هذا الذي يريد أن يكتب شيئًا عن فلسطين والفلسطينيين، وعن القضية الفلسطينية، والحق العربي الواضح الصريح في فلسطين، وذاك الذي يريد أن يؤرخ لهذه الديار، أو أن يكون شاهدًا على هذا العصر العربي الفلسطيني بكل إيجابياته وسلبياته وتداعياته وتناقضاته، وبكل تفصيلاته وحيثياته وعلله وأرزائه وثوابته.. لا يعرف يقينًا من أين يبدأ، وكيف يبدأ، ولا يعرف يقينًا إلى أين سيقوده القلم، وإلى أين سيفضي به الفكر والتفكر والتفكير، ولا يعرف يقينًا كيف سيجابه نفسه ويواجهها إن لم يملك الجرأة الكافية على قول الحق، والترويج للحقيقة، وكيف سيجابه كثيرًا من بني وطنه ، ومن بني قومه وأمته أيضًا ، وكيف سيواجههم في ظل هذه الفتن الكبرى التي تعصف بالبلاد والعباد، وفي ظل كل هذه الخلافات والانقسامات والتصدعات ، وتعدد الولاءات، والاختلاف في الميول والمشارب والأهواء والأمزجة والمذاقات، وكل هذه التباينات في المواقف والآراء ووجهات النظر إلى الحد الذي تحوّل معه كثير من الناس عن قبلتهم، وإلى الحد الذي تنكر معه كثير من الناس لمبادئهم ومعتقداتهم وثوابتهم ومقومات شخصيتهم ومكوناتها ومورثاتها، مؤْثرين على كل ذلك عرضًا زائلاً ، ومتاعًا حقيرًا، ومكاسب شخصية رخيصة، لكنها كفيلة بوأد الضمائر في صدور أصحابها، وتخدير المشاعر والأحاسيس النبيلة السامية في نفوسهم، حتى إذا ما زال مفعول هذه المخدرات والإغراءات والإغواءات بفعل التغيرات والمتغيرات، ولأسباب متعلقة بالتكتيكات والاستراتيجيات، ولغير ذلك من المؤثرات والمؤشرات، وأشكال التأثيرات، وحتى إذا ما ألفى هؤلاء أنفسهم في أحوال غاية في السوء تبعًا لذلك كله أو بعضه، نظرًا لقرب انتهاء مرحلة، أو لانتهائها، ونظرًا لبداية مرحلة جديدة، أو لاقترابها دون أن يكون لهم بها أدنى علم أو معرفة أو رأي، ودون أن يعلم كبارهم شيئًا عما يفعله صغارهم، ودون أن يبدي سابقهم أدنى اكتراث بلاحقهم، ودون أن يُكنّ لاحقهم لسابقهم شيئًا من ود أو احترام، فاعلم أنها الساعة، واعلم أنها القيامة، واعلم أنها النفس اللوامة، واعلم أنه اليوم الذي تُبلى فيه السرائر، فما له من قوة ولا ناصر، واعلم أنه لا ينفع عندها الندم ، فلقد سبق السيفُ العذل، وجاءت الصحوة متأخرة .
وهذا الذي يريد أن يكتب عن القدس والأسرى وسلوان وحي البستان وخليل الرحمن، وعن الأسوار والجدران والاستيطان ترعبه هذه الحقائق، وتذهله هذه الوقائع التي يشاهدها بأم العين في كل هذه الديار التي أخذت تضيق بمن فيها، بعد أن دار فيها الزمن دورته، وفعل بها فعلته.. حقائق كثيرة على الأرض تصفع بشدة كل من يحاول إمعان النظر في ملف القدس!! وكل من يحاول إمعان النظر في واقع حياة المقدسين، وسوء أحوالهم، وشديد معاناتهم، فكل شيء في القدس خاضع للمصادرة، ووضع اليد، وكل شيء في القدس خاضع لمخطط التهويد الذي يستهدف القدس كل القدس قديمها وجديدها وغربها وشرقها وشمالها وجنوبها.. وأنت حين تتحدث عن القدس، فإنما تتحدث عن مشروع يهودي كبير يلتهم مئات الكيلومترات المربعة من منطقة الجنوب، ويفصل هذه القدس الكبرى عن محيطها العربي فصلاً كاملاً في الجنوب والشمال والشرق، أما محيطها العربي من الغرب فقد وضعوا اليد عليه منذ عام ثمانية وأربعين، عندما وضعوا أيديهم على الشطر الغربي من هذه المدينة المقدسة.. القدس الكبرى معزولة عن محيطها العربي، والقدس الكبرى أيضًا تعزل ما تبقى من جنوب الضفة عن شمالها .. وأما معاناة أهل القدس فحدث ولا حرج.. إن المقدسيين مهددون منذ حرب حزيران بالاستيطان الذي أخذ يحاصرهم من كل جانب، وهم مهددون بالاستيطان داخل القدس القديمة والجديدة، وهم مهددون بالحفريات التي تستهدف المسجد الأقصى، وتستهدف سلوان حاضنة الأقصى المبارك، وتستهدف حي البستان الذي يعتزمون هدم مئات من بناياته، وإقامة مشاريع توراتية عليها يشكل قفزة نوعية على طريق تهويد المدينة المقدسة، وتهجير كثير من سكانها بعد أن قطّعوا أوصالها بالجدران والمعابر والبوابات والمستوطنات، وبعد أن وجهوا أشد الضربات لقطاع التعليم، وبعد ان فرضوا من الضرائب على أهلها ما تنوء بحمله الجبال، وبعد أن هدموا من بيوتها وأحيائها وزواياها ما هدموا ، وصادروا من أراضيها الزراعية وغير الزراعية ما صادروا!!.
أما الأسرى ، وأما الاعتقال الاداري والسياسي التعسفي القهري، وأما التعذيب الجسدي والنفسي، وأما ما يعانيه أهالي الأسرى وذووهم ومعارفهم، فإنه أكثر من ملف مؤلم ، ولقد آن لهذا الملف أن يغلق، آن لهذا الليل الطويا أن ينجلي، وآن لهذا القيد الثقيل أن ينكسر.. وآن لهذا الشعب العربي الفلسطيني أن يقرر مصيره، وأن يستعيد سائر حقوقه الثابتة في بلاده فلسطين، وبعد:
فإن على كل من يريد الكتابة في هذه القضية الفلسطينية، وفي تفصيلاتها وحيثياتها أن يتحلى بالحد الأقصى من الوعي واليقظة والشعور بالمسؤولية واحترام الذات والقناعات والانسجام مع النفس ، وأن لا يتراجع تحت وطأت اليأس أو الاحباط، أو تحت تأثير الضغوط أو الاغراءات، وغير ذلك من المكاسب والاعتبارات عن منظومة القيم والمبادئ والمعتقدات والحقوق الثابتة والثوابت، لأنه لا يكون بذلك قد خدم قضيته، بل هدمها، ولأنه لا يكون بذلك قد بنى سلامًا عادلاً دائمًا ثابتًا شريفًا متكافئ لا غالب فيه ولا مغلوب، وإنما أسس لصراع دام شرس مدمر رهيب قد يأتي على الأخضر واليابس في هذه الديار وفي غير هذه الديار.. وسلام على فلسطين.. سلام على القدس والخليل.. سلام على الأسرى، سلام على سلوان وحي البستان، سلام على شعبنا الصابر المرابط..سلام على أرواح الشهداء.. وتحية لكل أسرى الحرية.
التعليقات (1)
1 - رحمك الله يا أستاذي الغالي
فلسطين عربية - 2013-08-31 06:59:41
أراؤك وكلماتك وحكمتك الجلية ستظل حية نابضة فينا.... رحمك الله وجعل مثواك الجنة