بطبعي أكره تلك الثرثرة وذلك الجهد المستميت الذي يبذله كل طبيب ليحسن من وضع مريضه النفسي ، لا لشيء سوى أن أغلب الأطباء يفشلون في تلك النقطة – على الأقل الذين قابلتهم في حياتي وهم كثر – لذلك أنا مقتنع أن الطبيب محاور فاشل ، لان حديثه دائما يأخذ صيغة الاستجواب .
إلا أن الحديث مع الطبيب لا مفر منه ، فمؤخرا كان لدي موعد مع طبيب ، وعلى الرغم من أن هذا هو لقائي الثاني به ، إلا أنه اندفع كالمرة السابقة يحدثني عن الوضع السياسي في بلادي ، وبلادي - وهي نقطة تستحق الوقوف - ستدخل قريبا موسوعة غينيس للأرقام القياسية في عدد الإنقلابات ، لذلك هي موضوع خصب للحديث .
حاول الطبيب أن يستذكر اسمي رئيسينا المنقلب – بكسر اللام – و المنقلب عليه – بفتحها – وقد صارا سابقين لأنهما جاء بعدهما رئيس وبعد شهرين سيأتي آخر وقد يأتي خامس في نفس الفترة تقريبا ، فلدينا مشروع ديمقراطي طموح يقتضي تذوق كل مواطن طعم الرئاسة ، ما بين منقلب ومنقلب عليه .
المهم حاول الطبيب الطيب أن يستذكر اسمي رئيسينا ، واسماؤنا بالمناسبة يعتبرها الكثيرون غريبة وهو واحد منهم بكل تأكيد ، بدأ بما لا يخلو منه أي اسم موريتاني وهو “ولد” وانتهى بما يعتقد أنه كذلك وهو “سيدي” ، ابتسمت أنا وأنقذت الموقف خشية الإحراج ولبيت تلك الرغبة في قلب الطبيب ، حرفت اسمي رئيسينا ليبدأ كل منهما بولد وينتهي بسيدي ، على الرغم من أن الحقيقة مجافية لذلك وإن كانت ولد في الاسمين وسيدي كذلك .
بدأ الرجل يغوص معي في دهاليز الأزمة السياسية في بلادي وأنا أحاول أن أجيبه عن أشياء كثيرة لا أفهمها ، تشعب الحديث إلى أن سألني عن موقفي مما يجري هناك ، استفهمت عن القصد قال أنت مع سيدي أو ولد ، ابتسمت وقلت أي منهما تقصد فكل منهما سيدي وكل منهما ولد ، ضحك وقال مع المنقلِب أو المنقلَب عليه ، بدأت أحاول أن أشرح باستفاضة موقفي في لحظة غرور أوهمت نفسي فيها أن هناك من يهتم بموقفي ، لم أكد أبدأ حتى انطلقت ضحكة خجولة من مساعد الطبيب وهو رجل سوداني يعيش في العقد الخامس من عمره ، وقال : - وهو يكتم ضحكته الخجولة - لعله لم تترك له الانقلابات وقتا يتخذ فيه موقفا من أحد ، ضحكت تأدبا وأنا أحس مرارة في كلام الرجل وضحك الطبيب ، أزاحت ضحكتينا ذلك الخجل البادي على وجه الرجل الخمسيني ذي الذؤابة البيضاء ، فأطلق العنان لأشداقه التي أثقلها الكبر لتأخذ مداها واغرورقت عيناه بالدموع وهو يحاول أن يشرح قصده حتى نستمر نحن أيضا في الضحك ، خلال لحظات امتلأت القاعة بالأطباء المستفهمين عما يجري وهم يضحكون ، لم يسمعوا شيئا لكن ظاهرة الضحك بطبيعتها معدية .
بدأ الطبيب يشرح لزملائه الحوار الذي دار بيننا وأسارير أجوههم في تحمية مستمرة تنتظر الصافرة لتنطلق ، إلا أن الحديث انتهى ولم يأت ماكانوا ينتظرون لأن حديثنا ليس فيه مايضحك ، وعلى الرغم من ذلك ضحك أحدهم ملء فيه وقال : سمعت في الإذاعة أن اليوم هو اليوم العالمي للضحك ، وأنه في اليابان امتلأت الحدائق من الناس وكلهم يضحكون فلعل مساعدك أيها الدكتور أصابته العدوى من هناك .ضحك الكل تخليدا لليوم المجيد وانصرفوا .. سلمني الطبيب الوصفة الطبية ، وأنا أغادر قلت له في المرة القادمة إن كان لابد من حديث فسيكون غير سياسي ، أو على الأقل لا يأخذ نمط الاستجواب.
التعليقات (0)