في الرابع عشر من شهر ايار من كل عام يحتفل الاسرائيليون بذكرى اعلان قيام دولتهم الغاصبة عام 1948 فيما يسمونه هم إعلان الاستقلال، وهو ما مثل في نفس الوقت الإعلان عن ضياع جزء عزيز من جسد الأمة الاسلامية بسبب تواطؤ الحكام وتخاذلهم وخيانتهم للقضية.
وكما كان ضياع فلسطين نكبة في تاريخ الأمة فإن نسيان ذلك الحدث نكبة أخرى تضاف الى الذاكرة العربية والاسلامية التي تنسى النكبات والمآسي بسرعة ولا تأخذ منها العبرة، والمفروض بنا في هذا المجال أننا إذا خسرنا الأرض فينبغي ألا نخسر الذاكرة على حد تعبير الكاتب المصري فهمي هويدي.
فكيف ضاعت فلسطين؟ ومن هم الذين يتحملون المسؤولية التاريخية عن هذه المأساة التي تسببت في تشريد ملايين الفلسطينيين عن ديارهم؟..
لقد كانت فلسطين عبر جميع مراحلها التاريخية محط أنظار الامبراطوريات والدول العظمى والقوى المعتدية لما لها من موقع استراتيجي وأهمية دينية، وكانت بريطانيا من الدول التي لها طموحات امبريالية في منطقة الشرق الأوسط عموما وفلسطين خصوصا، فاهتمت منذ وقت مبكر بهذه المنطقة الجغرافية المهمة التي تجمع بين قارات العالم القديم وتشكل طريقا بريا لتجارتها مع الهند واسيا، وساعد على بلورة هذه الطموحات الامبريالية ووضعها موضع التنفيذ تلك العقيدة المسيحية التي نشأت في أحضان المذهب البروتستانتي والتي ترى أن اليهود ينبغي أن يعودوا الى فلسطين وتأسيس دولتهم فيها كتمهيد للعودة الثانية للمسيح، ولذلك فإن أول دعوة لانبعاث اليهود الى فلسطين ارتفعت في بريطانيا على يد عالم اللاهوت البريطاني توماس برايتمان (1562 – 1607) الذي ألف كتابا قال فيه ان الله يريد عودة اليهود الى فلسطين ليعبدوه هناك، وتوالت بعد ذلك الدعوات المسيحية المطالبة بإرجاع اليهود الى فلسطين، وكان اللورد البريطاني أنطوني أشلي كوبر أول من قال عن فلسطين بأنها وطن بلا شعب لشعب بلا وطن وذلك عام 1839، وأصبحت تلك المقولة فيما بعد من أهم شعارات الحركة الصهيونية. وبالاضافة الى تلك العقيدة التي آمن بها العديد من السياسيين البريطانيين والغربيين، فإن رغبة بريطانيا والدول الأوروبية في التخلص من اليهود المثيرين دائما للمشاكل والأزمات كانت دافعا آخر لتلك التوجهات التي سعت الى تحويل فلسطين الى وطن قومي لليهود.
وهكذا بدأت الصهيونية المسيحية قبل الصهيونية اليهودية، فقد كان اليهود في بداية الأمر لا يولون اهتماما لتلك الدعوات بل ان الكثيرين منهم كانوا يعتبرونها زندقة وخروجا عن الديانة اليهودية لأنهم كانوا يعتقدون أن عودتهم الى فلسطين ستكون على يد مسيحهم المنتظر.
فبدأ مفكرو اليهود ينظّرون لفكرة الوطن القومي، وكان من هؤلاء (ثيودور هرتزل) الذي أصدر عام 1896 كتابه "دولة اليهود – محاولة لحل معاصر للمسألة اليهودية" بين فيه الخطة السياسية لإقامة الدولة. ولم يكتف هرتزل بهذه الخطوة النظرية بل أتبعها بخطوة عملية تمثلت في انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897.
واستمرت المحاولات الصهيونية من أجل إقناع القوى الامبريالية الكبرى بتبني قضية اليهود فأسفرت تلك المحاولات عن إصدار وعد بلفور عام 1917، حيث بعث وزير الخارجية البريطاني (آرثر بلفور) بيانا سياسيا من قبل الحكومة البريطانية الى اللورد اليهودي روتشيلد ضمنه تأييد حكومته لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وبذل قصارى الجهد من أجل تحقيق هذا الهدف. وفي نفس العام احتلت القوات البريطانية فلسطين ودخلت القدس بقيادة الجنرال اللنبي.
وقد كان من المقرر قبل ذلك التاريخ أن يتم وضع فلسطين تحت إدارة دولية حسب معاهدة سايكس بيكو الاستعمارية التي عقدت بطريقة سرية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا والتي تم بموجبها تقسيم ممتلكات الامبراطورية العثمانية. إلا أن الدول الاستعمارية اتفقت فيما بعد على وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني وأيد مجلس عصبة الأمم قرار الانتداب عام 1922.
فبدأت بريطانيا منذ ذلك الوقت بتبني سياسة موالية لليهود، حيث سهلت هجرة اليهود الى فلسطين وسهلت لهم طرق الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين بالقوة وقمعت الثورات والانتفاضات الفلسطينية وساعدت اليهود في إنشاء تشكيلات عسكرية مدربة على مختلف أنواع الأسلحة..
واستمرت الحالة في فلسطين بين شد وجذب بين أطراف الصراع مع ترجح كفة اليهود تدريجيا من حيث الاعداد للمعركة المرتقبة بسبب الدعم الغربي الامبريالي لهم، وكان العرب على المستوى الرسمي في سبات حتى جاء عام 1947 حيث تم إصدار قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني بالأغلبية حيث أيدته 33 دولة وعارضته 13 دولة وامتنعت 10 دول عن التصويت.
بعد قرار التقسيم بدأت الفعاليات العربية وبدأ الفلسطينيون ينظمون أنفسهم في تشكيلات عسكرية فأسسوا منظمة الجهاد المقدس التي كانت بقيادة الشهيد (عبدالقادر الحسيني) كما أنشأت جامعة الدول العربية جيش الانقاذ من المتطوعين العرب وأسندت قيادته الى (فوزي القاوقجي) فبدأت المعارك بين الجانبين وارتكب الصهاينة في تلك الفترة أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين كان منها مذبحة قرية دير ياسين التي راح ضحيتها حوالي 250 معظمهم من النساء والأطفال..
أعلنت بريطانيا عن عزمها على الانسحاب من فلسطين دون الرجوع إلى الأمم المتحدة بحجة أنها تريد أن تنهي الانتداب، وأن تترك للأمم المتحدة حرية القرار بشأن مستقبل فلسطين، وكان من المقرر أن تنسحب بريطانيا في 15/5/1948 إلا انها انسحبت في 14/5 وفي اليوم نفسه أعلن بن غوريون عن قيام دولة اسرائيل.
وكانت الدول العربية وبضغط من شعوبها قد قررت أن تشرك الجيوش العربية في شهر نيسان من نفس العام، وبدأت وحدات من تلك الجيوش تدخل فلسطين في 15/4
أسباب النكبة:
1- عدم كفاءة القيادات السياسية العربية التي لم تكن بمستوى المسؤولية التاريخية وخانت القضية وخضعت للإرادة المبريالية البريطانية، والدور السلبي لعاهل الأردن الملك عبد الله حتى ان قائد أركان الجيش الأردني كان بريطانيا وهو الجنرال غلوب.
2- عدم الاستعداد للمعركة بكل أبعادها، حيث لم تقم الدول العربية بإعداد جيوشها وتنظيمها وتدريبها بما يتناسب مع المهمة التي تنتظرها، وقرار إشراك الجيوش النظامية لم يتخذ الا في شهر نيسان من عام 1948. كما أن الدول العربية لم تعمل أيضا على تمد الفلسطينيين بالسلاح اللازم، حتى ان مدينة حيفا كما يقال لم تكن فيها بندقية حربية واحدة عند قرار التقسيم ولم يكن فيها الا عدد من المسدسات والقنابل اليدوية.
بينما نستطيع القول أن اليهود كانوا يعدون أنفسهم منذ الحرب العالمية الأولى حيث نجح الزعيم الصهيوني جابيتونسكي في إنشاء أول كتيبة يهودية ضمن الجيش البريطاني وتوالت بعدها الكتائب اليهودية التي شاركت عمليا في الحرب وخصوصا المعارك التي جرت في مصر وفلسطين، وفي الفترة ما بين الحربين أنشأ اليهود عدة فرق عسكرية ارهابية منها الهاجاناه وأرغون وشتيرن.. وأنشأوا لواءا يهوديا حارب ضمن جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
3- استهانة القادة العسكريين العرب بالقدرات القتالية لليهود والمستوطنات اليهودية، يقول الاستاذ كامل الشريف في كتابه (الاخوان المسلمون في حرب فلسطين) أن إدارة المخابرات في الجيوش العربية النظامية هونت من شأن التحصينات اليهودية حتى لقد قدرت إحداها مدة أقصاها 72 ساعة ليفرغ جيشها من احتلال فلسطين كلها، وحتى أن أحد المسؤولين العسكريين في جيش عربي كبير قال للوحدات العسكرية الزاحفة انها ذاهبة في (نزهة عسكرية) الى (تل أبيب) لا أكثر ولا أقل!!. ولكن عندما حانت لحظة الحقيقة صدمت الجيوش العربية للبراعة القتالة والخبرة العسكرية والتحصينات الدفاعية لليهود.
4- عدم واقعية الخطة العربية العامة لإدارة المعارك، حيث كان من المفروض على كل جيش وخصوصا الجيش المصري ان يحتل مساحات شاسعة دون وجود قوة كافية للحفاظ على تلك المناطق والدفاع عنها.
5- شحة الأسلحة بيد الفلسطينيين وما كان موجودا منها كانت أسلحة قديمة وبدائية، كما أن الجيوش العربية أيضا كانت أسلحتها قديمة ومن مخلفات الحرب العالمية الثانية وصفقة الأسلحة الفاسدة للجيش المصري معروفة في هذا الصدد.
6- عدم التنسيق بين الجيوش العربية التي كان من المفروض ان تعمل تحت قيادة عربية موحدة، لكن عند بدء المعارك تبين أن تلك الجيوش كانت تتبع لقياداتها السياسية لا للقيادة الموحدة، وكانت الأهداف السياسية للدول المشاركة غير موحدة، لذلك ظهر تشتت واضح على الجيوش العربية وكانت كل قوة تخوض معاركها وحدها بعيدة عن الخطة العامة.
7- تدخل القيادات السياسية في تغيير الخطط العسكرية، حيث قامت اللجنة السياسية للجامعة العربية بتغيير الخطة التي وضعها رؤساء أركان الجيوش العربية قبل أيام فقط من دخول تلك الجيوش الى فلسطين. كما أن القيادات السياسية كانت تتدخل أحيانا حتى في الخطط الفرعية، وكمثال على ذلك يذكر اللواء الركن (خليل سعد) في كتابه (تاريخ حرب الجيش العراقي في فلسطين) أن الجيش العراقي حينما اجتاز نهر الأردن واحتل بعض المواقع حضر الملك عبدالله والأمير عبدالاله والأمين العام للجامعة العربية عبدالرحمن عزام ووقفوا بشرقي الأردن يراقبون القتال ويظهر أن قد راق لهم تسلل الضباط والجنود للتلال في غربي الأردن واعتقدوا أن الفرصة سانحة لاحتلال قرية كوكب الهوى الموجودة في أعلى المنطقة فأصدروا الأوامر بذلك الى الفوج الموجود هناك، وبالرغم من أن آمر الفوج قد بين الصعوبة في تنفيذ الأمر الى ان تأكيدات القيادة عليه قد أدت الى أن يصدر أمره الى إحدى السرايا التابعة له بتنفيذ تلك الخطة التي أدت بعد ذلك الى كارثة حلت بهذه السرية واستشهاد قائدها وتكبدها خسائر جسيمة وتقهقرها بعد ذلك من تلك المنطقة.
التعليقات (0)