تحتفل الصحافة الكردية في الثاني والعشرين من شهر نيسان من كل عام بذكرى صدور أول صحيفة كردية في المهجر، حيث أصدرت العائلة البدرخانية العريقة ممثلة في (مقداد مدحت بدرخان) صحيفة (كردستان) في عام 1898 في العاصمة المصرية القاهرة، لتكون تلك الصحيفة لسان حال الشعب الكردي في ديار الغربة ولتؤكد رغبة هذا الشعب في اللحاق بركب الحضارة والاستفادة من وسائل العصر.
إن صحيفة (كردستان) كانت نقطة انطلاقة مضيئة في تاريخ الثقافة الكردية وجاءت لتعبر عن الإرادة الحرة للمثقفين الكورد وإحساسهم العميق بأهمية الصحافة ودورها الملموس في النهوض الحضاري وخلق الوعي الثقافي والاجتماعي لدى الجماهير وتوجيه العقول والأفكار الوجهة السليمة والتعريف بالشعب الكردي ومطالبه العادلة.
والأمر الذي أود التركيز عليه هنا هو النهج المستقيم الذي سارت عليه الصحيفة والذي تمثل في اتخاذ الاسلام الحنيف مرجعية وفلسفة للأفكار والطروحات الواردة في جميع الأعداد التي صدرت من الصحيفة والتي بلغت (31) عددا، فقد كانت المقالات المنشورة مليئة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والتوجهات الاسلامية، وكانت الافتتاحية في جميع الأعداد تبدأ بعبارة (بسم الله الرحمن الرحيم)..
ونذكر هنا نماذج من الافتتاحيات والمقالات المنشورة في الصحيفة..
ففي افتتاحية العدد الأول من الصحيفة يقول (مقداد بدرخان): "سهد ههزار شكر و حهمد ژخودێ تعالى ره ئهم موسلمان خهلق كرن" أي مئة ألف شكر وحمد لله تعالى الذي خلقنا مسلمين. ثم يتحدث عن العلم وأهميته ويقول ان هناك العديد من الآيات القرانية الجليلة والأحاديث الشريفة تتحدث عن فضل العلم.. ثم يتحدث عن إصداره لصحيفته والسبب الذي دفعه لذلك ويختتم افتتاحيته بقوله: ومن الله التوفيق.
وهناك موضوع آخر في نفس العدد يتحدث عن أهمية العلم ويبدأ بالحديث النبوي الشريف: ((العلماء ورثة الأنبياء)).
وافتتاحية العدد الثالث هي تحت عنوان الحديث النبوي الشريف: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، كما ورد في سياق الموضوع الحديث النبوي: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)). وهناك موضوع آخر في نفس العدد تحت عنوان الآية الكريمة: [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى].
وفي العدد الرابع نطالع موضوعا عن الامام الغزالي وموضوعا آخر عن وصايا ونصائح لقمان وقد وردت في سياقه الآية الكريمة: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ].
وفي العدد الخامس نجد موضوعا تحت عنوان (فضيلة التعلم) ويبدأ بقوله تعالى" [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ].
وفي العدد السابع هناك موضوع تحت عنوان (المؤمنون إخوة) وقد ورد فيه عدد من الأحاديث النبوية الشريفة عن فضل العلم منها حديث: ((فضل العالم على الجاهل كفضلي على أدناكم))، كما يورد الكاتب في سياق حديثه بيتين شعريين للإمام الشافعي وهما:
لقد طفنا في غرب البلاد وشرقها وجربت هذا الدهر باليسر والعسر
فلم أر بعد الدين خيرا من الغنى ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر
وافتتاحية العدد الثامن جاءت تحت عنوان الآية الكريمة: [..هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ويستشهد فيها الكاتب بعدد من الايات القرانية منها قوله تعالى: [يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..] وقوله تعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] وعن كتمان العلم يورد قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَعِنُونَ]، ويحث الكورد في كلامه على التعلم وطلب المزيد من العلم وإلا فإن مصيرهم الخسران في الآخرة ويستشهد بقوله تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ].
وفي العدد التاسع نجد موضوعا تحت عنوان (ثبات الملك بالعدل) يتحدث فيه الكاتب عن أهمية العدل ويستشهد بقوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..].
أما افتتاحية العدد الحادي عشر فهي تحت عنوان الآية الكريمة: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ويحث فيها الشعب الكردي على الوحدة ويقول: "نهبیێژن: (ئهڤ تركه، ئهڤ كورده) ئهڤ فكر موجبیێ تهفریقه" أي لا تقولوا هذا تركي وهذا كردي فهذا التفكير يؤدي الى التفرقة، ويستشهد بالحديث النبوي الشريف: ((يد الله مع الجماعة)). كما يحث العلماء الكرد على نشر علمهم وعدم كتمه ويورد الحديث النبوي الشريف: ((من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).
وهكذا نلحظ توجها اسلاميا واضحا في الصحيفة، وما أشرنا اليه هو مجرد نماذج ولا مجال هنا لتصفح جميع أعدادها التي كانت مليئة بالنصوص الاسلامية.
وقد يؤخذ على الصحيفة وجود أخطاء في عدد من الآيات القرانية والاستشهاد بأحاديث موضوعة أو بأقوال على أنها أحاديث نبوية مثل: (حب الوطن من الايمان) أو (أطلب العلم ولو بالصين) أو (علو الهمة من الايمان) وغيرها من الأقوال.. إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة الصحيفة وإخلاص صاحبها الذي تفانى في سبيل إصدارها وتجرع مرارة الغربة وتنقل بين عدد من عواصم العالم لكي يستطيع الاستمرار في عمله الجليل، ولكن الصحيفة توقفت أخيرا وصدر آخر عدد منها في 14/4/1902.
وما يؤسف له أن تتنكب الصحافة الكردية اليوم عن هذا النهج ويصبح هم قسم منها مهاجمة قيمنا ومبادئنا الأصيلة المستمدة من الاسلام، وعدم مراعاة مشاعر هذا الشعب المسلم ونشر الصور الفاضحة والقصص والأحاديث الجنسية الصارخة بحجة حرية التعبير، وهذا العمل إن هو إلا تشويه لرسالة الصحافة وانحراف عن مسارها الصحيح، وليعلم هؤلاء أن صحيفة (كردستان) أصبحت خالدة في سماء الصحافة والثقافة الكردية لأنها لم تتنكر لعقيدة وقيم هذا الشعب، بل اعتبرت نفسها مدافعة عن تلك العقيدة والقيم، وجعلت الاسلام ونصوصه المقدسة مرجعية لتوعية الشعب الكردي وتثقيفه والمطالبة بحقوقه المشروعة، ولسوف يلفظ التاريخ كل من تسوّل له نفسه المريضة معاداة شعبنا المسلم في عقيدته وأخلاقه.
التعليقات (0)