مواضيع اليوم

في ذكراه الثالثة والأربعين ..حريق الأقصى.. دلالات واستنتاجات

 اليوم هو الخميس الموافق للحادي والعشرين من شهر آب من عام تسعة وستين وتسعمائة وألف، والساعة تقارب السابعة صباحًا.. والحريق الهائل في المسجد الأقصى المبارك يلتهم الرواقَ الشرقيَّ الجنوبي، ومحراب صلاح الدين، وزاوية زكريا، ويصيب بالضرر الجسيم أعمدة القبة.. وألسنةُ اللهب تُوالي تحركها وانتشارها من أعلى إلى أسفل، وليس من أسفل إلى أعلى جريًا على المألوف في تاريخ النيران، وطبيعة الحرائق، لدرجة أن السجاد لم يتأثر بتلك النيران.. والخبر ينتشر بعد دقائق انتشار النار في الهشيم ليملأ القدس كل القدس، وفلسطين كل فلسطين، وبلاد العرب والعجم في شرق الدنيا وغربها دخانًا أسود، وغضبًا ليس عليه من مزيد.
وراء هذا الحدث المذهل مزارع استرالي من سيدني عمره ثمانية وعشرون عامًا، واسمه لمن يرغب في الاحتفاظ بأسماء كهذه دينس مايكل روهين.. عضو في كنيسة الله البروتستانتيّة المؤيدة لليهود، والتي تأسست في قبرص..غادر سيدني في عام ثمانية وخمسين وتسعمائة وألف، وقضى أحد عشر عامًا في الترحال مثل اليهود قبل أن يصل هذه الديار سائحًا، ليقيم في كيبوتس (مشمار هشارون) مدة ثلاثة أشهر.. يقضي نصف يومه في العمل الزراعي، ونصفه الآخر في دراسة التوراة.. توجه بعد ذلك إلى القدس الشرقية، ونزل في فندق ريفولي.. غادر الفندق عند الساعة السادسة من صباح هذا اليوم الحادي والعشرين من آب تاركًا ملابسه، وجميع حوائجه، وسراجًا كان يُجري عليه بعض التجارب، وموادَّ أخرى قابلة للاشتعال.
دينس مايكل روهين اعترف بفعلته، وقام بتمثيلها.. وجاء في "القدس" أن روهين يدعي النبوة، ويعلن نفسه ملكًا للقدس ويهودا.. وبعد محاكمة استمرت ثلاثة وعشرين يومًا صدر الحكم بتبرئته من المسئولية الجنائية عن إحراق المسجد الأقصى.. ليلفه بعد ذلك النسيان، ولتدخل القضية بعد ذلك في غياهب العدم والتلاشي، وليسدل الستار عليها بعد ذلك، كما أُسدل على قضايا كثيرة سبقتها، وعلى قضايا كثيرة لحقتها.. ولا زال الستار يُسدل حتى يومنا هذا، في شهرنا هذا، في بلدنا هذا.. بل إنه لم يعد هناك ضرورة لستار يُرفع أو يُسدل بعد أن أصبح اللعب على المكشوف، وبعد أن احترق الستار فيما احترق من أشياء.
هذا الحريق.. وهذه المحاولات المستمرة للنيل من الأقصى، وهذه الحفريات التي باتت تهدده بالدمار والاندثار، وهذه الأنفاق.. وكل هذا الحصار، وهذه الجدران، وكل هذه المصادرات والمداهمات، وكل هذا الاستيطان، والمستوطنات في القدس القديمة داخل الأسوار، وفي القدس الجديدة خارج هذه الأسوار، وكل هذه الحرائق التي يشعلونها في صدور الناس وقلوبهم.. كل هذا وكثير غيره من الحرائق والكوارث التي حلت بالقدس عبر تاريخها الطويل الحافل بالحب والحرب، والموت والحياة له دلالات لا يمكن لباحث أن يتجاهلها، ولا يمكن لمؤرخ أن يغض الطرْف عنها، ولا يمكن لمقدسي، أو لعربي فلسطيني أن ينسى شيئًا منها تحت كل عوامل الضغط والتيئيس والإحباط، وتحت كل وسائل الترهيب، والترغيب، والتزوير، وفرض الحقائق الجديدة على الأرض في كل يوم...
ولعل على رأس هذه الدلالات أن هنالك طامعين في القدس وفلسطين لا يهدأ لهم بال ما دام فيها عرب، وما دام فيها مسلمون، وما دام فيها أهلها الذين عرفتهم، وعرفوها، وأحبتهم، وأحبوها منذ فجر التاريخ.. وعليه فإن القدس وفلسطين قد ابتليت عبر العصور بمثل هؤلاء الطامعين فيها، الحالمين بالسيطرة عليها، الواهمين بأنهم قادرون على تحقيق ذلك من خلال هدم هذا الحرم القدسي، أو إحراقه، أو حتى استبداله بما يطيب لهم من أسماء ومسميات لم يقم على وجودها يومًا أي دليل، ولم تثبت صحة سائر المزاعم التي ساقوها لإثبات صلتهم بها، ولإقامة الدليل على أن لهم أدنى أثر فيها... هؤلاء الطامعون الحالمون الواهمون يريدون بالطبع أن يتخلصوا من المعالم العربية والإسلامية في القدس وفلسطين بكل الوسائل، وهم بالطبع يريدون أن يقيموا على أرض القدس وفلسطين ما يدل على وجودهم فيها، والتصاقهم بها، يريدون أن يثبتوا بكل الوسائل أن لهم جذورًا في هذه الديار، لينطلقوا من ذلك في فرض سيطرتهم عليها.. ناسين أنه لو صحَّ شيء من ذلك افتراضًا فإنه يحق لعرب القدس، ولعرب فلسطين، وللعرب أجمعين أن يستعيدوا معظم أرجاء هذا الكون الذي ما زالت آثارهم وقصورهم ومساجدهم وأبنيتهم وخطهم الجميل، ولغتهم العربية العظيمة قائمة ماثلة فيه تروي بأصدق لسان، وأنصع عبارة قصة وجود هذه الأمة، وحضورها في معظم أرجاء هذا الكون الذي عمره العرب، وعمره المسلمون، وشملته حضارة عربية إسلامية زاهرة طبعته بطابعها، وتركت عليه بصمات من الصعب أن تُمحى!!
إن كل هذه الممارسات الجائرة بحق عرب فلسطين، وكل هذا التنكر لأبسط حقوقهم في العيش الكريم، وكل هذا الظلم الصارخ الذي أصابهم عبر العصور، وكل هذه الحرائق التي تستهدف مقدساتهم وقلوبهم وتاريخهم ووجودهم لدليل قاطع، وبرهان ساطع على أن هنالك من يتوهم أنه قادر على وضع يده على بلادهم، والسيطرة عليها والتصرف بهم بعد ذلك كما يريد!!
إن تاريخ القدس، وتاريخ فلسطين، وتاريخ هذه الأمة يؤكد بما لا يدع أدنى مجال لأدنى شك على أن حملات الغزاة على هذه الديار قد زالت، وعلى ان أهل هذه الديار هم الأقوى، وعلى أنهم الباقون فيها رغم كل عوامل التعرية، ورغم كل العواصف والأعاصير التي تهب عليهم بين الحين والآخر، من هذه الجهة أو تلك.
ولئن كان هذا المجتمع الدولي ممثَّلاً في منظماته وهيئاته ومؤسساته وتشريعاته وقراراته وتوجهاته للسلم والأمن الدَّوليين حريصًا على سلام البشرية، وتقدمها، ورِفائها، وازدهارها.. فإنه حريٌّ به أن يقضي على أسباب التوتر والحروب والمنازعات الإقليمية، وحري به أن يتخذ من الإجراءات العملية ما يضمن إحقاق الحقوق، وإشاعة العدل، والشعور بالأمن والأمان في ربوع هذا العالم.
إن السلام والأمن لا يمكن أن يسودا هذا الكون، ولا يمكن أن يتحققا لكثير من أقطاره وبلدانه ما دام هناك متغطرسون، وما دام هناك عنصريون، وما دام هناك من يحللّون ويحرّمون كما يشاءون، وما دام هناك كاذبون مزورون طامعون في كل شيء، ولا يعترفون لغيرهم من أهل هذه الأقطار بشيء.
وإن السلام والأمن لا يمكن أن يقوما إلا على العدل والعدالة، والشعور بالرضى وبغير ذلك لن يكون سلام، وبغير ذلك لن يكون أمن، وبغير ذلك سيظل هذا الكون الأحدب يلفّ ويدور في حلقات مفرغة لا تؤدي إلا إلى القتل والدمار والكوارث في كثير من أقطار هذا العالم.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !