مواضيع اليوم

في تناقض الثورات.. وتباين الانتفاضات والانقلابات

  قبل الحديث عن عبد الناصر في هذا اليوم الثالث والعشرين من يوليو تموز، وقبل الحديث عن ثورة مصر، أو الانقلاب الأبيض الذي شهدته مصر في مثل هذا اليوم قبل ستين عامًا، وقبل إصدار الأحكام العامة القاسية عن بُعدٍ على مصر والمصريين منذ تلك الأيام، بل منذ ما سبق تلك الأيام من قرون، وما تبعها من عقود وصولاً إلى أيامنا هذه في أوطاننا هذه، وقبل إصدار الأحكام الجائرة على الشعوب وقياداتها في هذا البلد العربي أو ذاك، وفي تلك الحقبة من التاريخ أو تلك، ينبغي أن نخوض قليلاً أو كثيرًا في هذه الثورات التي شهدها عصرنا الحديث، وفي أخطائها وتناقضاتها، وأن نخوض قليلاً أو كثيرًا في هذه الانتفاضات والانقلابات البيضاء والحمراء التي شهدها الناس، وبخاصة في بلاد العرب على امتداد القرن الماضي، وحتى أيامنا هذه.. لا بد من الخوض في هذا كله، وفي كثير أو قليل غيره لأن الحاضر – كما يقولون- هو ابن الماضي، ووالد المستقبل، ولأن الأحكام الصائبة هي التي تصدر بعد دراسة، ونقد، وتمحيص، واطلاع واسع، يتناول هذه الفترة أو تلك من فترات التاريخ، ومن مقاطعه، وأجزائه، وجزيئاته، وسائر مكوناته، ولأن من حق الأجيال أن تفهم، ولأن من حق الشعوب أن تلم إلمامًا كافيًا بتاريخها، وسير الحوادث والأحداث على أرضها بشكل يسمح لها أن تختار، ويمكّنها من شق طريقها نحو المستقبل بثقة وعزيمة وإصرار واقتدار.. علّنا بعد هذا أو قبله نجد عذرًا لمقصر، أو مخطئ، أو لهذا الذي خذلته الحسابات، واستعصى عليه فهم هذه الاعتبارات، وربط النتائج بالأسباب والمسببات.

في الغرب الرأسمالي دول استعمارية عانت شعوب كثيرة في هذا العالم من بطشها واستبدادها، ومن أبرز هذه الدول بريطانيا التي تمكنت من احتلال مصر قبل مئة وثلاثين عامًا (1882م) لأسباب معينة منها حماية مصالحها التجارية، وتأمين طرق مواصلاتها واتصالها بجنوب شرق آسيا، ولا سيما الهند، بعد أربعةٍ وثمانين عامًا من غزو نابليون لمصر وفلسطين (1798م) أي قبل مئتين وأربعة عشر عامًا، هذا الغزو الفرنسي لمصر والذي استمر ثلاث سنوات، قبل أن يغادر نابليون إلى فرنسا لأسباب داخلية، بعد انتحار جيوشه على أسوار عكا، وهزيمتها البرية تحت وابل من الحجارة، وقطع الصخور الكبيرة التي ألقاها المقاتلون من جبال عزون إلى الوادي، عندما حاولت هذه الجيوش اقتحام تلك الجبال في طريقها إلى نابلس.

لقد مكّنت الثورة الصناعية (التي شهدها الغرب، وتفوَّق من خلالها على الدولة العثمانية آنذاك) دولاً غربية كثيرة من احتلال مساحات واسعة من أراضي هذه الدولة، وممتلكاتها في أقطار إفريقيا وآسيا وأوروبا، فبالإضافة إلى بريطانيا وفرنسا كانت هنالك إيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال.. حتى إذا ما كانت الحرب العالمية الأولى في العام الرابع عشر من القرن الماضي وضع الغربيون أيديهم على كافة ممتلكات ( الرجل المريض) وتمكنوا من القضاء عليه في نهاية تلك الحرب التي استمرت خمس سنوات (1914-1919) وبهذا تمكن الغرب الرأسمالي بقيادة بريطانيا من إسقاط دولة الخلافة العثمانية، واقتسام ما كان قد تبقّى من ممتلكاتها، ولا سيما في بلاد الشام والعراق، حيث سيطر الفرنسيون على سوريا ولبنان، ووضع الإنجليز أيديهم على فلسطين، وشرق الأردن، والعراق.. وبهذا تمت سيطرة الغرب ممثلاً في بريطانيا وفرنسا على ما كان قد تبقى من أرض العرب في ذلك العام.

وفي الشرق شهد العام السابع عشر من القرن الماضي قيام الاتحاد السوفياتي الذي ضم إليه عددًا من الأقطار الإسلامية، وبهذا تمت سيطرة المعسكرين الرأسمالي في الغرب، والاتحاد السوفياتي (الذي كان) في الشرق على كافة الأقطار العربية، والإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوروبا أيضًا.. أما تركيا نفسها، وفي إطار حدودها الحالية، فقد اكتفى الغرب بما أُعلن فيها لاحقًا (1924م) من إلغاءٍ للخلافة، وانتهاج نظام علماني مُوالٍ للغرب فيها.

بغض النظر عن كثير من التفصيلات، وبصرف النظر عن كثير من التواريخ، والأسباب، والأهداف، والغايات، والتسلسلات الزمنية، فإن هذا – وباختصار شديد- هو ما حدث.. ولقد أمعن المعسكران كلاهما في نشر ثقافتهما وأفكارهما، وفي فرض نظرتهما إلى الإنسان والكون والحياة، وفي فرض نظرياتهما في السياسة والاقتصاد والاجتماع على شعوب هذه الأمة في كافة أقطارها التي باتت خاضعة لهما.. ليس هذا فحسب، بل إنهما قد أخذا بالتصدي للثقافة العربية الإسلامية، وللعقيدة الإسلامية نفسها، وللتاريخ العربي الإسلامي، وكافة مقومات الشخصية العربية الإسلامية، وليس أدل على هذا كله مما فعلته فرنسا عندما ضمت إليها أرض الجزائر، معتبرةً إياها أرضًا فرنسية، شاطبةً بذلك تاريخ الجزائر، وعروبتها، وإسلامها.. ولما قال الجزائريون كلمتهم رافضين كل هذا العدوان، وكل هذا الطغيان، وكل هذا التزوير شن عليهم الفرنسيون ألوانًا من الحروب، كان آخرها تلك الحرب التي قدم الجزائريون خلالها مليون شهيد من أبنائهم خلال الثورة التي شنوها على فرنسا طيلة أعوام ثمانية (1954-1962) وانتهت باستقلال الجزائر بعد التوقيع على معاهدة (إميان) بعد احتلال دامَ مائة واثنين وثلاثين عامًا بالكمال والتمام.

النظام السياسي والاقتصادي في الغرب الرأسمالي قائم على التناقض في الوقت الذي يُكثر مفكروه ومثقفوه وقياديوه من الحديث عن الحريات، وحقوق الإنسان، والأخلاق، ومبادئ العدل، والعدالة، والحرية، والإخاء، والمساواة.. وفي الوقت الذي لا يزال يتغنى فيه بمبادئ الثورة الفرنسية، وبتمثال الحرية، وبتاريخ مارتن لوثر كينغ، وبتعاليم السيد المسيح قبل ذلك كله.. لقد بنى هذا الغرب الرأسمالي نظامه السياسي والاقتصادي بازدواجية مرعبة: في الغرب بناءٌ، وتطوير، وتقدم، وحديث لا ينتهي عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والنظام، والمدنية، وفي الشرق العربي الإسلامي ممارسات غربية تقوم على احتلال الأرض، والتنكيل البشع بالناس، وتخريب بلدانهم، وتدميرها، ونهب ثرواتهم، ونشر الفوضى، والفساد، والتخلف، والهمجية في بلادهم، وبين صفوفهم.. فأي ازدواجية هذه؟ وأي انفصام هذا الذي أصاب شخصية الغرب ومسلكياته في كل ديار العروبة والإسلام؟ وأي تناقض بين هذا الذي تبشر به ثوراتهم من عدل وعدالة وسلام وبناء هناك لأوطانهم ومواطنيهم، وما تنادي به، وتمارسه جهارًا نهارًا هنا بحق أوطاننا ومواطنينا؟؟

والاتحاد السوفياتي الذي قام قبل خمسةٍ وتسعين عامًا ليخلص الناس هناك من ظلم القياصرة، وليخلص البشرية من فساد الرأسمالية وعدوانها على الناس، وليحقق حلم الشعوب في السلام والعيش الكريم.. قام هو الآخر على التناقض، لقد انطوت الثورة البلشفية التي فجّرها الرفاق هناك على عدوان صارخ على كثير من الشعوب، وعلى مصادرةٍ لحقها في الحرية والاستقلال .. وعلى الرغم من كافة مواقف الاتحاد السوفياتي إلى جانب القضايا العربية فيما بعد، وعلى الرغم من تأييده لكثير من القادة العرب في تصديهم للامبريالية والاستعمار، وعلى الرغم من وقوفه إلى جانب عبد الناصر منذ قيام ثورة مصر في مثل هذا اليوم من عام اثنين وخمسين، وحتى رحيل عبد الناصر مسمومًا في الثامن والعشرين من أيلول من عام سبعين وتسعمائة وألف، وعلى الرغم من مواصلة الاتحاد السوفياتي بعد رحيل عبد الناصر تسليحه للجيش المصري والسوري والعراقي أيضًا، الأمر الذي مكّن المصريين بعد ذلك من عبور القناة في ظهيرة اليوم العاشر من رمضان من عام ثلاثة وسبعين، وعلى الرغم من مواصلة تأييد الاتحاد السوفياتي للقضايا العربية حتى اللحظة الأخيرة، بل وعلى الرغم من هذه العلاقة الخاصة التي تشد كثيرًا من الناس في كل ديار العروبة إلى ورثة ذلك الاتحاد في العاصمة الروسية موسكو، بسبب المواقف التاريخية المشار إليها، وبسبب وقوف هؤلاء من جديد إلى جانب كثير من العرب، وكثير من المسلمين ممن يرفضون التبعية للغرب.. إلا أن هذا كله لا يمنع من قول كلمة حق بشأن أمرين اثنين كانا قد حصلا ذات يوم وهما: أن الاتحاد السوفياتي قد ضم عددًا من الأقطار الإسلامية إليه دون وجه حق، وأن الاتحاد السوفياتي كان قد سبق غيره من دول الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن دول مجلس الأمن أيضًا إلى الاعتراف بالدولة العبرية التي أقيمت على أرض فلسطين في العام ثمانية وأربعين..

وإذا كان الاتحاد السوفياتي قد آل أمره إلى الزوال بعد حياة شابها كثير من التناقضات، وإذا كان ورثة ذلك الاتحاد في موسكو يحسنون صنعًا في مواقفهم تجاه قضايا العروبة والإسلام بشكل يسترعي الانتباه، ويستوجب الشكر، فإن ما يحدث في الصين ( على الرغم من كل إيجابيات بكّين) بشأن الإيغوريين من سكان تركستان الشرقية التي ضمتها الصين إليها عند قيام ثورتها في العام التاسع والأربعين من القرن الماضي لأمرٌ أكثر من مؤسف، وأكثر من مؤلم.. ألا يعيد هذا الأمر إلى الأذهان ما حدث في المجر، وما حدث في بكين نفسها ذات يوم؟ ألا يُعتبر كل هذا الذي حدث في منظومة الدول الاشتراكية مما يُقال، ومما لا يُقال دليلاً على تناقض الثورات، وازدواجية معاييرها ومقاييسها ومكاييلها؟؟

ثم إن هذه الانتفاضات التي عشنا في هذه الديار واحدة من أشدها غرابة وشراسة، وشهدنا صورًا منها في هذا البلد أو ذاك.. هذه الانتفاضات يوحد بينها طابعها الاحتجاجي، وأسلوبها في العمل، وتشبثها بمواقفها، وجنوحها للعنف، وميلها إليه.. كما يوحّد بينها أيضًا فشلها - في معظم الأحوال- في تحقيق أهدافها، وربما عادت بالمنتفضين وطموحاتهم سنواتٍ طوالاً إلى الوراء، فباتوا نادمين على ما فعلوا، ولكن بعد فوات الأوان.. ليس هذا هو بيت القصيد هنا، وإنما المقصود أن هنالك تشابهًا بين انتفاضة وانتفاضة – كما سلف- في الوقت الذي نجد فيه تباينًا بين هذه وتلك.. وفي الوقت الذي نجد فيه اختلافًا في مواقف كثير من الناس من هذه الانتفاضات.

الانتفاضة – بمعناها الدقيق- أن يتحرك الناس في هذه المنطقة أو تلك، أو في مناطق البلاد كلها للتعبير عن احتجاجهم، وغضبهم، أو للمجاهرة بمطالبهم السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية... والانتفاضة – في إطارها هذا – تحرُّكٌ يريد الناس من خلاله توجيه رسالة أو رسائل لقادتهم، وزعمائهم، وحكامهم، وليس إلى غزاة، أو محتلين.. الجنرال ديغول ومن معه من الفرنسيين لم "ينتفضوا" على الغزاة النازيين بعد أن احتلوا فرنسا.. ما فعله الجنرال لم يكن انتفاضة، بل مقاومة، وثورة مسلحة استهدفت إخراج النازي المحتل من البلد، وهكذا كان.. ثم إن مواقف كثير من الأفراد والدول تختلف من هذه الانتفاضات.. ففي الوقت الذي أيد فيه كثير من الأفراد، وأيدت فيه دول كثيرة كل مظاهر الاحتجاج في إيران على نتائج الانتخابات الأخيرة التي قال الخاسرون فيها إنها مزورة، لم نجد هناك من يبدي تعاطفًا مع الجياع، والمقموعين، أو مع سجناء الرأي، والمعتقد السياسي، أو الديني في كثير من بلدان هذا العالم.. بل لعل الأهواء، والمصالح الشخصية، والتبعية لكثير من الدول الغربية التي تحرك الأحداث في هذا العالم هي التي تحرك هؤلاء لتأييد تحرُّكٍ مشبوه في هذا البلد، وتجاهل تحرك آخر في ذاك.. على الرغم من أن تحرك الأول باطل، وينطوي على التدخل بأمن البلد، وأمان مواطنيه، والعبث بالسلم الأهلي والاجتماعي.. وعلى الرغم أيضًا من أن تحرك الثاني حقٌّ، وينطوي على رفع ضيم وظلم، وتوفير لقمة عيش، وحبة دواء، وإفراج عن سجناء رأي، ومعتقلين سياسيين.

وما يقال في الانتفاضات والمنتفضين يقال أيضًا في الانقلابات والانقلابيين.. فليس كل انقلاب مصيبًا، وليس كل انقلاب خاطئًا.. الانقلاب الذي تقوم به مجموعة من الضباط، أو ينفذه حزب سياسي، أو ديني، أو حركة قومية، أو اجتماعية بهدف إنقاذ البلاد والعباد من خطر محدق، وشر مستطير له من يسمعه، ويتعاطف معه في هذا العالم.. والانقلاب الذي جاء على خلفية ضبط الأحوال، وإعادة النظام العام إلى البلد بعد أن عبثت به مجموعات من العابثين الضالين المضلين له مؤيدوه بين الناس، وله قاعدته الشعبية التي يرتكز إليها، ويستند عليها..

في الثالث والعشرين من يوليو تموز شهدت القاهرة ثورة أو انقلابًا أبيض قاده جمال عبد الناصر الضابط الذي حارب في المنشية بفلسطين، وحوصر في الفالوجة.. غضب عبد الناصر لضياع فلسطين، وغضب للتمزق العربي، والضعف العربي، والعجز العربي، والتواطؤ العربي؛ فقرر الانتقام لفلسطين من كل أسباب الضعف والانقسام والتشرذم والهزيمة.. فكان ميلاد الجمهورية في مصر مؤذنًا ببداية عهد جديد يضع النقاط فوق الحروف، ويعيد ترتيب الأوراق بعد أن اختلطت، وبعد أن ضاع كثير منها، ويعود بالعرب إلى سابق مجدهم في عصور عزتهم وقوتهم وعنفوانهم... شحن عبد الناصر شعب مصر العربي، وشحن الشعب العربي في كافة أقطاره وأمصاره، وعلى كل أرض العرب، وقاد حركة إصلاحية ثورية عربية واسعة في مصر، وخاض معارك داخلية رهيبة ضد الإقطاع، والتبعية وسيطرة رأس المال، والتخلف والفساد.. كما خاض معارك ضارية ضد الثورة المضادة، وضد رموزها وعناصرها.. وحارب على كافة الجبهات العربية والإسلامية والعالمية لوضع مصر، ومعها كل العرب على خارطة العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وتصدّى للعدوان الثلاثي في التاسع والعشرين من أكتوبر تشرين الأول سنة ست وخمسين، وخرج منتصرًا على ذلك العدوان، وقام بسلسلة من الإصلاحات الداخلية معلنًا قناة السويس شركة عامة مصرية، كما كان قد قام بطرد القوات البريطانية التي احتلت قناة السويس لأكثر من سبعين عامًا، وكان قوامها ثمانين ألف جندي بريطاني.. وقد كان عبد الناصر من مؤسسي دول عدم الانحياز جنبًا إلى جنب مع تيتو ونهرو.. لقد بنى لمصر ولكل العرب قوة يُحسب لها ألف حساب... وتابع جمال عبد الناصر سيره على طريق النصر والتحرير وبناء الدولة الحديثة، وإقامة دولة الوحدة العربية الكبرى على كل أرض العرب حتى كان إعداد الغرب لحرب سبعة وستين بعد أن أقدم عبد الناصر على التخلص من أمر كان يزعجه منذ عام ستة وخمسين، وهو وجود قوات الأمم المتحدة في مضائق تيران... نعم لقد طرد عبد الناصر تلك القوات، فكانت فرصة الغرب التي استغلها أبشع استغلال ضد هذا القائد العربي الذي أبى إلاّ أن يقضي وهو يقارع أعداء العرب ببسالة وبرجولة لا تلين...

كان من الطبيعي أن يتحالف الغرب ضد عبد الناصر، وكان من الطبيعي أن تتضافر جهود الغرب للتخلص من رجل بات يهدد الغرب ومصالحه في هذه الديار..فكان ما كان لأن عبد الناصر كان رجل الساعة، ولأن الغرب كل الغرب لا يريد أن يرى رجلاً قويًّا، أو دولة قوية على أرض العرب، فكيف إذا كان عبد الناصر يعمل جاهدًا من أجل إقامة المشروع العربي على كل أرض العرب، وكيف إذا كان عبد الناصر يتحرك بسرعة ونشاط في الدائرة الإسلامية التي تعتبر العالم الإسلامي كله وحدة سياسية واقتصادية، وجغرافيّة واحدة؟ وكيف إذا كان عبد الناصر يحلم في بناء عالم عربي إسلامي واحد موحّد تبلغ مساحته أكثر من ثلاثة وثلاثين مليونًا من الكيلومترات المربعة، وهي مساحة تزيد كثيرًا على مساحة الاتحاد السوفياتي الذي كان، وتبلغ نحو أربعة أضعاف مساحة الصين الشعبية، ونحو أربعة أضعاف مساحة الولايات المتحدة نفسها.

كان ما كان.. وكانت هزيمة العام سبعة وستين... وكان الموقف الشعبي المصري والعربي في التاسع والعاشر ( الجمعة والسبت) من حزيران...وكانت عودة الفارس بقرار من أمة العرب كلها، وكان قرار إعادة بناء الجيش المصري، وقرار إسناد رئاسة الأركان إلى عبد المنعم رياض لإعادة بناء الجيش، والشروع في حرب الاستنزاف بعد ذلك.. لقد أسس عبد الناصر لانتصار الجيش المصري في حرب العاشر من رمضان عام ثلاثة وسبعين، قبل أن تغتاله الأيدي الآثمة؛ فيقضي بالسمّ في الثامن والعشرين من أيلول من العام سبعين وتسعمائة وألف.

وهكذا قضى عبد الناصر بعد حياة حافلة بالمجد، والعمل من أجل فلسطين، ومن أجل مصر، ومن أجل الأمة العربية الواحدة الموحدة من محيطها إلى خليجها.. قضى عبد الناصر، وهو يحمل الراية العربية، وعزاء هذه الأمة أن الراية لم تسقط، وأن العرب بخير، وأن دولة الوحدة العربية الكبرى التي حلم بها عبد الناصر، ونادى بها طوال فترة حكمه هي حقيقة قائمة على كل أرض العرب من المحيط إلى الخليج.. إنها حلم كل عربي مخلص لوطنه، مخلص لعروبته، مخلص لإسلامه، مخلص لثقافته العربية الإسلامية، ولفلسطين أرضًا وشعبًا وقضيّة.

واستخلاصًا للعبر والدروس المستفادة من هذه التجربة الفريدة في تاريخنا الحديث أقول إنه لا شيء يضيع القدرات، ويقضي على الكفاءات والإمكانات كالحماسة الزائدة والاندفاعات، ولا شيء ينمّيها، ويدفع بها إلى الأمام بخطًى ثابتة مدروسة راسخة، كالوعي، والتبصر، والاستفادة من دروس التاريخ، واستغلالها في استنهاض الواقع، على هدًى، وبينة، وبصيرة، وإصرار على مواصلة التقدم والبناء لتحقيق الهدف المنشود.. ولا شيء يقضي على العزائم كاليأس والقنوط والإحباط، ومن هنا كان من الضروري، بل من الواجب أن يبتعد القادة بشعوبهم عن عوامل هذه الآفات، وعن أسبابها ومسبباتها بقدْر المستطاع.. أما إذا كانت مفروضة فرْضًا من قوًى ودول ليس بالإمكان مواجهتها، أو مهادنتها ومسالمتها لأنها مصرّة على المواجهة، والتخلص من هذا الوليد قبل أن يبلغ أشده، ولأنها لا تريد أن ترى في هذه الديار جيلاً قويًّا، ونظامًا كفيًّا، وقوة فاعلة في التاريخ، وصنع الأحداث؛ فليس أقل من المصارحة، والمكاشفة، وأخذ رأي الناس في كل ما حدث، وفي كل ما سيحدث.. وليكن بعد ذلك ما يكون!!

واستخلاصًا للعبر والدروس من تجاربنا الحزبية، ومنطلقاتنا الفكرية، ومن كل الانقلابات والثورات التي شهدتها أرض العرب في تاريخنا المعاصر، ومن كل ما رافقها وصاحبها من انتصارات وهزائم، وتفاؤل وتشاؤم، ومغانم ومغارم أقول مختتمًا هذا المقال:

لقد شهد القرن الماضي انهيار دولة الخلافة العثمانية، كما شهد تمزق كل أرض العرب والمسلمين، وقيام دول عربية ومسلمة كثيرة قد يصل عددها اليوم إلى ستين دولة. ولا يزال العدد مرشحًا للزيادة بفعل هذا التوجه الذي يستهدف تجزئة الصحيح، وتفتيت المجزَّأ.. ومن يدري فقد يصبح للعرب والمسلمين ذات يوم مئة دولة، وقد يصبح لهم أكثر من ذلك، ومع هذا فهم غثاء كغثاء السيل، لا يملكون من أمر أنفسهم وأوطانهم شيئا... لقد شاركت القوى العربية، والأحزاب العربية، ولا سيما بعد نكبة عام ثمانية وأربعين في هذه التجارب السياسية، وخاضت تجارب الانقلابات والثورات في كثير من ديار العروبة والإسلام.. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الحزب الوحيد (من هذه الأحزاب التي عرفتُها، وعرفها الناس قبل ستة عقود، أو يزيد) الذي لم يشارك في شيء من هذا هو حزب التحرير على الرغم من أن المجال كان ولا يزال متاحًا أمامه للخوص – كغيره- في هذه التجارب، وعلى الرغم من أن الشيوعيين، والقوميين، والبعثيين، وبعض الإسلاميين (وغيرهم ممن لم يحالفهم الحظ في الظهور) قد خاضوا غمراتها.

هذا الحزب قد يكون الحزب الوحيد الذي امتنع عن دخول تجربة غير مضمونة، لأنه لا يؤمن بالانقلابات العسكرية، ولأنه يريد بناء دولة تقوم على اختيار الناس، واقتناعهم بها، والاستعداد للتضحية في سبيل بنائها وبقائها، ودخول معارك التحدي بكل أشكالها وصورها بوعي وبصيرة وتبصّر وإدراك.. فهل يتاح لهذا الحزب أن يحقق هدفًا يراوده منذ تسعة وخمسين عامًا؟ وهل يُتاح لهذه الأمة أن تبلور فكرًا سياسيًّا تحرريًّا لا تبعيَّة فيه لمشرق أو مغرب؟ وهل تتمكن هذه الأمة ذات يوم من تكريس وجودها، وصنع القوة الناعمة أو غير الناعمة التي تضمن لها وجودًا لائقًا بها تحت الشمس، ودورًا فاعلاً في التاريخ، بعيدًا عن الأخطاء والخطايا، وكل أسباب اليأس والتخبط والقنوط والإحباط؟

بقي أن أقول إنني قد توقفت عند حدود هذا الذي يسمونه الربيع العربي، ولم أجد ما يغريني بالكتابة في هذا الذي لم أجد فيه ما يغري، ولم أجد ما يدفعني للكتابة فيه سوى التشكك، والتحفظ، والحذر، ولم أجد فيه أيضًا سوى هذه المحاولات الجديدة لتمزيق العالم العربي وتفتيته وتقسيمه وتركيعه من جديد.

23-7-2012




التعليقات (1)

1 - رحمك الله يا عربي يا حر

فلسطين عربية - 2013-08-31 08:53:09

وكانك لا زلت معنا، حاضرا بكلماتك وتحليلاتك الرائعة، ما أشبه الامس باليوم!! وكأن التاريخ يعيد نفسه وتحليلاتك دوما في محلها... رحمة الله عليك

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !