لنفرض جدلاً، صحة (السر الخطير) الذي تمكن الزميل أحمد صلال من كشفه، و من ثم إفشاءه في مقاله المنشور في 26 سبتمبر الحالي في صحيفة الحياة تحت عنوان (في السياسات الكُردية الراهنة)، من إن البعض الكُردي السوري، الذي أسماه (من ذوي الإتجاهات الإنفصالية)، يسعى من وراء طروحاته السياسية المختلفة للوصول في نهاية المطاف، و بالإشتراك مع كُرد العراق، إلى الإنفصال التام و تحقيق دولة كُردستان، و أقول لنفترض صحة ما ذهب إليه، فأين المشكلة في ذلك، و ماهي جريمة هؤلاء هنا؟ و قبل هذا و ذاك، ما الذي يضير السيد صلال في الأمر، خاصةً و هو الذي يقدم نفسه كصُحفي ناشط في ثورة الحُرية و الكرامة؟ أين المشكلة حتى في أن يذهب الكُل و ليس البعض فقط، إنفصالياً كان أو غير إنفصالي، في أحلامه حتى النهاية، و ذلك بتصور أن ضمان حقوقه في الحُرية و الكرامة ـ التي يرفع صلال لواءها ـ يكون فقط في دولةٍ خاصة به، ما دام يرى و يلمس أن تحقيق بعض تلك الحقوق في الدول القائمة حالياً، عُرضةٌ للأمزجة و التابوات القومية و الدينية، المحلية منها و الإقليمية و الدولية،، خاصةً أن الدول التي وجد الكُرد أنفسهم فجأةً فيها لم تقم أساساً كتعبيرٍ عن رغبات شعوبها، بل وجدت كنتيجة لتقسيمات إستعمارية، مع الإشارة إلى أن كُردستان التي يشير إلى أنها تتكون من جزئين فقط، سوري و عراقي، تشمل جزئين آخرين تركي و إيراني، و يستحيل تحقيق تلك الكُردستان من جزئيها اللذين ذكرهما فقط، لأسبابٍ أقلها جغرافية، و أهمها المزاج الكُردي العام، و هنا فإن تركيزه على ذينك الجزأين، المُلحقين بدولتين عربيتين، يثير التساؤل عن نواياه، التي أرجو أن لا تكون كما قد يخلُص إليها البعض.
لن نتحدث هنا بالمقابل عن (البعض العربي السوري)، الذي يسعى لأخذ سوريا، بما فيه كُردها، إلى مشاريع عروبية لا تتوافق مع تطلعات جميع مواطنيها، مثل وحداتٍ إندماجية مع دولٍ عربية أخرى، و ذلك دون أخذ رأي هؤلاء الكُرد، و كأنهم مُجرد ملحقات لا رأي لها، و فيما إذا كان بإمكاننا أن ننعت هؤلاء ـ العرب ـ بالإنفصاليين أيضاً؟ أم أن علينا ربما التفكير في مُصطلحٍ آخر يناسبهم؟ لكنني أؤكد بأنني لستُ معنياً بالأساس بالرد على آراء الأستاذ صلال و إستنتاجاته، لأنه حُرٌ فيها، لكنني معنيٌ بمناقشة بعض الوقائع التي ذكرها في مقاله المذكور، لتبيان مدى صحتها، و واقعية النتائح التي بناها عليها.
للأسف الشديد، سأخيب أمل الأستاذ صلال و أنا أذكرُ له، و لغيره أيضاً، حقيقةً مؤلمة، و هي أن الحقبة التي شهدت حراكاً كُردياً حقيقياً، ثقافياً و إجتماعياً و سياسياً، كانت في الفترة ما قبل الإستقلال، رغم أن الشهيد يوسف العظمة، و هو أول سوري يسقط في بدايات الهجوم الإستعماري الفرنسي على سوريا كان كُردياً، و رغم معارك التحرير الكُردية الكثيرة ضد الفرنسيين كمعركة (بياندور)، و رغم أن الأمر قد وصل بالفرنسيين إلى قصف (عامودا) بالطائرات في يومٍ ما، فالوضع الكُردي بدأ بالإنحدار و التدهور بعد الإستقلال، إلى أن وصل إلى أسوأ حالاته في مرحلة الأسد الأبن، التي لا (يختزل الكُرد تاريخهم مع الدولة بما جرى لهم خلالها) كما يدعي الزميل صلال، فما أطلق عليه بالفترة التي (شهدت بوادر ولادة مشاريع وطنية تؤسس لدولة مدنية قوية تحكمها المؤسسات والقانون)، و يقصد هنا الفترة ما بين الإستقلال و عهد الأسد، كان الكُرد فيها خارج تلك المشاريع، فلا هم سمعوا بها و لا أصحابها إكتشفوهم خلالها كقومية مختلفة، المشروع الوحيد الذي عرفهُ الكُرد في تلك الفترة (الذهبية) هو ذاك التي قدمه ضابط الأمن السياسي محمد طلب هلال في العام 1962 بعنوان (دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية و الإجتماعية و السياسية) و التي ضمنها خلاصة تجربته خلال خدمته في منطقة الجزيرة، و قد قدمت الدراسة إثني عشر مُقترحاً لحل ما أسماه بالمشكلة الكُردية، حيث تم تطبيق ما جاء فيها بنسبة كبيرة.
و إذا كان موضوعنا لا يتعلق بالبحث في خطط هلال الواردة في دراسته الهادفة إلى إنهاء وجود الكُرد في مناطقهم، و من ثم في سوريا، إلا أنه لا بُد من الإشارة إلى بعض نقاطها بين الحين و الآخر، لفهم خلفيات الوقائع التي وردت في المقال موضوع الحديث، بإعتبار تلك الوقائع تجد لنفسها أساساً في تلك الدراسة.
يذكر السيد صلال أن الكُرد يتناسون (الشراكة الوطنية في المأساة) عندما يتحدثون عن الحزام العربي، ثم ينتقل فوراً للحديث عن (المغمورون الذين هجرهم النظام و أسكنهم تلك المنطقة) كدليلٍ على تلك (الشراكة المأساوية)، إلا إنه يخلط بذلك بين مسألتين منفصلتين تماماً لكلٍ منهما سياقاتها الخاصة. الحقيقة هي أن الحزام العربي طُبق في المناطق التي يسكنها الكُرد فقط، أي على طول الحدود السورية ـ التركية و بعمق 10ـ 15 كيلومتراً، و هذا ما يجعلنا على يقينٍ بأنهم كانوا وحيدون في قلب (مأساة الحزام)، و بالتالي المتضررون الوحيدون منه، فإذا كانت هناك شراكة في هذه المأساة حقاً، فلماذا لم يطبق الحزام العربي على الحدود السورية ـ العراقية مثلاً، أو على الحدود السورية مع أية دولة أُخرى؟ أليس من الواضح هنا أن الغاية منه هي الفصل بين الكُرد المقيمين على جانبي الحدود السورية ـ التركية، لقطع الإمتدادت القومية لهم؟ إذا كان الزميل يقول أن الكُرد يعتبرون الحزام العربي بمثابة (هولوكوست كُردي)، فلماذا يعتبره هو بمثابة (حائطُ مبكى) عندما يدافع عنه، على الأقل من خلال التشويش على وجوده و تشتيت الإنتباه عن نتائجه الكارثية التي أصابتهم لوحدهم، و ذلك بمحاولة تعميمها على الجميع؟ و هنا لا بُد من التذكير بما ورد في الفقرة التاسعة من دراسة طلب هلال، التي تطالب بجعل (الشريط الشمالي للجزيرة السورية منطقة عسكرية مُغلقة، و إعتبارها جبهة قتال، تكون مهمة القطعات المُسلحة فيها إجلاء الأكراد و إسكان العرب بدلاً منهم).
ينتقل الأستاذ صلال بعد ذلك كما ذكرت إلى من يسميهم (المغمورون) فيقول عنهم بأنهم: (قبيلة عربية هجّرها النظام من ضفاف الفرات و أسكنها تلك المنطقة)، و بأن الكُرد (لا ينبسون ببنت شفة) عندما يتعلق الأمر بهؤلاء لأن الأراضي التي مُنحت لهم (سُلبت من العرب و الكُرد على حدٍ سواء). و الواقع هو إنني وصلت هنا إلى حد اليقين بأن مقال السيد صلال إرتجالي، منفصلٌ عن الواقع، لا يستند إلى أدنى إطلاعٍ عليه أو معرفةٍ به، رغم أن صاحبهُ من أبناء المنطقة، فالحقيقة هي أنه لا يوجد في سوريا، أو الوطن العربي، أو العالم كله قبيلة عربية إسمها المغمورون! إذ إن هؤلاء (المغمورون) ينتمون إلى قبائل عربية مختلفة، و هم في حقيقتهم سُكان مجموعةٍ من القرى التي كانت موجودة في المنطقة التي أُقيم عليها سد الفرات، فغمرت مياهه قُراهم (و من هنا جاءت التسمية)، أي أن النظام لم يقم (بتهجيرهم من ضفاف الفرات) كلها، بل من منطقة محددة هي التي أُقيم عليها سد الفرات، ثم قام بالإستيلاء على أخصب الأراضي الزراعية الكُردية و منحها لهم. و إذا كان من واجب أي نظامٍ في العالم تحسين حياة مواطنيه بإنشاء السدود و غيرها من المشاريع، فليس من حقه على الأطلاق حل المشكلات الناجمة عن ذلك على حساب مواطنين آخرين، و بالتالي تحويل حياتهم إلى جحيم. إن هدف النظام لم يكن فقط (تطويع المنطقة سياسياً) كما ذكر الزميل العزيز، بل تغيير ديموغرافيتها، لإن الأمر لم يكن يتعلق بتأسيس حزبٍ جديد أو هزيمة حزبٍ منافس في إنتخاباتٍ جرت، بل بإحلال مواطنين من إحدى القوميات محل آخرين من قوميةٍ أُخرى، و قطع سبل العيش الكريم عنهم لدفعهم إلى الفرار، و إذا لم يكن دافع النظام من العملية عنصرياً بحتاً فلماذا لم يُعِد توطين هؤلاء المغمورين في أراضٍ مجاورة لمنطقة السد كونهم الأولى بالإستفادة منه، أو على الأقل، لماذا لم يقم بتوزيعهم على مساحة الجغرافيا السورية كلها، أو في أسوأ الأحوال، لماذا لم يقم بتقسيم أراضي الكُرد بينهم و بين (ضيوفهم) بالتساوي، و ليس إنتزاعها كلها منهم و بدون تعويضٍ عادل، و كأن المنطقة كانت (أرضاً بلا سكان) كما كان يرد في الأدبيات الصهيونية عن فلسطين، و هنا يعود بنا الحديثُ ثانيةً إلى توصيات طلب هلال التي تقول فقرتها العاشرة ما يلي: (إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين يتم إسكانهم في الشريط الشمالي، على أن يتم تسليح سكانها و تدريبهم جيداً.)، الحقائق الأُخرى التي يجب ذكرها بشأن هؤلاء، و الذين أُنشأت لهم قُرىً على شكل مزارع جماعية حسب توصية هلال، هي أن الحكومة لم تسلب أي مواطن عربي يسكن في المنطقة متراً مربعاً واحداً لتمنحه لهم عندما جلبتهم إليها، و لا أعلم هنا مصدر معلومات السيد صلال التي تذهب إلى عكس ذلك، كما لم يغادر أيًّ منهم المنطقة إلى تلك التي سبق و إن أُستقدم منها، هذا إذا كُنتُ قد فهمت ما ذهب إليه الزميل جيداً، حيث لم يبين لنا مصادره مرةً أُخرى، خاصةً أن ما ينفي بشدة مثل تلك الإدعاءات هو الأوضاع الأمنية الصعبة التي تشهدها سوريا، و التي تضطر المواطنين من مختلف المحافظات السورية إلى اللجوء إلى المنطقة الكُردية نتيجة الإستقرار النسبي فيها، و ليس إلى مُغادرتها، أُضيفُ إلى ذلك أن هؤلاء (المغمورون) مُسلحون بشكلٍ جيد، و قد تم تحديث تسليحهم و زيادته بعد بدء الثورة السورية، كما تم ذلك إبان الإنتفاضة الكُردية 2004، و هم بالمناسبة من أشد الموالين للنظام.
هناك واقعة إشكالية أُخرى تتعلق بنسبة الكُرد في مناطقهم، حيث يبت فيها الزميل صلال من منطلق المتأكد من حقيقة ذلك الوجود، إذ يقول عن تلك النسبة إلى مجموع السكان في (الأراضي المسماة من قبلهم كردستان سورية)، بإنها (لا تتعدى الـ 22 في المئة) من سكان تلك المناطق، و مع عدم وجود إحصاء سكاني علمي حتى الآن في سوريا فإنه يستحيل معرفة عدد السكان بشكلٍ دقيق، و لنا أن نتصور كيف يكون عليه الأمر بالنسبة لقومية لم تقم أنظمة الحكم في سوريا يوماً بإجراء إحصاءٍ خاصٍ بأبناءها، بل سعت جهودها إلى إنكار حقيقة وجودهم و طمسه، من خلال المحاولات المستمرة لتهجير و الإذابة القومية، و إذا كان يستحيل على إبن المنطقة معرفة النسبة التقريبية لعدد المواطنين الكُرد فيها، فكيف تمكن السيد صلال من تحديد هذه النسبة بـ 22%، و هو لا ينتمي إليها، و لم يُعرف عنه تواجده فيها و لو بشكلٍ خاطف، كما لم يثبت بالنتيجة قيامه بإجراء مثل ذلك الإحصاء، أو وجود آخر إستند إليه، إلا إنني أدعوه بالمناسبة لمُتابعة المُظاهرات التي تخرج في المناطق الكُردية على مدى العام و النصف المنصرم، و لو ليومٍ واحد، ليصل بنفسه إلى النسب الحقيقية، و مع ذلك و بإعتباري من المنطقة فإنني أستطيع القول، و مع التحفظ، بأننا لو عكسنا النسبة التي جاء بها الزميل صلال، و أعطينا الكُرد نسبة الـ 78% التي منحها هو لغيرهم، لكان ذلك ربما أقرب إلى الواقع.
إنني أجدُ نفسي عائداً مرةً أُخرى إلى المقولة الكارثية (الشراكة الوطنية في المأساة) بمثلٍ واحد يدل على أن أسهم الكُرد كانت الأكبر دائماً في تلك الشركة، فعندما صدر المرسوم الجمهوري رقم 49/2008 الذي نص على منع إجراء أو نقل أو تعديل أو إكتساب أي حق عيني على عقار واقع في المناطق الحدودية إلا بعد الحصول على الترخيص القانوني من وزارة الداخلية تم تطبيقه نظرياً على جميع المناطق الحدودية السورية، إلا أن المرسوم إعتبر محافظة الحسكة كلها منطقة حدودية، أي بعمق وصل إلى حوالي مئة كيلومتر إعتباراً من الحدود التركية، في حين أنها لم تكن تزيد على بضعة كيلومترات في المناطق السورية الحدودية الأُخرى، بالإضافة إلى أن الترخيصات كانت تحجب عن المواطنين الكُرد عند تقدمهم للحصول عليها، فالمرسوم التشريعي قضى على العمل في قطاع العقارات الذي كان مصدر الرزق الوحيد المتبقي لأبناء المنطقة بعد أن ضربها الجفاف و لسنواتٍ متتالية، مما أجبر أبناءها على الهجرة منها، في حين أن آثاره لم تكن بهذه الصورة المأساوية في المناطق الحدودية السورية الأخرى.
أما عن قوله بوجود (تحالفات لمعظم الساسة الكُرد التقليديين مع النظام) ففيه إجحافٌ كبير لا يقل عما ذكره عن النسبة المئوية للكُرد في مناطقهم، فمعظم الحراك السياسي الكُردي المكون من أكثرية الأحزاب الكُردية المنضوية تحت عنوان المجلس الوطني الكُردي، و إتحاد القوى الديمقراطية و التنسيقيات يطالب بإسقاط النظام، و هو قريبٌ جداً من المعارضة السورية الحقيقية و خاصةً من ممثل الحراك الثوري على الأرض، ألا و هو المجلس الوطني السوري، لكن ذلك لا ينفي وجود من هو مستفيد من بقاء النظام كما هو الحال في باقي سوريا، إلا أن نسبة هؤلاء البسيطة لا تقتضي التعميم، و تحميل الكُل وزر مواقفهم، التي يتحملون لوحدهم مسؤوليتها.
أخيراً يصل الأستاذ أحمد صلال إلى خُلاصة مُفاجئة لا تُبنى حقيقةً، رغم إيجابياتها، على ما ذهب إليه في مقاله، و كأنه كان يرغب منذ البداية في تعليق جرس إنذار بعد كل ذلك الشرور الذي لمسه و إستعرضه لدى ذلك (البعض الإنفصالي)، فهو يدعو إلى الإسراع في بناء المشروع الوطني السوري على أساس نقاط التوافق مع الكُرد، لكن المرء يفهم الدعوة هنا، و خاصةً بعد تلك السلبية في النظر إلى شركاء الوطن، و لي الحقائق المتعلقة بوضعهم، إن لم يكن إنكارها، يفهمها كوسيلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن يصبح للطموحات الكُردية أقداماً تسير عليها، و مثل هذا المشروع الطموح يحتاج حقيقةً إلى إعادة قراءة الواقع بعيون أبناء المنطقة، أو بعيون من يعتبر نفسه شريكاً حقيقياً لهم في الوطن، الذي جمعهم في الماضي، و سيجمعهم في المستقبل أيضاً.
التعليقات (0)