خلق الله الناس بألوان متعددة, وطبائع مختلفة, وقدرات عقلية وجسدية متفاوتة, وأذواق متمايزة ــ وهو ما يتفق عليه المؤمنون, وغير المؤمنين, وأنصار الطبيعة ..ــ وشعّبت الحياة هذا التباين وأخصبته. وأراد الإنسان أن يعيش اختلافه هذا, فحاول, دون أن يلغي ذاته, أو ذات الأخر, البحث عن نقاط التشابه معه, وبنى عليها علاقات تعاون, تضمن له ولغيره من مكونات المجتمع, ليس فقط إرادة و إمكانية العيش المشترك وإنما كذلك ديمومته, بتنسيق وحوار ضمن التعددية والاختلاف. وفي كل المرات ـ على قلتها ـ التي تستقر فيها هذه الروحية وتصبح واقعا, تستقر الحياة, ويزدهر الإنسان كفرد يطور المجتمع ويتطور هو نفسه بتطوره, ويسود السلم الأهلي والصفاء. وفي كل المرات ــ على كثرتها ــ التي يتم فيها رفض الآخر ومحاولة إلغاء مميزاته, وخصائصه, وحقوقه ومكتسباته المادية والمعنوية, وإخضاعه بالقوة لمفاهيم ومعتقدات دينية أو سياسية أو اجتماعية لا يؤمن بها, يضطرب السلم وتقوم الفتن, لتصل أحيانا إلى حروب أهلية, داخل هذا المجتمع المتكون في دولة. ويضمحل الإنسان بشتى جوانبه, مما يؤثر ليس فقط على تماسك المجتمع المنكوب, وإنما كذلك على إعادة العلاقة الجدلية الصحيحة مستقبلا بين الفرد ومجتمعه.
وهذا نفسه ينطبق على المجتمعات المتكونة في دول, في علاقاتها الدولية. ففي كل مرة يتم التنكر لحقوق الآخرين, والاعتداء عليها, والتوسع على حسابها, تتوتر العلاقات وتقوم الحروب, ومثاله الحروب الدينية, والطائفية, والحروب العنصرية, والطبقية والحروب الاستعمارية التي قامت على إرادة التوسع للسيطرة على ثروات الآخرين, ومصادرهم الطبيعية, وفرض أنظمتها السياسية ومفاهيمها الاجتماعية والاقتصادية, وصولا إلى حربين عالميتين مازال العالم يعاني من أثارهما, لما أحدثتاه من تقسيم للعالم, ومشاكل حدود, وأقليات, وربط المستعمر بالمستعمر بروابط تقوم على الهيمنة والتبعية,امتل حدوولاقي والانساني عن السياسي والواقعية السياسية.
فيها من مآس.يمنة وصولا الى حربين عالميتين مازال العال.
وان كان لا بد من أمثلة على ما خلفته تلك الحروب, نسوق أشدها مأساوية, وأقساها على الإطلاق. فلسطين. حيث غُيرت الجغرافيا, وزور التاريخ, وتم العبث بالمكون السكاني: إلغاء شعب متجانس, كامل, آمن ومستقر, وإحلال آخر محله, غير كامل أو متكامل, أو متجانس, وما ترتب عليه من مآسي, ممتدة ومستمرة دون انقطاع ــ قتل, وملاحقة, وسجون, تطال الرجال والنساء والشيوخ والأطفال. وتشريد وحصار, وإفقار, وإشعال فتن بين أصحاب القضية الواحدة, وتحت سمع وبصر العالم بأسره , بأنظمته المختلفة, الشمولي والديمقراطي, المتآمر, والمتباكي, لغياب الحق و العدل والعدالة, بما فيه بكاء أولاد العمومة, أصحاب الهوية الواحدة, واللغة المزدوجة, رغم وحدة قواعدها ــ منذ عام 1948 والى اليوم, ودون آفاق حلول جدية. وحتى دون قبول المعتدي, المستأصل غيره, بحوار جدي مع ضحاياه.
ومع أن موضوع مقالتنا الحالية متعلق بالنظام الشمولي, لا يمكن المرور دون التذكير أن في أساس نشأة, وتعقيدات, واستمرار المأساة الفلسطينية, كانت, ومازالت, أنظمة ديمقراطية, تحاول فصل الأخلاقي, والإنساني, والقيمي, عن السياسي والواقعية السياسية !!!. ولا يمكن كذلك المرور دون التنبيه إلى أن الركون لأنظمة لمجرد رفعها, شكلا, الديمقراطية هو إغماض للعيون عن خفايا تغطيها واجهات خادعة, تموه شمولية. فالشكل يبقى شكلا إن لم تغنه الروح الديمقراطية وقيمها وتتأصل وتتجذر في واقعها.
ولأن المنتصر وحده يكتب التاريخ, فقد كتبه كما أراد, ورسمه بالإرادة المنفردة. وأخرجه بما لا يزعج ضميره, في حالة وجود ضمير, وباتجاه يعتقد فيه تأبيد مصالحه وقيمه.
الشمولية, موضع المقالة الحالية, ليست ابتكارا حديثا. فمنذ العصور القديمة في اليونان وروما, كانت الحاضرة Cité غير منفصلة عن آلهتها. ( Maurice Duverger, Les Oranges du Lac Balaton ). وفي القرون الوسطى كان التنافس بين البابا والإمبراطور, بين سلطة الكنيسة والسلطة العلمانية , يخفف من حدة الشمولية. وكانت الحرية الشخصية " تتبع الدولة العلمانية خطوة خطوة ". وكان اتحاد السياسة بالدين يقود إلى الأنظمة الشمولية. (ديفرجيه المرجع السابق).
أما في القرن العشرين فقد اتخذت الشمولية صيغا جديدة, ساعد في بنائها ما حمله التقدم التكنولوجي من وسائل استخدمتها الأنظمة الشمولية ببناء قاعدة حكم متينة تستند عليها, وتخضع المجتمعات بأكملها للرقابة والتحكم والسيطرة.
ما هو النظام الشمولي؟ هل من طبيعته, أو بإمكانه, التعايش مع الاختلاف والتنوع, والتعددية بأشكالها المشار إليها أعلاه؟ وهل يحترم إرادة العيش المشترك, المبنية على الاختيار الحر للنظام السياسي, والتعددية الحزبية والحوار, وبناء جمعيات المجتمع المدني ؟ وهل يتورع عن تصدير رؤيته, وأزماته لخارج حدوده؟.
كلمة الشمولية ظهرت أولا في ايطاليا " totalitario " أي " totalitaire " بالفرنسية, عام 1923 وانتشر استعمالها, بمعنى سلبي, تحقير وذم, قبل أن يعطيها منظرو الفاشية عام 1925 معان ايجابية, فأُشيد بموسليني لقوة إرادته الشمولية. وكتب جيفواني جانتيل Givoinni Gentile منظر الفاشية "الليبرالية تضع الدولة في خدمة الفرد, الفاشية تقيم الدولة كالحقيقة بالنسبة للفرد. إذا كان من الواجب أن تكون الحرية خاصية الإنسان الفعلي, وليس الشكلي المجرد كما تراها الليبرالية الفردية, فان الفاشية مع تلك الحرية. هي فقط مع حرية يمكنها أن تصبح جدية, مع حرية الدولة وحرية الفرد في الدولة. وهذا لأن بالنسبة للفاشي كل شيء في الدولة, ولا يوجد شيء إنساني أو روحاني , أي شيء ذو قيمة, موجود خارج الدولة. بهذا المعنى يكون الفاشي شمولي. والدولة الفاشية تلخص وتوحد كل القيم التي تفسر و تطور وتعطي قوة الحياة بكاملها للشعب "(مشار أليه من قبل Enzo Traverso, le Totalitarisme, p.21 )
و ككلمة, ليس للشمولية نفس الدلالات عند كل الذين يستعملونها. فهي " تدل في وقت واحد على وقائع faits (النظام الشمولي كحقيقة تاريخية). وعلى مفهوم concept (الدولة الشمولية كصيغة سلطة جديدة وغير قابلة للتصنيف ضمن النماذج من قبل الفكر السياسي الكلاسيكي). ونظرية théorie (نموذج هيمنة مضافة من قبل التحليل المقارن للأنظمة الشمولية).( Enzo Traverso Totalitarisme le).
اسُتعملت الكلمة نفسها في بريطانيا, للمرة الأولى عام 1929 , لوصف الفاشية والنازية معا. وفي ألمانيا كتب ارنست جينجر Ernst Jünger بان الحرب والتكنولوجيا الحديثة مُبشرة بنظام جديد مجسد بظهور العامل / الجندي, الذي يقوم بمهامه ضمن مجتمع بإطار ونظام كالنظام العسكري. ويرى أن الحرب العالمية الأولى شهدت تحولا تاريخيا نحو هذه الصيغة الحضارية الجديدة: للمرة الأولى في تاريخ أوروبا تمت تعبئة القوى البشرية والمادية بشموليتها لتأمين المجهود الحربي للمعركة.
من التعاريف المتعلقة بالشمولية يرد ما يلي:
ـ الشمولية طريقة حكم, نظام سياسي يمسك فيه حزب واحد السلطة بكاملها, و لا يسمح بأية معارضة, فارضا جمع المواطنين وتكتيلهم في كتلة واحدة في الدولة وخلفها.
ـ الشمولية طريقة عمل الدولة, التي تقوم, زيادة على إدارة الحياة السياسية, بإدارة الحياة الخاصة للأفراد.
ـ الشمولية صيغة استبداد ظهرت في القرن العشرين. وهي متحدرة من الفاشية. ففي الدولة الشمولية لا يوجد الفرد ولا يعرف إلا من خلال علاقته بالمجموع " الشعب" أو " الأمة". وتصبح الدولة مطلقة وموضوع عبادة حقيقية. ويتم عسكرتها لتأمين الإرهاب والتمكن من الهيمنة على الأفراد.
وقد بلور مفهوم الشمولية الصيغ الجديدة للطغيان. وبشكل خاص العنف الذي يمارس على كل من هو خارج هذه المفاهيم. وهو غير منفصل عن النازية. وفي عام 1939 بدأ الكتاب يبحثون عن الصلة بين الإيديولوجية الفاشستية وبين الشيوعية السوفيتية, بحجة إنهما, معا, يتسببان في اضطراب السلم والاعتداء على الحريات. وهذا ما كان يستنكره بشدة الكتاب الشيوعيون ويحاولون دحضه.
في الخمسينات طُرح مفهوم الشمولية كنموذج, مقابل نماذج أخرى مثل الديمقراطيات الدستورية, أو النماذج التسلطية المحافظة. فالدولة الشمولية, كما يقرر كتاب تلك المرحلة, تقود " ثورة دائمة", في حين أن الأنظمة التسلطية التقليدية كانت بشكل عام محافظة. وحسب Neumann الطابع الرئيسي للأنظمة الشمولية هو مأسسة الثورة (تنظيمها بمؤسسات Institutionnaliser la révolution ) في محاولة لتأمين إدامة هذه الأنظمة.
ويطرح Raymond Aron السؤال الذي يجيب عليه بنفسه , في أي شيء تكمن ظاهرة الشمولية ؟
" إنها كما يبدو لي ظاهرة كبقية الظواهر الاجتماعية, تقع تحت تعاريف عديدة, حسب الزاوية التي ينظر منها الملاحظ . وعناصرها الأساسية خمسة هي:
1ـ الظاهرة الشمولية تأتي في نظام يعطي حزبا واحدا احتكار النشاط السياسي بكامله .
2 ـ يقوم الحزب المحتكر على إيديولوجية يتسلح بها, وتقود فعالياته. ويمنحها سلطة مطلقة. وتصبح بالتالي الحقيقة الرسمية للدولة.
3ـ لنشر هذه الحقيقة الرسمية تقوم الدولة بنفسها باحتكار مزدوج لوسائل القوة, ووسائل القمع. و تضع تحت إدارتها وتوجيهها مجموعة وسائل الاتصالات, من صحافة, وإذاعة وتلفيزيون, وغيرها من الوسائل.
4ـ تخضع النشاطات الاقتصادية والمهنية للدولة, وتصبح جزءا منها, وبما أن الدولة غير قابلة للفصل عن إيديولوجيتها, فان غالبية النشاطات الاقتصادية والمهنية تطبع بالطابع الرسمي.
5ـ وعندها تصبح الدولة منظمة الأنشطة وخالقها. ويصبح كل نشاط خاضع للإيديولوجية الرسمية. وكل خطيئة ترتكب في نشاط اقتصادي, أو مهني, يعتبر خطا إيديولوجيا . ( Raymond Aron, Démocratie et totalitarisme, folio essais ).
أما موريس ديفرجيه فقد انتقد بشدة الكتاب في الشمولية, وبشكل خاص, حنا اراندت Hannah Rrendt لأنهم لم يعيروا أهمية تذكر للفوارق بين الشمولية في تجسدها الكامل في ألمانيا النازية, والأقل كمالا في ايطاليا الفاشية, وبين الشمولية في تجسداتها الشيوعية. فالأنظمة النازية والفاشية قامت على نظرة عدم المساواة بين الأعراق, وبين الأفراد, وعلى ضرورة إقامة ديكتاتورية دائمة. أما الشمولية الشيوعية فتؤكد على المساواة بين البشر, والثقة بإمكانيات ازدهارهم عند تحررهم من الرأسمالية, وبان ديكتاتورية البروليتاريا انتقالية, تهدف لبناء قواعد الديمقراطية المستقبلية.
كما أشار Carl Friedrich إلى 5 صفات أساسية تميز النظام الشمولي : حزب وحيد يراقب جهاز الدولة, يديره رئيس ذو كاريزما خاصة. إيديولوجية دولة تحتوي على أبعاد خارج حدودية وأممية. جهاز بوليسي يعمد للإرهاب. إدارة مركزية للاقتصاد. احتكار وسائل الاتصال الجماهيرية.
يضاف إلى ذلك, كما يرى, الممارسات العملية اليومية المنظمة والدائمة, الحاملة للتسلط والاستبداد مثل: الاستيلاء على العملية التربوية, وإقامتها على قاعدة الإيديولوجية الرسمية. وضع شبكة من الرقابة على الأفراد حاضرة دائما وشديدة الفاعلية. تسخير التكنولوجيا الحديثة للسيطرة الكاملة الشاملة على كل نواحي حياة المواطنين. تنظيم السكان بشكل يُسهل إخضاعهم عقليا و جسديا, مستخدمة الأدلجة كوسيلة ناجعة endoctrinement لغسل الأدمغة..
وحسب كلود بولين Claud Polin تسمح الإيديولوجيات الشمولية " بوضع العقول في حالة عبودية, وتعيقها في منبعها الحي عن كل تمرد, ملغية فيها حتى إمكانية تبلور النية في ذلك".
أما Emilio Gentile فيرى أن " من عبارة الشمولية يُفهم: تجربة هيمنة سياسية تقودها حركة ثورية مكونة في حزب عسكري التنظيم, يستجيب لمفهوم سياسي أصولي. يهدف لاحتكار السلطة, ويعمل بعد استلامها, بطرق غير شرعية, لهدم النظام السابق عليه أو إعادة صياغته, ويقيم دولة جديدة, مؤسسة على الحزب الواحد. وتقوم هذه الدولة الجديدة بالسطو على المجتمع, لإخضاعه أو إدماجه أو مجانسة
Homogénéisation المحكومين, على قاعدة سياسة شمولية الوجود, تطال الأفراد و المجموعات, حسب الإيديولوجية المبنية بصيغة دين سياسي. والهدف إعادة تكوين الإنسان, وخلقه خلقا جديدا, روحا وجسدا, لتحقيق أهداف الحزب والتكيف معها".
أدخلت الإيديولوجية الشمولية خليطا من المفاهيم والقيم يجمع أساطير و أوهام وتمنيات. مثل المجال الحيوي, وإرادة القوة, و الفتح, و التوسع العسكري, والأمن المحكم, لتصبح في السياسة الرسمية للدولة الشمولية.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن بعض المعادين, عن حق, للنظم الشمولية المتضمنة النازية والفاشية, والمرحلة الستالينية, في النظام السوفيتي, يبرز جانبا معينا من جرائم تلك الأنظمة, فيسلط الضوء على ما ارتكبته ضد اليهود, دون غيرهم, من استئصال واضطهاد وقمع. في حين ان الموضعية والعلمية في النقد والتحليل والتأريخ تقتضي إبراز , وبالقدر نفسه من الأهمية , ما عانته, وتعانيه الشعوب التي ابتليت بنازييها وفاشييها القدم, وشموليها الجدد, من استئصال وقمع واضطهاد, لا يقل عما تعرض له اليهود. مما يوحي وكأن هذا البعض يبرر الاستئصال والاضطهاد, والمآسي الدائمة, إذا ما ارتكبتها أنظمة توصف بأنها غير شمولية, أو بأنها ديمقراطية, على شعوب غير غربية أو يهودية.
ولعل فيما كتبه هايس كارلتون Carlton H. Hayes وهانس كوهين Hans Kohn في تحليل للفلسفة الشمولية على أنها " تمرد ضد الحضارة التاريخية الغربية في مجموعها" و " ضد الحداثة والتوازن في عهد الإغريق. ضد النظام والشرعية في روما القديمة, ضد القوانين والعدالة عند الأنبياء اليهود , ضد المسيحية, والرحمة والتسامح والسلام عند المسيح, ضد كل الإرث الثقافي الواسع للكنيسة المسيحية في العصور الوسطى, ضد عصر التنوير والعقل في القرن 18 . ضد الديمقراطية الليبرالية في القرن 19, لقد نسفت كل هذه العناصر البناءة لحضارتنا التاريخية وقادت كفاحا معنويا ضد كل ما يثقف الذاكرة" (مشار إليه في الشمولية المرجع السابق ص. 35 ).
اللجوء ـ التحريضي ـ للتاريخ الإنساني لوصف الشمولية ــ مع إغفال مقصود لتاريخ وحضارات شعوب أخرى إسلامية وأسيوية وافريقية ــ كما أورده الكاتب, ليس في رأينا تحليلا موضوعيا لها, بقدر ما هو تحريض عاطفي مقصود, واستدرار مقنع للعطف على فئات بعينها, للأسباب بعينها. علما بان التاريخ الذي ذكره ليس كله وردي, ودون خطايا, ودون فترات ظلام حالك, عرف ممارسات تعادل, ان لم تكن تفق, وحشية المراحل الفاشية والنازية, من حيث النوع, وان قلت عنها من حيث الكم, لعدم توفر ما توفر لشمولي القرن العشرين من وسائل التكنولوجيا, وأسلحة الدمار الشامل.
كما أن الشمولية نفسها لم تأت من فراغ, فهي بنت الواقع, ووريثة ممارسات عرفها التاريخ المشار إليه, مترسبة في العقول وكامنة في الأفكار المتطرفة, والنظرات الفوقية العنصرية, ويمكنها الظهورإذا ما الفرص سنحت.
وعليه, كنا نأمل أن يحلل مثل هؤلاء المفكرين ظاهرة الشمولية, والأنظمة الشمولية, من منطلق متجرد عن كل خلفية فكرية فئوية ,ليصار لمواجهتها كعقيدة ونظام, و برامج سياسية, بالتصدي لكل ما يقود إليها, في كل زمان و مكان من عالمنا, وبروح إنسانية.
فهل خصص, على سبيل المثال, علماء الاجتماع, والسياسة, والقانون, والأخلاق, والفلسفة, ورجال الدين الغربيون, بعض جهدهم, حتى لا نقول بعض المؤلفات, لدراسة وتحليل ــ بموضعية ومسؤولية وأخلاقية تقتضيها مستلزمات العيش المشترك في عالم أصبحت أحداثه مترابطة, ويؤثر بعضها ببعض, أينما كان مكان الحدث في هذا الكون الصغير ــ ما تعرض و يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ عقود؟. أم أنها مباحة الجرائم المرتكبة باسم الديمقراطية والواقعة على غير ديمقراطيين؟
وهل خص هؤلاء بالدراسة والتحليل الدور" الديمقراطي" الداعم للأنظمة الشمولية ــ من قبل زعماء ديمقراطيين في دول ديمقراطية ــ في اغتصابها للسلطة وممارساتها القمعية ضد شعوبها وبأدوات مستوردة, بأثمان باهظة, من دول ديمقراطية؟ الا يتعارض هذا مع التاريخ الذي يذكّر بعضهم به؟ أم أن الأمر متعلق بعالم أخر ــ لم يعد ثالثا, بانتظار إعادة الترتيب والتصنيف في عصر القطب الواحد والعولمة ـ يعيش في دول غير ديمقراطية, وبحضارات غير غربية؟
ليس في شكل النظام الديمقراطي الاعتداد, وإنما في مدى تمثل القيم الديمقراطية الحقيقية, وإعلائها على كل الاعتبارات. وانه دون دمقرطة démocratisation فعلية للعلاقات الدولية يصح الحديث عن مجتمع دولي, ورؤية دولية فعلية حديثا تضليليا, ويبقى القول قول بوش, والرؤية رؤيته, ورؤية غيره من المنصبين أنفسهم زورا ناطقين ومقررين باسم هذا المجتمع, دون تكليف أو تفويض. أليس في بقاء الحال على حاله, تجسيد واستمرارية للشمولية المطلقة في العلاقات الدولية؟
وفي المجال الداخلي في المنطقة العربية, كان للتطورات التي أعقبت انهيار الدول الاشتراكية, و اضمحلال دور الإيديولوجية في أواخر القرن العشرين ــ بسقوط الأنظمة التي كانت تقيم الدولة بأكملها على الايدىلوجبة ــ أثره الكبير على الإيديولوجيات الضحلة, القادمة استيرادا, أو المصنعة محليا للمنافسة, فمسخت من "إيديولوجيات" إلى مجرد شعارات, تتغير بتغير المراحل والمواقف الداخلية والخارجية.
و في ترتيب الشمولية الداخلية, حيث قصب السبق دوما لنا, طور الشموليون أنفسهم بتطور العصر ومعطياته. فأصبحت الديمقراطية واجهة مطلوبة, وأكثرا لمعانا منها في دول الديمقراطيات الغربية. وأصبحت كلمة الشمولية, أو النظام الشمولي, إهانة يلاحق عليها المتلفظ بها. فأقيمت برلمانات, أو مجالس شعب, أو لجان شعبية. أو مجالس نيابية ـ ويُفكر البعض بمجالس شيوخ, غير قبلية ـ ومع اختلاف التسميات لا تختلف الأدوار الموكولة إليها, وان تفاوتت المزايا المادية لأعضائها. مع عدم نسيان فصل السلطات واستقلال القضاء ونزاهة العدالة التي لا يعيبها تدخل أصحاب النفوذ, أو رجال الأمن في اختصاصاتها. ما دام الهدف واحد والمصلحة واحدة, وشاملة.
فالدولة الشمولية المعاصرة عندنا ولأنها شمولية بجدارة:
ـ فيها مهرجانات انتخابية وإعراس نصر, واستفتاءات , وتسابق على صناديق الاقتراع يصل إلى درجة الاقتتال, وتصل عدد الأصوات المحصل عليها إلى أرقام اعلي بكثير من المدلى بها, قبل إعادة الحسابات التعديلية, لتتطابق مع النسب التي تليق بالفوز غير الاعتيادي للمرشح غير الاعتيادي.
ـ وفيها مسيرات شعبية "مليونية" قوامها حملة صور وأعلام, وشعارات تختزل في كل مسيرة لتصبح تمجيدا بالحاكم وحده, ترددها بتنسيق موسيقي مئات آلاف الحناجر على وقع تصفيق تعبيري عربي الابتكار, وطني المنشأ.
ـ وفيها رقابة ذاتية ــ وهي أعلي درجات الرقابة على الإطلاق ــ وصل لها المواطن بعد تجربة طويلة ومريرة. فوضع لنفسه, بنفسه, خطوطا حمراء, حتى في مناطق مقبولة فيها الخطوط الصفراء. أما الخضراء فقد غيبها عمى الألوان ولم تعد بمجال رؤى الإنسان العادي.
ـ وفيها يقيم الآباء من أنفسهم معلمين وقيمين ورقباء على أبنائهم, في توجيهم لمستقبلهم الذي قد يكون مضمونا في حالة الطاعة والقبول, والإيمان بكل ما يقال لهم في الإعلام, وحتى في المسلسلات, ونسيان ما اسمه رفض أو احتجاج , وعدم التدخل في الشأن العام, إلا إذا أُمروا بذلك وبمقدار الأمر, أو في السياسة الهدامة المعارضة, غير الواعية, المرتبطة, والضارة. فلهم في السياسة الرسمية التي تعودها آباؤهم, وتثقفوا بها وعليها, ما يغنيهم عما عداها من أفكار. أليس على الصغار طاعة الآباء الكبار واتخاذهم نماذخ تحتذي؟ أليس التحنيط علم من مبتكرات منطقتنا ؟
ـ وفيها إعلام فريد في إعلامه, ووحيد في عالم اليوم, كما, وحجما, وشكلا, وأسلوبا, ومضمونا, لا يقع في المطبات, ولا في التناقضات, ولا يكثر من المعلومات, ولا يسابق في الوصول إليها, و لا يبادر, ولا يحلل و لا يركب ولا يعلق, ولا يلزم ما لا لزوم له, فالمصدر واحد, والرقيب واحد, والتنسيق واحد, والهدف واحد.
ــ وفيها كل شيء بترخيص : التجارة, والزراعة, والتوظيف, والعمل, والأفراح, والأتراح, والدخول للبلد والخروج منه, والدعوات, والندوات والمحاضرات, ودخول الجامعات, والخروج في بعثات, وكتابة المقالات, وحتى رؤية الانترنت التي يُصدر الناشط من مواقعها مقالا أو مقالين شهريا وبترخيص.
ـ وفيها يقف المواطن أمام الموظف, مها كانت درجته, بنوع من الانحناء غير مسبوق, قد يجنبه عبء الرجوع مرات ومرات للحصول على معاملته, أو تخفيف قيمة ما هو غير مسعّر من الرشاوى.
ـ وفيها يدخل الفساد دائرة الشرعية ويصبح غير ملاحق قضائيا, إلا في حالات قد تضر بأمور حساسة, أو مصالح بين منتفعين متنفذين.
ـ وفيها تصبح إهانة المواطن وإذلاله مبرمجة و مقصودة, والاعتداء على قيمه التي تتعارض مع قيم الأنظمة الشمولية, ممارسة يومية.
ـ وفيها الحريات غريبة وأجنبية. وضروريها يمر بقنوات رسمية.
ـ وفيها ما لم يكن يتصوره آباؤنا وأجدادنا ممن دفعوا دما ثمن الاستقلال.
ـ وفيها خوف شديد على أبنائنا أحفادنا.
ـ وفيها يصبح المواطن مشروع مهاجر يفكر بوطن بديل مصونة فيه حقوق المواطنية.
وفيها يقول الزعيم فتصفق وتذعن الرعية.
ـ وفيها تتماهى الأقلية والأكثرية.
أليست هي الشمولية بصيغتها العربية؟
د, هايل نصر.
التعليقات (0)