د. محمد عاكف جمال
في ميادين العمل السياسي تختلط عادة أجندات كثيرة مع بعضها البعض، خاصة في أوقات الأزمات الشديدة. ففي أجواء العراق الساخنة يتبادر للذهن سؤال حول ما الذي سيجري من نتائج في حالة سحب الثقة عن رئيس الوزراء العراقي، سيما أنه ليس المسؤول الوحيد عن تدهور العملية السياسية، فهو يرأس حكومة تشترك فيها أطراف عديدة توافقت مع بعضها وتقاسمت المغانم بينها، واختلفت لاحقاً حول ما لم ينفذ من تلك التوافقات.
والحقيقة أن تساؤلاً كهذا في محله، فالمشروع الوطني الذي يتمحور حول بناء دولة عصرية ديمقراطية، تلبي حاجات الناس حاضرا وتطمئنهم على المستقبل، لا يخطر في بال السياسيين إلا حين يتبادلون التهم. في هذا السياق، هناك من يرى أن الدافع الرئيسي للصراعات الساخنة التي توشك أن تعصف بالعملية السياسية، هو مصالح ضيقة للكتل السياسية وقياداتها أو لمن تمثله هذه الكتل.
وجهة النظر هذه جديرة بالتوقف عندها، فهي في أطرها العامة لا تتنبأ بحصول تغيرات تستحق الذكر في حالة استبدال المالكي بغيره. ومع أن ذلك ليس بالأمر المستبعد، إلا أنه لا ينفي حقيقة أن هذه الصراعات تسلط الأضواء على عيوب العملية السياسية، وعلى نوايا الضالعين فيها.
فالتغير في معادلات التوازنات السياسية الذي ينذر بإقالة أكبر مسؤول في الدولة، يترتب عليه تسليط الضوء على مكامن الخلل التي أوصلت العملية السياسية إلى هذا المستوى من التأزم، سواء كان هذا هو الهدف من عملية التغيير أم لم يكن، فالمآل لذلك لا مفر منه. فما الذي أوصل الأوضاع السياسية في العراق إلى حافة الانهيار؟
في قراءاتنا لمسارات الأحداث منذ سقوط النظام السابق، وتعرفنا على أسلوب تشكيل خمس حكومات (من ضمنها حقبة مجلس الحكم)، وعلى هياكل الكتل السياسية وتاريخ قياداتها، نرى أن الأسباب الجوهرية التي أوصلت العملية السياسية إلى هذه الاختناقات، تكمن في الآتي:
1. خلل دستوري يسمح لرئيس الوزراء بالتسلط على مقاليد الأمور، بحكم حجم الصلاحيات الممنوحة له من جهة، وقلة أو ضعف ما هو متوافر من عقبات وضوابط تحد من ذلك من جهة أخرى.
2. ضعف المؤسسات الرئيسة القائمة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، و وجود ثغرات في الأطر القانونية التي صنعتها وسمحت بإشغالها على أسس الانتماء العرقي والمذهبي، وليس على وفق معايير الكفاءة.
3. تفاقم النفوذ الخارجي وتكريس التدخل في الشأن الداخلي على أعلى المستويات، لغرض تقزيم العراق وعدم السماح له باستعادة دوره الإقليمي المرموق. ويتخذ هذا التدخل أشكالا شتى، منها تقديم الدعم المالي والسياسي لهذه الكتلة السياسية أو تلك، على أسس القرب العرقي أو المذهبي.
4. غياب النوايا الإيجابية الحقيقية لبناء الدولة لدى معظم الكتل السياسية، فالعلاقات على مدى السنوات المنصرمة بين هذه الكتل، قد تميزت بالتوجس والتشكك، وليس لبعض هذه الكتل مواقف واضحة، أهي مع الحكومة أم مع المعارضة، فلديها قدم داخل الحكومة وأخرى خارجها، فهي مقسمة من الناحية العملية بين كونها جزءاً من العملية السياسية وجزءا من المعارضة في الوقت نفسه.
الكل ينادي بضرورة الإصلاح، إلا أن الكتل السياسية ليست لديها أجندة واضحة لذلك، والحقيقة أن هناك حزمة إجراءات لا مفر من اللجوء إليها لتلافي الانفراد بالسلطة، ولإصلاح البنية التحتية للعملية السياسية، فكل ما ينبثق عن ذلك يعتمد إلى حد بعيد على مدى جودة هذه البنية ومدى سلامة الأسس التي بنيت عليها، وذلك يتطلب قبل أي شيء آخر ما يلي:
إعادة النظر في مواد الدستور، وتعديل ما تبين أنه من غير الممكن الإبقاء عليه، بما في ذلك الصلاحيات الواسعة جدا التي منحت لرئيس الوزراء على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية.
إعادة النظر في فلسفة النظام البرلماني المعمول به، في ضوء تجربة السنوات المنصرمة، ودراسة حسنات النظام الرئاسي وإمكانية التوجه نحو الأخذ به.
إعادة النظر في قانون الانتخابات، بغية ضمان وصول من يتمتع بثقة الشعب إلى مبنى المجلس النيابي، من يحصل فعلا على الأصوات الانتخابية التي تؤهله لذلك، وليس من يحصل على بضع مئات من الأصوات أو من يتمتع بتزكية رئيس كتلته فحسب، كما هو الحال في المجلس النيابي الحالي، الذي لم يحصل على القاسم الانتخابي فيه سوى ثمانية عشر نائباً فقط، من مجموع ثلاثمئة وخمسة وعشرين عضواً.
تشريع قانون لتنظيم عمل الأحزاب، يسمح بالاطلاع على مصادر تمويلها وعلاقات قياداتها الخارجية، للحد من التدخل الخارجي في العملية السياسية.
وضع جميع الملفات التي لدى هيئة النزاهة الخاصة بالمشاركين في العملية السياسية على مدى السنوات المنصرمة، تحت تصرف وسائل الإعلام، فالجمهور من حقه أن يطلع على سلوكيات هؤلاء، خاصة أعضاء المجلس النيابي، قبل أن يعيد منح صوته لأي منهم.
لقد كشفت الأزمة السياسية الراهنة عن مدى البؤس في تفهم معاني الديمقراطية، وعن مدى الاستعداد لاحتقار تقاليدها على مستويات مختلفة، في مواقع المسؤولية أو خارجها، ولعل أبرز هذه المظاهر هو تهديد البعض باللجوء إلى خيار الفيدراليات في حالة سحب الثقة عن رئيس الوزراء، وهو ما ورد في البيان الذي أصدرته مجموعة من أعضاء مجالس المحافظات في وسط العراق وجنوبه، اجتمعوا في البصرة.
في ضوء ما تقدم، قد يكون من خطل الرأي تصور أن إقصاء المالكي سيحل الإشكالات الكثيرة في العملية السياسية. فطالما بقيت الألغام في مواقعها وطالما بقيت النوايا لإزالتها غائبة أو مغيبة، سيبقى الوضع غاية في عدم الاستقرار وعرضة للتفجر، ويبقى المتضرر الوحيد هو العراق وأهله. فما تجري مقاربته في هذه الصراعات، هو القشور وليس الجذور.
التعليقات (0)