في مولدها الثاني والعشرين ما زالت حركة حماس تتجاوز الواقع المعاش، وتتعالى على المآسي والأزمات من خلال خطاب عليائي هادر من جهة، وخيالي عاطفي بلا أقدام من جهة أخرى.
في خطاب رئيس الحكومة المقالة اسماعيل هنية في غزة محاولة فاشلة لابراز أدوار لم تلعب كما قال، واخفاء ادوار أخرى كانت هي الحقيقة، وهي التي أسهمت في ظهور ما يليها من وقائع هو الآن جزء منها، حيث حاول هنية بالصوت المرتفع أن يرسم دورا لحزبه أكبر مما تتحمل عباءته وأوسع من الواقع البائس القائم والقاتم الذي تعيشه حماس، وحاول أن يبرز علاقات وكأنها ظهرت فقط مع اطلاله خالد مشعل وصحبه من بوابة طهران (الخليج الفارسي)، فالادعاء بالعلاقات الحصرية بين المقاومة (ولم ولن يقول الثورة) وبين حزبه تكذبه وقائع الأرض، لذلك أشار لها بالمقاومة (الرشيدة؟)، والادعاء بالعلاقة الحصرية بين عدم الاعتراف باسرائيل وما يحصل على الأرض وخاصة مع تسرب مضمون لقاء الزهار مع الأميركان في زيورخ يجعل المراقب الواعي اما يضحك من علاقات غير صحيحة أو يبكي لوصول الأحلام لمرحلة يقنع فيها الانسان نفسه فيطير بلا جناحين.
في ذات الخطاب حيث الأدوار مثار علامة الاستفهام لحزب حماس المتوافق حصريا مع أهداف اليمين الاسرائيلي وحيث العلاقات مع المقاومة والثورة والوحدة منقطعة يظهر عامل ثالث في ذات الخطاب وهو الاغراق في البهرجة من جهة، والجمود الفكري والسياسي من جهة أخرى، ففي ظل محاولات استمرت أكثر من شهر لحزب هنية أن يظهر بمظهر لائق في مهرجان مولدهم حتى حضرت العائلات بأكملها كما لوحظ من وجود مكثف لآباء وأمهات وأبناء وليس في ذلك عار أبدا وانما يعطى في اتجاه دلالة على سطوة التنظيم وانه استنفد كل طاقته المالية و(الكوبونية-من الكوبونات) والارهابية ليظهر هذا الحشد العائلي، ومن جهة أخرى فإن الاغلبية العظمى من الناس التي تعبر عن ذاتها في استطلاعات الرأي رافضة بقوة حكم حماس القمعي لم تكن موجودة في المهرجان الذي حضرته فقط القبيلة الثالثة عشرة.
ان البهرجة الاعلامية والانسداد الفكري يسيران في حزب حماس في اتجاه واحد تضاف اليه المحاولات المتواصلة لاجترار التاريخ الاسلامي وعكسه على الواقع المعاش الآن في قطاع غزة من حصار واذلال وقمع واستئثار بالسلطة وانقلاب وسوء حال وتراجع غير مسبوق ما لا يتفق مع المقارنات الباطلة والاستشهادات من هذا التاريخ، ومن سيرة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام ذي الخلق العظيم دون غيره من سائر البشر.
ان الأدوار والعلاقات والمقارنات التي استخدمها هنية في خطابه لم تسعفه في اقناع الحشد أن (حماس قدمت نموذجا رائعا في الحكم والمقاومة-من نص خطابه) الا اذا كان يعتبر ان قتل 800 بريء في غزة وبطرق بشعة يندى لها جبين الاسلام والأمة دلالة على (الحكم الرائع)، والأروع منه-أو المريع حقا- قتل المخالفين جميعا ومنهم الأئمة في حركة الجهاد الاسلامي وغيرها، وتأميم المساجد ثم هدم المساجد ونسف البيوت التي كان آخرها ما حصل مع الشيخ الامام عبد اللطيف موسى في رفح.
ولربما اعتبر هنية أن تكرار ظهور صورته في الفضائيات المدعومة من اللاعب الاقليمي الذي يكره العرب والعروبة ويعادي معظم أمة المسلمين هو النتيجة العظيمة المطلوبة (للنموذج الرائع) في الحكم (رائع) الدموية. أما المقاومة فحدث ولا حرج حيث لا مقاومة (رشيدة) أو غير رشيدة ولا يحزنون في ظل قمع كل من يطلق رصاصة أو حتى يفكر أن يقيم مهرجان للمقاومة.
وعودة على بدء فإن كان الحشد الجماهيري الذي عبرت قيادة حماس المنقسمة على نفسها عن ارتياحها له لمناسبة ولادتها فلماذا ترتعد فرائصها ويكاد يغشى عليها كلما ذكرت الانتخابات؟ ولماذا تعطيل المصالحة والاصرار على الانقلاب؟ ولماذا الأعذار الأقبح من الذنب من مستدركات وملحقات ومحددات؟ الا ان كان لارضاء الغريب، ولمسح دمعة عزيزة تسقط من عين كل وزير سابق من حماس على الامتيازات التي تثيرهم والتي ما زال يحتفظ بها الصفوة من منتفعي الأنفاق والاتاوات ورئيس الوزراء المقال.
لقد خطب هنية خطاب الهزيمة التي ألحقوها بشعبنا في غزة الذي لم يجد أحدا ممن يدعون المقاومة ليدافع عنه في ظل العدوان الاسرائيلي فتصدى وحيدا للطائرات والدبابات بجسده بينما المقاتلون الأشاوس في الخنادق تحت الأرض.
كان المشاركون في المهرجان من المنتمين لحماس فقط وهي القبيلة كما قلنا وكما ظهر جليا من الصور وتعليقات المطلعين، فهم بايعوا بيعة الاخوان المسلمين وليس بيعة فلسطين وراء محمد شمعة وعبد الفتاح دخان واستمعوا لكلمة اسماعيل هنية ذات الطابع التفخيمي والمبالغ فيه دوما حيث استخدم مصطلحات المبالغة من مثل (ما كان لعقل بشرى أن يتصور مثل هذا الحشد-من نص الخطاب)، يا لطيف؟! والذي في الحقيقة لا يماثل الحشد الذي سبقه بذكرى استشهاد الرئيس عرفات في غزة على سبيل المثال، لكنه الانسداد الفكري والرؤية الأحادية والأحلام التي تهيئ لأصحابها أن يروا بعين منامهم.
ومن مثل قوله في خطابه عن (تحقيق الانجازات؟!) و(تحرير قطاع غزة؟!) المحاصر والمحتل، وان حماس تسعى(لتحرير كل فلسطين؟!) عبر الهدنة الدائمة مع العدو ومشروع أحمد يوسف المفرط بالقدس على ما يبدو؟! وان حماس (أعادت الاعتبار لمشروع المقاومة والجهاد) دون ذكر من سبق أو شارك أو لحق من غيرها.
وان الاحتلال- ويا للهول في ظل دمار غزة والعويل اليومي والحصار- (لم يحقق أيا من أهدافه؟!) معتبرا أن الهدف كان سحق حماس ضاربا بعرض الحائط الآلاف من الشهداء الذين قضوا بلا ذنب.
وفي اطار التفخيم والمبالغة التي تميز خطابات الاخوان المسلمين عامة ذات الطابع المشترك ما بين البكائي المأساوي والبطولي الذي يمجد المأساة التي جلبوها على أنفسهم دون النظر في الأسباب التي هم صانعوها أو النظر في الحل، والأيديولوجي عامة قام هنية بتجاوز الواقع المر -بدلا من أن يصارح الناس بالحقائق- عبر الشعارات البراقة فقال (أن لا احد يستطيع تجاوز حماس حتى لو ملأ الأرض ذهبا، وحتى لو تحالفت معه كل الدنيا -من نص الخطاب) وكأن حزبه بهذه العملقة الموهومة حرر غزة المحتلة حتى الآن بل والمحاصرة رغم ادعائه بالانجازات، الا ان كان المقصود بهذه العبارة ما عبر عنه الزهار وصحبة في لقاء سويسرا كرسالة واضحة: أن تحدثوا معنا ونعطيكم ما تشاؤون من هدنة مقابل الدولة المؤقتة التي رحبت بها حماس. وبعبارة أخرى نوافق على ما قاله هنية ان لا أحد يستطيع تجاوز حماس في القتل والتدمير وقمع الحريات وضرب الوحدة الوطنية.
لقد اشتمل المهرجان المعد له جيدا على حضور كل عناصر وأنصار حماس ما يقدر بخمسين الى مائة ألف من مليون ونصف غزاوي، وخاطب حديث هنية الاستعلائي العاطفي الخيالي العواطف عبر ركوبه مركب الدين كالعادة جاعلا من حزبه صاحب الدور الأوحد، ومنشئا لعلاقات وهمية، ومعبرا أو مظهرا لطبيعة الانفلات الفكري المؤدلج حينما يسود ويترفع على آلام الناس ومعاناتهم اليومية، ومظهرا حالة من الشعاراتية والمبالغات والتفخيمات التي تغطى على التنازلات التي جوهرها استمرار القبض على السلطة والقبول بالدولة المؤقتة واعتبار حماس اللاعب الرئيسي في المنطقة دون قدرة فكرية او نفسية أو عملية على مشاركة الآخرين (الأغيار) من الشعب.
التعليقات (0)