في ذكرى المولد النبوى .... لماذا هذا اللغط السلفي؟
تجيء ذكرى المولد النبوي الشريف هذا العام ونحن أحوج ما نكون إلى القدوة الصالحة والأسوة الحسنة . ولاشك أن في الإحتفال الجماعي بمولده عليه الصلاة والسلام . وهذه المظاهر التي تعم البيوتات الدينية وربوع وساحات وميادين الذكر في بلادنا الحبيبة الأثر الكبير في إيقاظ جذوة محبة سيد الخلق المعصوم الذي جمع له المولى عز وجل كل صفات العصمة البشرية بحذافيرها. فكان ولا يزال صلى الله عليه وسلم المخلوق المتصف بصفات الكمال البشري بلا منازع .... ومن ثم فلا يكتمل إيمان المرء إلا بمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى درجة يكون فيها أحب إليه من أمه وأبيه وولده ونفسه التي بين ضلوعه ... أو بمعنى آخر أن يكون المرء في سعي دائم نحو كمال محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم .... لأن الكمال لايجاريه سوى الكمال ولايصحبه سوى الكمال .. فكمال محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي السبيل لكمال إيماننا بالله عز وجل ..
ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتكون بالأمنيات وحدها . ولكن لها طرق ومسالك عديدة قد يتفاوت الناس في إتباعها ما بين مقصر ومجيد ومجتهد.
هناك الآن من يختلف رأيه عن غيره خاصة في مجال المسلك والتعبير عن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لكن وبرغم كل ذلك فإن الغاية واحدة وكل يجتهد على قدر نصيبه طالما أنه لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما ...... وبوجه عام فقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأساس الذي تنطلق منه محبتنا له . وهو إتباع كتاب الله عز وجل وسنته صلى الله عليه وسلم . فمن رغب عن سنته فهو ليس منه .. ومن لايكون من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تكون له شربة الماء من الحوض المورود . ولا تكون له الشفاعة....... وليرحم الله بعد ذلك من أراد من خلقه وعباده في يوم ملكه الذي لايدانيه فيه أحد.
والذين يستخدمون القليل من الجهد الذهني يكتشفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع له الله الفضل في كل شيء . غير أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن نقارنه أو نفضله على أحد من الرسل والأنبياء . وذلك تأدباً منه وهو الذي على خلق عظيم كما وصفه الله في محكم تنزيله أو كما قالت عنه أمنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما "كان خلقه القرآن" .... وما يعنيه ذلك من كمال المخلوق في حضرة كمال الخالق ... فهو عليه الصلاة والسلام خليل الله ، وهو كليم الله ، وهو الذي رفعه الله إليه حياً ببدنه ليلة الإسراء والمعراج فكان قاب قوسين أو أدنى .. ثم أضيف إلى ذلك ما لايعـد ولا يحصى من الأفضال والنعم والهبات الإلهية . فهو عليه الصلاة والسلام الحبيب المصطفى .. وهو صاحب الحوض المورود .. وهو أكثر الرسل والأنبياء أتباعاً يوم القيامة ... وهو صاحب الشفاعة .. وهو الرحمة المهداة لأتباعه وكافة المسلمين من ولد آدم قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام.... لكننا وبعد كل هذا نمسك أنفسنا عن الإسترسال والمقارنة السافرة إمتثالاً وسمعاً وطاعة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تفضلوني على يونس بن متى ، و لا تفضلوا بين الأنبياء ، و لا تخيروني على موسى).
..................
والذي يعز على النفس أن يجيء إحتفال المسلمين في السودان بالمولد النبوي الشريف هذا العام وبعض اللغط يدور هنا وهناك بسبب ما يتصدى به بعض السلفيين لأهل التصوف والذكر وعامة المسلمين سواء بالتعبير عن الرأي أحيانا قليلة ؛ وبالقوة أحيانا كثيرة ؛ يهدفون من وراء ذلك إلى منع الإحتفالات التي يقيمها المتصوفة في الميادين والساحات والبيوتات الدينية على زعم من القول أنها مظاهر بدعية لم يعمل بها الصحابة والتابعين بإحسان رضي الله عنهم .... ثم ويلجأون إلى سرد المرجعية التاريخية لهذه الإحتفالات الصوفية بأنها من بدع الدولة الفاطمية منذ نشأتها في القيروان – تونس عام 909م على يد مؤسسها عبيد الله المهدي وحتى إمتداداتها وأذرعها في شمال أفريقيا والشام وشمال السودان ..... وأن الهدف منها إنما كان شغل الناس وإلهائهم عن معاناتهم الحياتية ، وصرف إنتباههم عن الفساد السياسي الحاضر وقتها خلال عصر تلك الدولة .....
في البداية لاتبدو مثل هذه التفسيرات مقنعة وذلك لسبب بسيط هو أن الإحتفالات بذكرى المولد النبوي لاتمتد سوى أحد عشر يوما لاغير .. فهل يعقل أن تلهي إحتفالات أحد عشر يوما عن معاناة وفساد سياسي يمتد طوال 343 يوما تمثل ما تبقى من محمل أيام العام الهجري وهي 354يوم ؟؟؟؟ بالطبع لا .... ثم أن الدولة الفاطمية لم تنهار عام 1171م على وقع ثورة شعبية ولكن كان تمرد الأيوبيين عليها هو الذي أفضى إلى زوالها على يد صلاح الدين الأيوبي بأداة الإنقلاب العسكري.
ثم يذهب السلفيون في الإدعاء بالقول أن في مثل هذه الإحتفالات ما لا يرضي الله من المفاسد ، وخروج النساء وما يتعرضن له من إغواء الرجال ومداخل الفتن ما ظهر منها وما بطن ...... ولهؤلاء نقول أن الذاكرين لا يحتفلون في الساحات بديسكو ودي جيي وفعل فاحشة أو كشف عورة ؛ وهم لا يحتسون خمرا ولا يتشبهون بمايكل جاكسون ولا كاظم الساهر ؛ ولا يرددون شعارات تنافي العقيدة.
وطالما كان الشيء بالشيء يذكر ، فلماذا لا يلتفت هؤلاء السلفيون إلى الجهاد في سبيل الله بالمنع والإحتجاج على الحفلات الغنائية الراقصة عامة ؛ وتلك الحفلات الساهرة الصاخبة التي تحييها المطربات من النساء والفتيات ؛ والتي إنتشرت إنتشار النار في الهشيم خلال عهد الإنقاذ الإسلامي الحاضر ومشروعه الحضاري ، وبأكثر مما كان عليه في أزمنة وتنقلات جعفر نميري ما بين الشيوعي والقومي والإشتراكي قبل أن يلوذ بالرجعي واليميني ...... لماذا نراهم أسوداً في الإعتراض على ساحات الذكر ؛ ثم نشاهدهم في السهرات الغنائية الراقصة نعامة ؟؟؟ ...... لماذا لا يحتجون ولايمتلكون الجرأة على الإعتراض باللسان السليط والتكفير والتنهير والعكاكيز والسيخ والسباب والشتائم في مثل هذه الحالات الغنائية الراقصة الخاضعة بالقول والفعل ؟؟؟ الإجابة معروفة ويدركها الأغبياء قبل الأذكياء ، والبسيط والعبيط على حـدٍ سواء ؟؟؟
البعض الآخر منهم يدفع بحجج واهية تدينهم أنفسهم قبل أن تدعم مقالتهم ... يقولون أن الصحابة لم يفعلوا ذلك ولم يفعل مثله التابعين والأئمة .... حسنا فليكن .. ولكن نرد عليهم بأن لكل زمان أداته ورجاله ولكل مقام مقاله . ولا ضير طالما أن إخواننا الذاكرين وضاربي النوبة لم يرتكبوا موبقة ولا كبيرة ولم ينتهكوا الحرمات ... وإنه طالما كان الأمر على نسق "لم يكن الصحابة يفعلون ذلك ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة" مثل ما يقول السلفيين . فعلى هؤلاء السلفيين أن يتذكروا بداية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بترك التنعم كما في الحديث:" وإياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين"...... وهذه المسألة نعلم جميعا أنها تشكل "كعب أخيل" وحجر الزاوية في المفارقة بين الأقوال والحال والأفعال لدى الجماعات الإسلامية وقادتها على مختلف رؤاها . فإنهم وبنسبة 99.9% يرسبون ببراعة وإمتياز في هذا الجانب ......
على أية حال فإن على هؤلاء السلفيون ، وطالما كانوا يرفعون لافتات "إعادة الخلافة الراشدة" ووشعار "لم يكن الصحابة والتابعين والأئمة يفعلون هذا وذاك" فإن على هؤلاء السلفيين إذن أن يعيدوا لنا أولا "الخلافة الراشدة" .. وكما يقال فإنه إذا صلح الرأس صلح سائر الجسد ..... ثم عليهم في أنفسهم أن لايركبوا سيارة أو طائرة ، ويكتفوا بالبعير والبغال والحمير في تنقلاتهم .... وعليهم أن يسكنوا في أبسط المنازل ويفترشوا الحصير ويضيئون لياليهم بلمبات السراج .. وأن لا يلبسوا أفخر وأغلى أنواع النسيج المستورد . وأن يكتفوا ونسائهم بإرتداء القرقاب اليمني والقبطي ودمّور وقنجة سنار والدامر وشندي بدلا من إرتداء ثياب التواتل المطرزة والعبايات الحريرية اللامعة صنع اليابان وتايلاند ولندن وإيطاليا وسويسرا .. كل هذا ناهيك عن الذهب والحلى والجواهر .. وعليهم أن يستبدلوا مكياجهن وكريماتهن وحمامهن المغربي بعرك العجين الحلو ودهن الشعر بالودك والكركار ...... ثم عليهم أن لايأكلوا المشاوي والحلويات والمزّات التركية والمصرية التي تنتشر في هذا الزمان (الإسلامي) بطول شوارع العاصمة المثلثة وعرضها وتمتد لعواصم الأقاليم كذلك .... وعليهم أن لا يشربوا الماء المثلج والعصائر ، وأن لايلتهموا البسبوسة والباسطة والكيك إلتهام من لا يخشى التخمة وتلبك المعدة ..... وغير ذلك كثير كثير لا يعدّ ولا يحصى ناهيك على أننا لانشاهدهم حتى في مساجدهم سوى أوقات الصلاة المكتوبة .... فهل كان الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح لا يؤمون المساجد إلا وقت الصلاة ؟؟؟
ومن بين الدفوع الأخرى التي يسوقها البعض السلفي ؛ أن في هذه المظاهر الإحتفالية بالمولد النبوي الشريف ما يؤدي إلى أن يعبد الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلا من عبادة الله ...... والرد على هؤلاء بسيط ... ولكن في البداية يهمنا أن نشير أن في مثل هذا الدفع عدم ثقة بالله عز وجل أولا ، وشكوك من السلفي في عصمة وكمال المصطفى صلى الله عليه وسلم ومغالطة للتاريخ ولواقع الحال .... لقد حسم المولى عز وجل هذه المسألة في قوله عند الآية ( 144 ) من سورة آل عمران ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) ... وكذلك عند نهيه صلى الله عليه وسلم لصحابته أن يعبدوه فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فقولوا : عبد الله ورسوله...).. ثم عند قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه " من كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" ..... ثم أنه وفي كافة الأحوال نجد أنفسنا على يقين بأن العصمة ودرجة كمال المخلوق التي خصّ بها الله عز وجل رسوله الكريم وحده دون غيره من الخلق .... نجد أنفسنا على يقين بأنها تحول بقدرة الله دون جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معبودا .... وحقائق التاريخ تؤكد هي الأخرى أنه ومنذ إنتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى وحتى اليوم لم يتجرأ شخص أو مبتع أو جماعة على تكريسه صلى الله عليه وسلم إلهاً أو معبوداً ... كل هذا في الوقت الذي كانت فيه فكرة التأليه للرسل والأنبياء والصالحين موجودة لدى بعض المنحرفين وذوي الضلال . فكان تأليه اليهود لعزير حين زعموا أنه إبن الله .. وتأليه أغلبية النصارى لعيسى إبن مريم ... ثم تأليه الشيعة العلوية لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ...... ولكن لم يجرؤ أحد حتى تاريخه على تأليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهذا جانب إعجازي آخــر من جوانب عصمته وكماله الذي تفرد به دوناً عن غيره من الخلق.
المقاصل التي يحاول السلفي نصبها ومحاكم التفتيش التي يعمل جاهدا على تكريسها لن تجدي ...... ولا نطلب من السلفي أن يعبد الله ويحب رسوله الكريم على طريقة الصوفي ... ولا نطلب أن يترك هذا الصوفي قناعاته لأجل السلفي .. وأن لا يترك هؤلاء مجتمعين قناعاتهم للإخوان المسلمين الأصل والإرتكاز منهم أو من هم على درب الإسلام السياسي في الوطني و الشعبي .. ولكن فلينهل الجميع من بحر الإسلام الزاخر ..... القسر والجبر والحجر على الأفكار والتوجهات يؤدي إلى الإنفلات والعنف والعمل تحت الأرض وبين شعاب الجبال ووسط أودية الظلام .... الأفكار لايفلّها ويهذبها ويشذبها سوى الأفكار . والرأي لا يفحمه سوى الرأي الآخر . وعلى مثل هذا فليصبح ديدن الجميع هو الحوار وليس العنف .. فلكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة والإتجاه .. وحتى لا نكون أمة ضحكت من جهلها الأمم.
إذن فليكن الشعار هو أن تعالوا إلى كلمة سواء .. أن نعبد الله وحده لاشريك له ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام.
التعليقات (0)