مواضيع اليوم

في حضرة لميعة عباس عمارة.. عشتار الشعر العراقي

rasha www

2010-10-31 01:59:44

0

في حضرة عشتار الشعر العراقي
لميعة عباس عمارة
 

كتبتها ريم قيس كبة

حدث ذلك يوم الاثنين 19-10-2010.
كنت في حفل افتتاح دورة خليل مطران وماك دزدار التي أقامتها مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للابداع الشعري في سراييفو. ولم اكن بحالة نفسية جيدة، اعني انني في الأقل القليل لم أكن على مايرام، فقد كنت متوجسة من المشاركة لاسباب شخصية كثيرة، وكنت قد قضيت قبلها يوماً مضنياً من السفر بين مطار القاهرة ومطار اسطنبول ومطار العاصمة البوسنية سراييفو. وفي خضم دقائق من سرحان ونعاس طال بانتظار بدء مراسيم الافتتاح، أفقتُ على سؤال غريب طرحه عليّ جاري في تلك الجلسة الكاتب المبدع والصديق العزيز إلياس فركوح الذي تصادف ان يكون شاهدي على تلك اللحظة التأريخية العجيبة.
يفاجئي السؤال: هل لميعة موجودة؟
لم أفهم معنى العبارة.. فأنا لما اكن قد علمت بعد بنتائج هذه الدورة، وفي الواقع ان جهلي بالأمر جاء تحصيلاً حاصلاً لأنني كنت شبه متأكدة من عدم سفري ومشاركتي، وكنت امرّ بظرف يمنعني حتى من المتابعة. فما هي مناسبة السؤال عن لميعة بهذه الطريقة المباغتة؟ وما دخل لميعة بتأخر بدء الاحتفال؟ إستدرتُ صوب إلياس بتعجب، وقبل ان أهم بالاستفسار لفتَ إنتباهي ما كان يتصفحه بين يديه: مجلة المهرجان التي فتحها على صفحةٍ بها صورة الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة وقد كـُتب عندها: الجائزة التكريمية للابداع الشعري...
تسابقتْ الافكار ببالي.. ولم اُجب بحرف قبل ان أجول بنظري صوب الحاضرين واتطلع الى المنصة كمن أضاع عمراً وراح يبحثُ عنه، ليراه امامه فجأةً وبلمح البصر.. فلا تقع عيني الا على وجهها هي.. ولا أحد سواها: سيدتي .. مولاتي.. لميعة عباس عمارة!
ويجيء جوابي شبه صارخ: موجودة! ..موجودة! ..انها هنا فعلاً ياصديقي العزيز!
اترك مكاني وانا اركض بلهفة طفلة وجدَتْ امها بعد يأسٍ طال.. ولم تكن لا المسافة قريبة ولا الوصول الى المنى سهل او متاح!
لكنني وصلت إليها ! انحنيت لاُقبـّل يديها الحانيتين وراحتْ الدموع تنساب وانا اسمعها تقول: ريم.. ريم.. أهذه انت؟ لقد سألت عنك لحظة وصولي.. ألم يقولوا لك ذلك؟ وانا اقول من كل قلبي: مولاتي.. الحمد لله الذي امدّ عمري ومَنّ عليّ بلقائك قبل افارق هذا العالم!
كانت هذه هي اللحظات الاولى.. البكر.. للقاءٍ تمنيتـُه وسعيتُ اليه عشرين عاماً وضاع مني عشرات المرات!
فلميعة التي سكنتني منذ صباي الاول.. ولم ألتقِ بها سوى مرتين عابرتين فقط في ثمانينات العراق..
لميعة التي شبـّهني بها الكثير من اصدقائي وأحبتي وحتى بعض الادباء والنقاد..
لميعة التي ارسلت لي رسالة من بيروت ذات شتاءٍ من عام 2001 تثني بها على شعري وتحييني وتقول لي بالحرف: "انا امك ياريم فهكذا ينتخي العربي، وأني لفخورة بهكذا ابنة!".. واعتبرتُ تلك أكبر وأهم وأغلى شهادة شعرية احصل عليها في حياتي .. حدّ ان اُأطرها وأعلقها على جدار بيتي..
لميعة التي هي كل هذا وأكثر بما لا يستوعب البوح بالنسبة لي.. لميعة وليس سواها هي التي أراها امامي الآن: واقفة شامخة مثل نخلةٍ عراقية باسقة سامقة..
فهل للفرح ان يلبس حلـّة أروع من ان تلتقي بحلمك وجها لوجه دون حتى سابق موعد او إحساس او إشـارة؟
كانت هذه هي اللحظات الاولى.. لكن للحديث تتمة .. وللحلم بقية.. وبحسب لميعة في إحدى قصائدها العامية: طـوّل مدام الحلم ما ينشبع منـّه!
كنت اصوّر دقائق تكريمها وانا اتقاطر دمعاً.. فرحاً ربما.. او ألماً لأن هذا التكريم انما جاء متأخراً جداً.. ولا يكفي أصلاً ان تحظى من هي لميعة عباس عمارة بتكريم فقط.. لا يكفي .. ولا ادري الى متى سيبقى مبدعونا في الظل دون تقييم حقيقي لهم.. فهي لم تسعَ في يوم ولن تسعى لمنصب او جاه.. وقد حضِيَتْ بما حضِيَتْ به من مكانة في قلوبنا بصوتها الشعري الصافي الحقيقي والصادق، لا بسعيٍ او تملق او رياء لأي أحد او اي جهة او حزب او حاكم.. ولم تكن يوماً تجيد الترويج لنفسها او ابداعها.. ولم تعشق الاعلام والاضواء ولم تدخل في مزايدات أو مهاترات.. كانت وما تزال صادقة مخلصة لأدبها وعطائها الابداعي وعراقيتها الاصيلة. أو ليست هي وليس سواها الأوْلى اذاً بدائرة الضوء والاهتمام من المؤسسات والهيئات الادبية والحكومية العراقية والعربية؟ .. ولن ازيد فأقول الدولية.. لأننا امة لا تحتفي بمبدعيها.. ولذا فليس من حقنا ان نطالب أن يحتفي بنا الآخرون!
ها أنني اصوّرها.. وكأنني أصوّر العراق وهو بأبهى حلة.. كيف لا.. وهي نخلة تشبه زمن العراق الجميل المبهر؟
تنتهي مراسيم الافتتاح.. واركض من جديد لأرتشف السحر بوجودي قرب لميعة.
يحدث أحياناً ان نلتقي بمن أحببنا على البعد.. ويحدث أن نصادف أحداً ممن عشقنا او به اُعجبنا من نجوم او مشاهير او وجوه لامعة في المجتمع.. لكن غالباً ما يحدث أن يكون للوهم نصيب في اذكاء البريق.. فيكون للهالة المحيطة بالنجوم ان تتهاوى لحظة ان نتعرف عليهم عن قرب.. ونتلمّس الجانب الانساني فيهم.. فتتداعى التماثيل.. او انها في أقل القليل تتحوّل من كونها فكرة او مثالاً الى حقيقة انها واقع انسانيّ بعيد عن المثالية قريب من الارض! فنصاب أحياناً بالخيبة.. او قد تتلاشى الدهشة لتلبس تفاصيل يوم عادي، ويتحول المثل الأعلى الى انسان عادي نصادفه كل يوم.
اما انا.. فلم اكن لأكتفي من الحلم برشفة.. بل لقد حسمتُ أمري بأن أستزيد من منهل الماء وانا اراهن نفسي بأنني لن أقع الا على المزيد من الاعجاب والدهشة. ولأنني كنت متابعة بامتياز لكل شيء هو لميعة (وبشهادتها هي) .. فقد قبلتُ التحدي واستعذبتُ الرهان.. وكنت مستعدة لأعتى انواع الخسائر، سوى ان اخسر وجودي بقربها في فسحة من ثلاثة ايام شاء قدري أخيراً ان تكون من نصيبي. فكم أملك من الحكايا والتفاصيل والاسئلة التي تنتظر ان تجد الجواب منها هي لا من اي أحد سواها! وكم لن يكفيني عمر لأسمع منها او احدثها او اقرأ لها ولو بعضاً مما كتبت لعله ينال بعض الإعجاب من سيدتي!
ولأنها لميعة التي اعرف .. ولأن تواضعها فاق حتى حجم التصوّر .. فقد وجدتها هي الاخرى سعيدة مرحبة ً بوجودي معها.. بل وقد لمستُ منها من الشوق واللهفة ما شجـّعني ان اكون معها طوال الوقت.. فلا نفترق الا حين تحين ساعة النوم. وربما فاجأني ان يكون كل ما يصلني عنها يصلها عني، حدّ أنها التقتْ ذات يوم برجل لبنانيّ لا علاقة له بالوسط الادبي فحدثها عن شاعرة عراقية شابة تشبهها جداً وقد ظنـّها ابنتها! (كان هذا يوم كنت انا شابة طبعاً!)
حين سألها بعض الحاضرين في المؤتمر: هل ريم ابنتك؟ أجابت بلتماعة عينيها الرائعتين: بل هي ابنتي ولكن بلا تعب!.. فاُعلـّقُ ضاحكة ً بأنني ابنتها بالتمني! وإذ سألوها: هل تعرف احداكما الاخرى منذ زمن بعيد؟ قالت: بل اعرفها منذ ان ولدتها امها!
وهكذا كان وجودنا حميماً وكأننا نعرف بعضنا تماماً او لكأننا لم نفترق في يوم.
ويكتمل الحلم.. فأقرأ شعري في حضرتها في اليوم الثاني للمؤتمر.. ولكن يشاء البرد الذي ألمّ بحنجرتها بسبب تغيّر الجو في سراييفو.. وبسبب الربو المزمن الذي تعاني منه منذ طفولتها أن يحرمنا من سماع شيء من الشعر بصوتها العذب وبإلقائها الساحر.. فيـُطلبُ مني أن أقرأ من شعرها بدلاً عنها.. فأتشرّف بإلقاء قصيدة "عراقية".. وقصيدة "بغداد" العامية.. فتستمع لشعري وشعرها بصوتي.. كيف لا وأنا أحفظ لميعة عن ظهر حب؟
كانت ثلاثة ايام بلياليها.. غمرتني بها لميعة حتى آمنتُ بأن أقل ما يقال عنها بأنها انسانة ساحرة.. غير عادية.. تفوق التصوّر.. تـُعشق ما أن تمرّ بالمكان..!
اتذكرّ ابياتها: وصيغَتْ جُزافاً لك الشائعاتُ .. من كل وهمٍ ببالٍ خَطـَرْ ! اتذكرها وانا اجيب تساؤلات الآخرين: هل هي بخير؟ يقولون بأنها مقعدة؟.. فاقول انتظروا انا ذاهبة اليها الآن وسننزل معاً من غرفتها وستسلم عليكم واحداً واحداً وتحدثكم بما تشاؤون.. وستتذكر بدقة كل من إلتقتْ به ولو لمرة واحدة.. فهي مازالت والف حمدٍ لله تتمتع بذاكرة حديدية عبرَتْ بها سن الثمانين بعام وتسعة دواوين ومئات المقالات وآلاف الأماسي والمهرجانات والوجوه.. ومازالت غضة واقفة شامخة.. لميعة مازالت بخير.. ومازالت متألقة انيقة جميلة بسـومة.
وكانت هذه هي المفاجأة الاهم: ان اكسب رهاني لنفسي.. وأن أجد في لميعة من الخصال الانسانية الراقية ومن الثقافة والمعرفة والرزانة والرهافة والطيبة والعطاء ما يجعلني ازداد اعجاباً ودهشة بها.. واحسّ بأنني سأبقى اتمنى لو كنتُ بعضاً منها.
حبستُ دموعي وأنا اودّعها عند باب فندق هوليوود في سراييفو.. فبادرتني بذكائها المعهود: لا تبكي.. فإن بكيتِ لن يكون لنا فرصة لقاء، سنلتقي قريباً بإذن الله وسيكون لكل حديث بيننا تتمة.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !