في ذكرى النكبة.. مراجعة نقدية لتجربة المقاومة الفلسطينية
بلال الشوبكي
يطوي الفلسطينيون هذه الأيام عامهم الثالث من العقد السابع تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما يطوون في ثنايا تلك السنين أحلاماً وتجارب وانتكاسات. لم يألُ الفلسطيني منذ اليوم الأول للاحتلال أي جهد لمواجهته، وقبل الإسرائيلي واجه شباب فلسطين والعرب القوات البريطانية والصهيونية، وحتى هذه اللحظة فإن من الفلسطينيين والعرب من لم يضع رايته وما زال مستعداً للسير في نفس الطريق.
المثير في التجربة النضالية الفلسطينية أن مقاومتهم المستمرة والمتجددة لم تأت بثمار تتناسب مع حجم التضحيات التي قدموها، كما لم تقد لمرحلة جديدة تؤسس لتحرره من الاحتلال. إعتاد الفلسطينيون وأنصارهم عموماً في مثل هذه الأيام من كل عام أن يعلنوا صمودهم في وجه الاحتلال ويباهوا العالم أجمع بأنهم شعب مناضل لم يتنازل عن حقوقه ولم يتقاعس عن العمل من أجل مشروعه الوطني، وهو حق لهم بل ضرورة تستدعيها الحاجة لإسناد معنوياتهم وتجديد الهمم، لكن هذا ليس كافياً حتى لو استمر النضال، فاليوم لا بدّ من مراجعة حقيقية للتجربة النضالية الفلسطينية، بحيث تحاول الإجابة على التساؤل التالي: لماذا لم تنجح المقاومة الفلسطينية حتى اللحظة؟ وما هي أهم المشاكل التي نالت من المقاومة؟ السطور القادمة هي محاولة أولية لنقاش هذا الموضوع.
إن من أهم المشاكل التي تواجه المقاومة الفلسطينية تلك المتأصلة في الأساس المفاهيمي والتي تتمثل في خلق قوالب فلسطينية للمفاهيم المجردة، تصبح بعد فترة طويلة هي الطريق الوحيد لاستيعاب هذا المفهوم، وتخرج من دائرته أبعاد وسياقات أخرى لم يُردها أو لم يلتفت لها الفلسطينييون. هذه المشكلة تنتج عن استخدام الواقع لفهم النظرية وهو أمرٌ قد يجدي نفعاً حين ضمان مطابقة الواقع للنظرية، لكن أن يتم اللجوء للواقع من أجل أسر النظرية والمفهوم داخل هذا الواقع، فإن ذلك يعد نهجاً تدميرياً لإمكانية التطور والتغيير. أساس التغيير -والمقاومة هي عملية تغيير- أن يدرك الفرد واقعه، وأن يقارنه بما يحمله من أفكار ونظريات ومفاهيم عن واقعه المنشود فتبدأ عملية التغيير لصالح المنشود، أما أن يكون الواقع المعاش هو مصدر تلك الأفكار حول الواقع المنشود فإن تطابقاً بين الحاضر والمستقبل سيكون مغروساً في النفوس، وهذا هو الجمود الفكري والحياتي الشامل.
لقضية طغيان المفاهيم الإجرائية على المجردة بعد آخر في الحياة السياسية الفلسطينية، فهي بالإضافة إلى كونها عامل تثبيط لا تدفع نحو التغيير، فإنها قد تؤدي إلى فهم خاطئ ومنقوص عن بعض المفاهيم، مما يؤدي إلى التعامل غير السويَ معها ومن أبرز المفاهيم التي وقعت ضحية إسقاط الواقع عليها المفاوضات والمقاومة، وهما مفهومان تعرضا للتشويه نتيجة إخفاق القائمين على كلا المشروعين في تحقيق إنجاز يذكر، والحديث هنا عن الحالة الفلسطينية فقط. المفاوضات أصبحت تعني التنازل في الثقافة السياسية الفلسطينية كما أشار باسم الزبيدي في كتابه الثقافة السياسية الفلسطينية. في مثل هذه الحالة لا يمكن لفلسطيني أن يقتنع بأن المفاوضات يمكن أن يتم اعتبارها نضالاً سياسياً أو دبلوماسياً وهو محق تماماً إن كان الحديث تقييماً للواقع، لكنه سيكون ضحية الواقع إن حاول تفسير الأفكار والمفاهيم من خلاله فقط، وهذه هي الاستجابة الخاطئة للنظرية والمفهوم.
أما الفهم المنقوص وهو الأبرز متعلق بمفهوم المقاومة، فالشعب الفلسطيني عموماً رسم للمقاومة حدوداً من واقع تجربة الفصائل الفلسطينية، فمقاومة الثمانينات إلقاء للحجارة ومقاومة التسعينات تفجير للحافلات ومقاومة الألفية الثالثة إطلاق "للصواريخ"، ولم يعرف الفلسطينيون أي بعد للمقاومة سوى العسكري منها، حتى بات تعريف المقاومة لدى الشريحة الأوسع يعني العمل العسكري، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن معنى الفعل قاوم في اللغة العربية بإيجاز "واجه مدافعاً". فلسطينياً فإن مواجهة الاحتلال للدفاع عن الحقوق المنتهكة هي المقاومة، والمواجهة مفتوحة تشمل الآتي:
- مواجهة أي محاولة إعتداء مباشرة أو غير مباشرة على سلامة وأمن الأشخاص.
- مواجهة أي محاولة للإعتداء على الممتلكات خاصة وعامة.
- مواجهة أي إضرار بالرموز المعنوية للمجتمع.
- مواجهة أي منع للحقوق والحريات الإنسانية.
- مواجهة أي منع لإنشاء المؤسسات وممارسة الأنشطة الحياتية المختلفة.
- مواجهة أي جهد يمكن أن يؤدي إلى تسهيل أي من حالات الإعتداء سابقة الذكر.
ما أود الخلوص له من تعداد لما تشمله المواجهة، أنه لا يمكن القول بأن مواجهة أي حالة من الحالات السابقة يمكن أن تتم بأسلوب واحد ونهج واحد، فمواجهة الاستيطان لا يمكن أن تتم بنفس أسلوب مواجهة الإجتياحات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية مثلاً، وما أود التركيز عليه أكثر في هذا الجانب هو مواجهة ما يدعم إسرائيل كي تتمكن من تنفيذ إعتداءاتها، وهنا فإن كل ما تحققه إسرائيل من تقدم في كافة المجالات يصنف ضمن هذه الدائرة، وهي تعزيز قوة إسرائيل.
المواجهة العسكرية المباشرة لإعتداءات إسرائيل والتي يفتخر بها الفلسطينيون هي الأسهل والأقل نفعاً وهذا برأيي سبب اللجوء لها بشكل أكثر من غيرها. أما الأصعب والأنفع فلا يتم الالتفات لها وهي كل ما من شأنه أن يزيد من منعة وصلابة المجتمع الفلسطيني من تطوير للتعليم والاقتصاد والثقافة والفنون وكل مناحي الحياة. قد يقول قائل: وما شأن ذلك بالمقاومة؟ هذه الأبعاد تختلف عن مقاومة الاحتلال! وهنا أقول لمن قد يحمل نفس التساؤل: عودة إلى معنى كلمة قاوم وهو المواجهة مدافعاً، فإني أرى المواجهة صنفان:
الأول: مواجهة سلبية فيها التحام مباشر، تقوم على أساس تحقيق أكبر قدر من الخسائر في صفوف المهاجم، ولا تتخذ من أسباب القوة سوى ما يمكّنها من إيقاع الخسائر بالطرف المهاجم. هذه المواجهة هي الأوسع إستخداماً في فلسطين والتي غالباً ما تنتظر الهجوم الإسرائيلي ومن ثم تقوم بالرد عليه، وهذه مسألة خطيرة حيث يتم تجزيء الاحتلال إلى أحداث، فالفلسطيني فقد الدافعية لمقاومة الاحتلال إلا إذا قام الاحتلال بنشاط عسكري مباشر، وحين يستمر الاحتلال بهدوء فإن المقاومة تختفي تقريباً، بل إن إسرائيل من تَجُر المقاومة لهذه المواجهة العسكرية تبعاً للمتغيرات السياسية الإسرائيلية الداخلية كالانتخابات أو وفقاً لمعطيات دولية ما.
الثاني: مواجهة إيجابية دون التحام مباشر، وهذا الصنف غير موجود بشكل واضح في المجتمع الفلسطيني، وكلي ثقة أنه الأنسب والأجدى نفعاً، وما أتطلع إليه كفلسطيني، هو خلق مجتمع فلسطيني يكون ندّا لإسرائيل في كل شيء، ولعلّي أشبهها هنا بقوة تنافر بين موجبين في المجال المغناطيسي، بحيث لا يكون هناك نقطة صفر أو التحام وإنما قدرة على الردع من مسافة، وكلّما امتلك المجال الفلسطيني القوة كلما زادت قدرته على تحريك المجال الإسرائيلي إلى أبعد مسافة.
هل ستسمح لنا إسرائيل أن نقوم بتطوير إقتصادنا وتعليمنا وغيرها؟ هذا هو سؤال المثبطين دوماً. ونقول: هل تسمح لكم إسرائيل بالعمل العسكري وتطوير الصواريخ؟ على الأقل سأتحدث عن نفسي، لم أسمع يوماً أن إسرائيل اعتقلت طالباً فلسطينياً لأنه أنجز بحثاً مميزاً في الطاقة البديلة أو مزارعاً أثبت نجاحه في إحياء أرض قاحلة لو تركها عاماً آخر لأضحت مستوطنة يندد ساساتنا بوجودها، وهذا ليس تجميلاً لإسرائيل، فهي تدرك أن إجراء دراسة جدّية أخطر من مئة صاروخ، لكنّنا لم نجرب حتى اللحظة هذا الصنف من المقاومة بشكل ظاهر كمجتمع حتى نرى ردة فعل إسرائيل. مضافاً إلى ذلك فإن هذا الصنف من المقاومة يقيّد السلوك الإسرائيلي تجاهه نوعاً ما.
فلنكن أكثر جرأة ولندخل دائرة الممنوع في النقاش الفلسطيني، ما هي القيمة السياسية والعسكرية للعمليات التفجيرية التي حدثت منذ سنوات داخل فلسطين 48، والصواريخ التي يتم إطلاقها من غزة؟ لا أجزم بأن تلك الأنشطة تخلو من القيمة، لكني بحاجة إلى توضيح من قبل القائمين عليها بشأن قيمتها، فأنا وجزء لا بأس به من المراقبين لا يمكننا أن نقيّم إلا وفقاً للمقدمات والنتائج النظرية التي وضعها القائمون على هذا الصنف من المقاومة ومن ثم مقارنتها بالواقع فإن لم تنسجم تلك المقدمات والنتائج مع الواقع فهذا هو التعسف الذي تحدث عنه ابن خلدون.
إن المقاومة حق مشروع لدحر الاحتلال وبكافة أشكالها سواء أشار القانون الدولي إلى ذلك أم لم يشر، والتساؤل حولى جدوى بعد معين من المقاومة أمرٌ مشروع أيضاً بل واجب، فالمسألة لا تتعلق برفض المقاومة العسكرية أو تأييدها بقدر ما هي مراجعة للمنفعة التي قد تتحقق منها. تؤمن الشريحة الأوسع من الفلسطينيين بأن الخيار العسكري للتعامل مع إسرائيل لا يمكن أن يحرر فلسطين إلا إذا كان الخيار العسكري أوسع من الدائرة الفلسطينية، ومع ذلك يصرّ البعض على اللجوء إلى الخيار العسكري تحت شعارات مختلفة أهمّها توازن الرعب، وهنا من حقنا أن نتساءل: كم عدد تلك المرّات التي تراجعت فيها إسرائيل عن الإعتداء على الفلسطينيين نتيجة خشيتها من المقاومة العسكرية الفلسطينية؟ وهل حقاً هناك توازن في الرعب في كلا البيئتين الفلسطينية والإسرائيلية؟
شاب فلسطيني يبلغ من العمر 24 عاماً في الفصل الأخير من دراسته الجامعية في كلية الهندسة، شهد له جميع أساتذته بأنه المميز علماً وخلُقاً. حكّموا العقل ولغة المصلحة وأجيبوا على هذا السؤال: أي الحالتين التاليتين أكثر نفعاً للمجتمع الفلسطيني، أن يكرّس هذا الشاب عقله المبدع في تطوير مجتمعه بأي مشروع ذي علاقة بمجال تخصصه ينافس نظراءه الإسرائيليين، أم أن يختم خمس سنوات من جهده كطالب متفوق ومن إرهاق عائلته مالياً بحزام ناسف يحول حفل تخرجه إلى حفل تأبين؟ أدرك تماماً حساسية هكذا نوع من الأسئلة وأعلم مسبقاً أني سأحصل على إجابات بلغة عاطفية ودينية تقيّد القلم، لكنه لا بدّ من هكذا تساؤلات تؤكد احترامها لتضحيات هذه الشريحة من المقاومين لكنّها تفتح نقاشاً جاداً لضرورة مراجعة نهج المقاومة بشكل يضمن تحقيقه لأهدافه.
إن دائرة المقاومة أوسع بكثير من الجانب العسكري، ولا بد من فتح النقاش في هذا المجال من قبل النخب والتيارات السياسية الفلسطينية. لماذا يثور الفلسطيني لدخول المدرعات الإسرائيلية إلى قريته ومدينته بينما لا يثور لسرقة تراثه مثلاً؟ لإنه فهم أن الاحتلال مجرد جندي مسلح وعليه فالمقاومة ستكون مقتصرة على مواجهة هذا الجندي. أليس من المثير للاشمئزاز أن يخرج مثقفو الوطن ومؤسسات المجتمع المدني يطالبوا باستعادة "نص نصيص" كونه من التراث الفلسطيني – لمن لا يعرف نص نصيص، فهي مجموعة قصصية طالب ناصر الدين الشاعر حين تولى حقيبة التعليم بسبحها من مكتبات المدارس الابتدائية فثار مثقفو الوطن حفاظاً عليها، وهي التي أقصى ما يمكن أن تكسبه للطالب خوفه من العتمة وإنشغاله بأسفل بطنه-، بينما لم تتحرك هذه الفئة حين ارتدت مضيفات طائرات العال الثوب الفلسطيني المطرز على أنه تراث إسرائيلي.
أليس غريباً دعوة دبلوماسيي العالم لإحدى السفارات الفلسطينية كي توضح تطور المفاوضات فتقدم لهم ما لذ وطاب من أطباق غربية وآسيوية، فيما توجه دعوة أخرى لدبلوماسيي العالم من سفارة إسرائيلية ليحتفلوا سويّا ويتناولوا الحمّص والفلافل على أنه من المأكولات الشعبية الإسرائيلية؟ أليس تناقضاً أن يترك الفلسطيني أرضه دون زراعة ويخرج عاملاً للبناء في المستوطنات الإسرائيلية، وفي نفس الوقت يتظاهر ثائراً ضد المستوطنات؟ ألا يثير ريبتكم تدخل جزء واسع من المسلحين تحت غطاء المقاومة في الحياة المدنية؟
ختام القول: إن هذه المراجعة الأولية والتساؤلات النقدية حول المقاومة مجرد رأي لا أجزم بصوابه، ولا أدعي التعميم فيه. وما أريد إثارته في هذا المقال أنه من حق الشعب الفلسطيني المقاومة بأي شكل، لكن من واجبه التقييم والمراجعة لهذه المقاومة بعد كل تلك السنوات، ومن واجبه إيقاف ما يحقق به الخسائر إن ثبت ذلك.
مجلة القدس المصرية
• كاتب فلسطيني - ماليزيا
التعليقات (0)