ؟!
استغربتُ سؤاله ، وقلتُ بسرعة : منْ هي ؟؟
قال ، فيما تكاد عيناه تغمضان : حبيبتك ..
صمتُّ طويلا ، لفحتْنا هبّاتُ هواء محمّلة بالغبار المُثار من غنمتيْن تتناطحان على نبتة خضراء ..
قال هادي : عدْتَ إليها ؟؟
كنتُ أبحثُ عن الجواب : أأكذّبُ تخميناته ، أم أحكي له مزاعمَ مختلقة ؟؟
لم يطلْ تفكيري ، فقلتُ له : أحبها كثيرا .. وأتخيلها قادمة من الشفق الذي يعتلي الأفق ، وأكادُ أسارعُ لاستقبالها ..
نظرَ إلي والدهشة باعدََتْ أجفانه ، فبدتْ عيناه في أقصى اتساع لهما .. لكني تابعتُ متجاهلا :
منذ أيام غافلتها عندما كانت عندنا ، وسرقتُ قبلة من خدها ، فغضبتْ ، وحزنتُ كثيرا ، لكني تنفستُ الصعداء حين رمقتني بنظرة رضى وهي تغادر بيتنا ..
توقفتُ عن الكلام ، كان هادي ينتظر مني المزيد ، وعندما طال صمتي ، لكزني بعدما أشعل سيجارته وقال :
أنسيتَ البقية ؟؟ ما بك ؟ تكلم ..
بدأ الظلام يخيّم علينا ، وبدأنا نستجمعُ أنفسنا للعودة ، فقال بلا مقدمات : أنا أعشق أغنامي .. وأنت تعشق جارتك .. أتبادلني ؟؟!!
من العجيب في ذلك اليوم ، أن العصافيرَ والطيورَ غابت عن السماء .. والأعجب ، أني صدّقتُ نفسي فيما رويْتُ ، حتى ظننتُ أن طريق العودة ، صار أقصر بكثير ..

على طاولتي ، تنهدْتُ ، وبين أصابعي سيجارة لم أشعلها :
ترى !! لماذا يفقدُ المُحِبُّ الجرأة على لمْس حبيبته بعدما يكبران ؟؟!!

ـ الممارسة :
كنتُ مسافرًا إلى دمشق ، حين صعدَتْ إلى باص الهوب هوب امرأةٌ تغطي وجهَهَا بغطاء أسود ، يشفُّ عن مساحيق فاقعة ، وترتدي في يديْها قفازيْن أسوديْن ، وفي ذراعها محفظة نسائية كبيرة نسبيا ..
خيّرَها المعاونُ في مكان جلوسها ، فطلبَتْ مني بصوتٍ أجشَّ أن تجلسَ بجانب النافذة ..
وبعد حديث طويل ابتدأتْه باعتراضها على موقف المجتمع من تدخين المرأة في مكان عام .. مرورًا بموجز عن قصة حياتها ، وطريقة عيشها ، ومقصدها الذاهبة إليه ، ثم عن جيرانها الذين نصّبُوا من أنفسهم أوصياءَ عليها ، وانتهاءً بالجنس في أبشع صوره وأنواعه وممارساته .. أخذت المرأة راحتها بجانبي ، واسترْسَلتْ :
تحبُّني النساءُ أكثر من حبّهن للرجال ، لآني أتحسّسُ خلجاتهن ، وأتفهَّم مطاليبهن ، وأساعدُهن على تحقيق كل رغباتهن ..
كأنْ أصْحَبَ فتاة إلى بيت عشيقها ، أو أنفردَ بأخرى لنتداعبَ ، فترتمي بين يديَّ كقطعة قماش بالية ، فترجوني وتستزيدني وهي تقبّلُ قدمي ..
وكثيرًا ما يأتينني بالهدايا النفيسة ، لتحصلَ واحدتهن على موعدٍ تزورني فيه أو أزورُها .. وقد ننامُ ليلتنا في سرير واحد ..
ولي صديقة تنتظرُ غيابَ زوجها بفارغ الصبر ، لنقضيَ الليل معًا ، فلا يُغمَضُ لنا جفنٌ ، حتى إذا ما طلعَ الصبحُ ترانا متهالِكتيْن لا قدرة لنا على الحراك ..
وتابعتْ وهي تقرأ ملامحَ وجهي من تحت النقاب :
أعرفُ اثنتيْن طلقتا زوجيْهما وتعيشان الآن معًا كما يعيش أي زوجين ..
وعندما شاهدتْ في وجهي استهجانا ، قالتْ وهي تدفعُ بساقها تحت ساقي :
هنّ مجنوناتٌ ، وقليلاتُ العدد ، ولا يشكلنَ قاعدة ، ولا يعرفنَ ملذاتِ الدنيا الحقيقية ..
كان غطاءُ وجهها يُخفي تحته سنواتِها الخمسين ـ ربما ـ
وقد خلعَتْ قفازيْها ، لتأكلَ من علبة الحلوى التي قدّمَها لها المعاونُ ، بعد توقفنا في استراحة النبك ، فناولتني شيئا منها وسألتني بخبثٍ ماكر : متى ستعود إلى حلب ؟؟

ـ المُنطـَلـَق :
لماذا يستهوي الأولادَ عَدُّ النجوم ؟؟ ولماذا يُصِرّون على ذلك إذا مَنعَهم أحدٌ ؟؟
حين نكون نائمِين على دكة بيتنا في الضيعة ، كانت أمي تخيفني من عَدّها ، كي لا تنتشر الثآليلُ في جسمي ، فسألتها مرة : إذا كانت كلُّ نجمةٍ بثؤلولة واحدة ، فكم واحدة يساوي القمرُ يا أمي ؟؟

الجمعة / 02ـ30/ كانون الثاني/1976




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !