لقيته يتجول في حديقة الحيوان مثل غيره ينظر يمينا ويسارا بإعجاب شديد مبهورا بما حوت الحديقة من حيوانات رغم كبر سنها وقلة عددها علمت من هيئته انه ليس مصريا يبدو أنه من دولة عربية شقيقة فهيئته تدل على بساطته من ناحية وعلى اعتزازه بوطنه من ناحية أخرى فمع وجوده في بلد غير بلده إلا انه يصر على ارتداء الملابس الشعبية التي يرتديها في بلاده رغم ما تشعرك نحوه بالازدراء واللامبالاة
تقدم نحوى في عفوية وبساطة ترى في عينيه حبا جارفا لمصر والمصريين وتسمع في نبرات صوته صوت التقدير والاحترام لحضارة مصر وعظمتها
سألني : أين بيت الفيل؟
قلت : قد تجده أمامك على بعد خطوات..
فأسند ظهره على السور الحديدي الذي يطوق أشجار الحديقة ثم تنهد قليلا ثم جلس على أقرب مقعد أمامه فوجدتها فرصة جلست بجواره ثم سألته: هل أنت مصري؟
قال: لا
قلت : من أي البلاد إذن ؟
قال: من اليمن
ابتسمت له ابتسامة رقيقة تدل على صدق حدسي فلقد وقع في نفسي أنه من اليمن منذ أن رأيته..
قلت له: هل تحب مصر؟
قال: أحبها كثيرا بل أعشقها إن صح التعبير
قلت أيهما أفضل وأحب إلى قلبك: مصر أم اليمن
قال بسرعة وعفوية وبساطة: مصر طبعا .. إنها أم الدنيا
قلت متهكما : لا تقل هذا أنت مبالغ ما يعجبك فيها وقد هرمت فلم تعد صالحة لتربية الأبناء ولا لتقديم المساعدة أو توزيع الحب والعطف على الصغار وقد أشبهت الأم التي لم يعد لها مكان إلا في دار المسنين بعد أن هجرها أولادها
ابتسم لي ابتسامة رقيقة وقال : ياأخى لا تقل هذا إن مصر هي مصر وستظل مصر إلى آخر الزمان ماؤها عذب وترابها ذهب
ضحكت في تهكم وقلت : كان زماااااااااان
قال في حنان وطيبة: بل وستظل
قلت : وهل يعجبك حالها الآن ؟
قال : الحال في كل العالم العربي سواء يسير من سيء إلى أسوأ ونحن وانتم في هذا البلاء سواء
قلت في أسى : لماذا؟
قال في حزن بدت معالمه على وجهه: يا أخي الأنظمة السياسية في بلادنا هي سبب بلاءنا
قلت في فرح وسرور : لقد أصبت كبد الحقيقة ثم نظرت إليه في رفق وحنان وقلت له : صدق من قال اليمن يمان ..لقد نورت مصر
ثم حييته وانصرفت وقد اختلطت المشاعر في نفسي بين الفرح والحزن ..الفرح لروح الحب والأخوة التي تملأ صدور الشعوب العربية بعضها لبعض عامة وتجاه مصر خاصة.. والحزن على تلك الخيبة التي منينا بها من قبل أنظمة الفساد والظلم والاستبداد التي تجسم على صدورنا منذ زمن بعيد..
(2)
في انتظار أولادي حتى يخرجوا من حديقة الألعاب التابعة لحديقة الحيوان جلست على إحدى الأرائك التي وضعت خصيصا لهذا الغرض أتأمل الناس من حولي وهم جلوس مثلي منهم من ينتظر خروج أولاده ومنهم نساء ورجال ينتظرون بأولادهم حتى تفرغ الحديقة بعد مضى الوقت المحدد لكل مجموعة من الأطفال ..
رأيتهن نساء ملامحهن سمراء يبدوا أنهن سودانيات أو نوبيات ولقد غلب على ظني أنهن نوبيات .. يتحدثن.. يهرجن.. يلعبن.. يلاعبن أطفالهن بعفوية ومرح وبساطة..يضحكن ضحكات غريبة..جميلة.. بسيطة .. عفوية .. صادقة، تكاد إحداهن من عمق الضحكة أن تطير إلى السماء ثم تنحط إلى الأرض كأنما صخرة كبيرة سقطت من منحدر..
أجسامهن مليئة ..ملابسهن بسيطة .. لا تبالين بمن ينظر إليهن باستغراب.. يتحدثن بلهجة غريبة لا تكاد تفهم منها شيء بل يمكن أن تفهم بعض الكلمات الصادرة عن السياح الأجانب من كل الدنيا ..أما هولاء فلا.. لا تفهم إلا عندما ينطقن الأسماء تقول لولدها عبارات كثيرة لا تبين منها إلا محمود ..أحمد مثلا
جلست إحداهن بجواري فوجدتها فرصة.
نظرت إليها بتودد ثم قلت لها:
من النوبة أنتن؟
نظرت إلى وقد بدا عليها علامات التعجب!! ..ثم قالت:
نعم ..لكن كيف عرفت ذلك؟
قلت لها من لهجة الكلام ومن الملامح ... ثم انطلقت تحدثني بالعامية المصرية بطلاقة كأنما هي من سكان الوجه البحري وليست من أقاصي مصر
قالت : نحن من النوبة جنوب أسوان
قلت : هل تسكنون القاهرة أم جئتم زيارة؟
قالت: جئنا زيارة لأحد أقاربنا
قلت : لكن لهجتكم غريبة لا يستطيع أحد مهما كان أن يفهم منها شيئا
قالت: نعم.. تستطيع أن تتعلم الإنجليزية ..أن تتعلم الفرنسية ..أن تتعلم أي لغة بسهولة ..لكن لا تستطيع أن تتعلم النوبية
قلت : هذا عجيب ..لكن الأعجب أنكم عندكم القدرة على التحدث بالعامية المصرية أيضا
قالت: هل تعلم أن لهجتنا النوبية كانت السبب في النصر العظيم للجيش المصري في حرب العاشر من رمضان
نظرت إليها باستغراب وقلت كيف ذلك؟
قالت : لا تتعجب فإن جنودنا كانوا يرسلون الإشارات ويستقبلونها باللهجة النوبية فلا يستطيع العدو مهما بلغ من تقدم علمي أن يفك هذه الإشارات أو يفسرها مهما حاول ولو حاول مليون مرة..
نظرت إليها بإعجاب شديد!!
فقد جمعت على بساطتها بين اللهجة الغريبة والقدرة على تعلم المتناقضات والثقافة الوطنية العالية والمعرفة الوثيقة بتاريخ وطنها وأمجاده الحديثة
شكرتها على الحديث ثم ودعتها بابتسامة حنونة بعد أن حان الوقت فقد خرج أطفالي من حديقة الألعاب وقد لملمت أطفالها لتعرفهم على معالم وطنهم الذي ربما لا يعرف عنهم شيئا وقلت في نفسي هذه هي مصر الشعب والوطنية والحب والانتماء الذي تسعى أنظمة الفساد والاستبداد أن تقتله في نفوس المصريين..
التعليقات (0)