لم يكن الأمل، حلم ليلة صيف، ولا من بنات اضغاثها، أو قفزة في فراغ. فالعالم كله كان في حالة ولادة متدفقة بالاحلام والمعجزات، الانسان يخترق الفضاء الكوني ويدور حوله، فيما تتحول حركة تطور اجيال العلوم والاكتشافات وسبر الاكوان في عمق النفس البشرية، وفي بواطن الارض، وفي البراكين والعواصف، والجينات، وجدول مندليف، تتحول إلى قفزات تختزل الازمان والمسافات، ليظلَّ في تناقض مريب مع بقاء الناس الحالمين يدورون حول ما هم عليه وفي مدار احلامهم ذاتها... تناقض، يكاد في كل لحظة ان يخنق حتى محاولة تحقيق انسانيتهم، فكيف مع احلامهم التي تتحدى المستحيل على ارضهم البور.. كان الصعود التأريخي للبشرية، يتجسد في الافكار العظيمة التي تنبت من رحم الفلسفة والآداب والفنون وتكسر التابوات لتجدد ادوات الحياة ووسائل العيش، وانماط التفكير والاخلاق وتعمق الاحساس بمعنى الوجود وسره الازلي ومعطاه اللانهائي.
لم يكن الصعود مبتسراً أو مقصوداً في منحى معزول يُختزل في العلوم أو الآداب أو الفنون أو حتى في وسائل الدمار والتخريب. فالخلق والدمار وحدهما العلم، وجعل من تناقضهما أداة تطوير وقفزات، واسلوباً في تفكيك الوحدة الإنسانية للبشر، ومعهما اصبحت الحياة اكثر وعداً وتبشيراً..
صعود مذهل جعل الانسان في النصف الاول من القرن العشرين يكتشف كينونته الانسانية كما لم يتيسر له ذلك طوال عمر الانسان، وينهل من ينابيع جمالها ومتعها، ويزداد انغماراً فيها مع تزايد رعبه من وسيلة تدمير كونه كله بالعلم نفسه! والعراقي لم يكن بمنأى عن هذا الصعود، بل كانت آماله كلها عالقة في روافعها المبشرة. وكان يرنو ببصيرة نافذة إلى التحولات الكبرى من حوله، الانعتاق العظيم من أسر العبودية في افريقيا، حركات التحرر وهي تحقق انتصاراتها الباهرة، الاشتراكية وهي تعد بالمساواة والعدالة بحق العمل، الرأسمالية وهي تغرق ما يفيض من خيراتها في البحر، وتطلق العنان لكل اشكال التعبير والعنت في الوقت ذاته. في هذه اللحظة التاريخية بين مرحلتين، انتصر العسكر في الإطاحة بالملكية، وانفجر الشارع ليحمل آمال الناس بالثورة، كلمة الحرية التي كانت تعني، حياة جديدة، تعيد الارض لمن يفلحها، وتساوي بين اقدار الناس، وتزيح كابوس المفسدين ومسوقي عذابات الناس..
وانطلق العراق بشيراً ونذيراً.
وزحف الناس يلاحقون انفاسهم، وقيل ان كل زاويةٍ من زوايا المدن والارياف تحولت إلى مراتع اعراس وافراح، حتى ان سجلات دوائر الامن والشرطة لم تسجل في شهورها الاولى أية حوادث عن السرقة والقتل وجرائم الاعتداء على مقدسات الناس.
ولان آمالهم كانت بسيطة لا تتعدى الرغبة في حياة كريمة وجدوا انفسهم امام نموذجهم، الذي بدا مثل بساطتهم في نمط حياته وكلامه وعلاقاته.
هكذا وجد العراقيون انفسهم في الزعيم عبد الكريم قاسم وهكذا كان في الواقع دون افتعال وتزوير. فما الذي تغير لكي تنكفئ الثورة وتتدحرج وتتراجع، وتأكل ابناءها، وتتبدد الآمال التي اطلقتها..؟
في لحظة التحول من الاسر الى الحرية، وجد عبد الكريم قاسم نفسه هو الآخر، تجسيداً لمن اعتقهم بثورته، وضاع في حمى العياط الذي تسلل اليه وهو لايكتفي بتمجيده، بل يقترب من تأليهه!. وعندها لم يفرق بين رغبته الجموح في ايجاد اداة تعبر عن ذواتها المقموعة، وبين وهمه في انها هي ذاته نفسها.
لقد انصهر الزعيم وثورته وجموعه الهادرة في بوتقة واحدة، تصارعت اطرافها لتأكيد احقيتها في امتلاك المثل الذي اختزله الزعيم في ذاته وقد تحولت سلطة مطلقة، لها حق القول والفعل لكي تنفجر على نفسها وتضيع..
لقد ضاعت الثورة، لكن دروسها ظلت شاخصة وهي ترافق انهيار مُثلها عقداً بعد آخر، دون ان يلتقط ابناؤها ما ينفع التجاوز ويفيد في احياء الآمال.
واقسى دروس الثورة، ان السلطة مهما تكرست فيها اسباب القوة وعبر كل تأريخ الانظمة التي تتابعت في تأريخ البشرية لايمكن ان تستوي وتعيش على حساب ارادة من تتولى امورهم. وان السلطة ستأكل ابناءها ما دام اداؤها يغذي مسلسل العنف والتصفيات الجسدية، تحت أي باب او شعار او دين او فلسفة..
لقد ضاعت الثورة المغدورة، ثورة 14 تموز، لكن ضياعها الحقيقي، يكمن في اننا لم نأخذ بعبرها ودروسها.
المدى
التعليقات (0)