في الطريق إلى الجَنَازَة . البَقيَّة في حَياتِي .!!
الكاتب: أكرم الصوراني
في الطريق إلى الجَنَازَة . البَقيَّة في حَياتِي .!! ".. مَنْ يَدري ، هذه ربَّما جنازتُك ، وربَّما جنازتـي ..!!"
على غَفلَة، وربَّما حتى دون أن أعرف، تَوَفّيت البارحة عن عمرٍ يُناهز . لا أتَذَكَّر ! الطبيعي في الأمر أنني حضرت الجنازة ، والغريب أنني لن أتمكن هذه المرَّة من البُكاء رغم أن رَهبَةَ موتي كانت شديدة لدرجه قررتُ بعدها مقاطعة زيارة بيوت العـزاء .! مُتأكدٌ أن والدتي بَكَت بطريقة جعلتني أعتقد أنها تُقَشّـرُ سَبعَ بصلاتٍ على روحي الطاهرة . أدركُ أن الانفعال ليس في صالحها ، خاصةً وأنها حُلـوَة ومضغوطة ، آمل أن تكون عَمِلَت بنصيحتي واحتفظت بحبة "كيت-كات" بدلاً من كيس الرُطب الذي تَكَالَبَ عليه النمل في الدرج الأيسر لتستخدمها عند اللزوم ، أو بعد انخفاض منسوب السُّكر في دمها لحظة انخفاضي دون مستوى سطح الأرض .! بالنسبة للوالد لا يريد أن يصدق ما جرى ، قبل الدفن بنصف ساعة ، كان يقترب كلّ خمس دقائق منّي ، يَشُمّني ، يصرخُ في وجهي ، منادياً اسمي في محاولةٍ أخيرة لإيقاظي ، كنتُ أسمعه جيداً ولا أَرُد !! ربَّما هذه المرَّة الوحيدة التي كُنتُ فيها خبيثاً دون قصـد .!! أحدهُم كان يصعد على بطني ويضحك ، تبيَّن لي لاحقاً أنه أحد أطفالي ، كان يعتقد أنني أُمازحه وهو لا يدري أن دوري في اللعبة قد انتهى ، هذه المَرَّة (جيـم أوفر) عَنْ جَـدْ .! أخي الكبير ، ربّما لن يكون أمامه متسعٌ للحزن إلا بعد بضعة ساعات ، أو لحظة استراقه نَفَس سيجارة أمام المسجد وهُمْ يُصَلّونَ عليَّ صلاة الوداع ، كان الله في عونه ، مشغولٌ بالترتيبات اللوجستية للدفن ، ومهاتفة صاحب محل تأجير الكراسي ، وتجهيز لوازم الغداء ، والتَّمر وفَتحَة القَبـر ، والى آخره ، وإلى الآخرة بالـدّور ..! شقيقتي الآن في مِحوَرِ نقاشٍ هادئ ، تُحَدّثُ فيه أقاربي والأصدقاء عن مناقب الفقيد ، وأنهُ كان يمزح كثيراً حتى بعد أن ماتَ تركَ لنا هذه الرسالة .! البعضُ يسأل عن زوجتي ، هي حتى هذه اللحظة في غرفة العناية المركَّزَة ، آمل أن يكفيها مصروف هذا الشهر ، وأن تكون قد اصطحبت معها دفتر التأمين الصحّي الذي كُنتُ أحرصُ دائماً وُضعَهُ في محفظة الهوية التي حرصت طوال حياتي على وضعها هي الأخرى في جيب مؤخرتي الأيمن .! قبل قليلٍ من الوفاة كُنتُ أستوعبُ أهمية ومعنى أن تَحملَ هويةً في وطنٍ مُحتل ، أما في بقيةِ وطنٍ مقسومٍ بالميم ، وبحماس ، وبفتح ، فكاف سين شين صاد ضاد ضاعت هويَّتـي .! المهم في اليوم الثالث لآخرتي كان النِّقاشُ أكثرَ سخونةً من صحن الرّز الذي يتناوله الحضور على روحي ، أحدهُم ممتعضٌ من عدم استواء اللحم ، وآخر يسأل بعد تعقيب " .. للأمانة الأكل فخم ، صحيح الرُّز مالح شويّ ، بس الجنازة مرتَّبه .. الله يرحمه ، من أي مطعم جايبين الأكل .!" طبيعي جداً ، شخصياً كنت عند تناولي طعام عزاء أحدهم أُحَدِّث نفسي "بس لو إنهم جايبين كولا إسرائيلي كان الواحد هَضَّـم .!" . ما جرى في جنازتي كان أقل من عادي ، وأكثر من طبيعي . لم يَرفَع أيّ تنظيمٍ عَلَمَهُ الحزبيّ ، ربَّما لأنّي كُنتُ كَفَرتُ بهم قبل الوفاة ، أو ربّما لأنني فَضَّلتُ في وصيَّتي رَفعَ رايةٍ سوداء بدلاً من عَلَمْ الانفصـال .! وكنتُ طلبتُ في الوصيَّة وَضعَ النشيد الوطني في بيت العزاء حتى يظلّ الحضور في وضعيةِ القيام والوقوف على أوسخ مرحلة من مراحل التحرُّش الوطني .! البقيَّـة في حَياتِكُـمْ ..!!
التعليقات (0)