في كل مرة تلم بالوطن العربي مأساة, وما أكثر تواترها, تلجأ وسائل الإعلام العربية, والمحطات الفضائية بشكل خاص, على عجل للباحثين والمحللين السياسيين, وما أكثر عددهم (مئات). وتخصص لهم الساعات الطويلة, فنرى الحدث الواحد (يحلل) ويفسر للمشاهد بأشكال متناقضة و متعددة بعدد هؤلاء المدعوين للتحليل, وبعدد انتماءاتهم السياسية التي تفرض رؤى مسبقة وأجوبة جاهزة, مراعين في كل ذلك توجهات كل من تلك المحطات الداعية لهم لهذه المهمة. قد تفوت (المحلل) تفاصيل الحدث, رغم وضوحها, ولكن لا تفوته مطلقا ما توحيه نظرة المضيف أو المضيفة, أو المستدعي أو المستدعية أحيانا, أو إشارة يده أو يدها, فيعمد فورا لتحويل التحليل في هذا الاتجاه أو ذاك, إذا ما بدا له انه, و عن غير قصد, خرج أو كاد يخرج عن المتفق عليه قبل الخروج على الهواء. كما يلجأ المضيف نفسه, أو المضيفة, لطرح القضية المطلوب تحليلها بإسهاب يستغرق نصف الوقت المخصص لها و المعد بدقة!!, يعمد, أو تعمد, بعدها طوعا للإجابة عنها تاركا أو تاركة للضيف الموافقة, المهذبة, والتأكيد على ما يسمعه, بعبارات, أو إيماءات, لا تخرج بطبيعة الحال عما يقرره المضيف ـ الرقيب.
لا بأس في ذلك فلكل مدعو قول ما يراه, أو ما رئي له, واستنتاج ما يريده, أو ما استنتج له. ولكن التواضع (العلمي) يقتضي أن لا يدّعي هذا الكل معرفة فن وأصول التحليل السياسي والإبداع فيه. فأول ما يقتضيه هذا العمل هو العلم بالسياسة, وليس "الحرتقات" السياسية. واللجوء إلى أساليب ما توصل إليه الباحثون والمحللون في مجالها, والحياد, أو على الأقل ادعاؤه, والموضوعية, في تحليل إحداثها.
ولكن ما هي السياسة؟. هل هي " مملكة المشاعر النبيلة؟ بالتأكيد لا. هل هي مملكة المهارات وفن الخداع؟ ليست كذلك. هل هي منطقة نفوذ القوة؟ بالتأكيد. هل هي مملكة القانون؟ ممكن." هكذا تساءل جوليان فرند Julien Freund وأجاب على أسئلته بنفسه, في كتابه ما هي السياسة ( Editions Sirey, Point politique 1963).
ومن المفيد الإشارة هنا انه لا توجد في اللغة العربية إلا كلمة واحدة "السياسة" في هذا المجال للتعبير عن حقائق متعددة المعاني. في حين أننا نجد في اللغة الإنكليزية كلمتين متميزتين policy و politices تحمل كل منهما المعنى المقصود بدقة . وكما هو الحال في اللغة العربية, لا توجد في اللغة الفرنسية إلا كلمة واحدة politique, يجري استعمالها بصيغة المذكر وبصيغة المؤنث. Le politique و la politique فكلمة سياسة مستعملة بصيغة المذكر تحيل إلى فكرة النظام الضروري الذي يسمح للناس جميعا, بالعيش المشترك في دولة معينة. وتعرف المجال الاجتماعي الذي اختار الأفراد إخضاع تناقض مصالحهم لسلطة تملك احتكار الزجر القانوني. ( Weber, économie et société, 1922 ). و الكلمة نفسها, السياسة, بصيغة المؤنث, تحيل إلى فعاليات معينة, ونشاطات يومية. كان تحيل إلى إدارة قطاع ما, السياسة الزراعية, السياسة التعليمية, أو سياسة حزب, أو إلى مناورات السياسيين, أو سياسة رئيس الحكومة الخ ..والسياسة بهذه الصيغة تتحد بفن الحكم وطرق تنظيم المجتمعات البشرية.
الاهتمام الشديد بفهم الموضوع السياسي ليس حديثا. ففي العصور القديمة و منذ المدرسة السفسطائية, وأفلاطون وأرسطو.. وضع المفكرون القدماء السياسة في مركز اهتمامهم. حيث عرف أرسطو( 348 ـ322 قبل الميلاد) الإنسان بأنه حيوان سياسي. وبأنه بطبيعية منذور voué للحياة الاجتماعية. ليس فقط للعيش وإنما ليحيا حياة الفضيلة. أي انه افترض من حيث المبدأ أن الحياة السياسية هي حياة السعادة. فكتب " يبدو أن الحاضرة (Cité ) , الدولة حديثا, هي جزء من الأشياء الطبيعية وان الإنسان بطبيعته حيوان سياسي" فإذا كانت ا لحياة السياسية موجودة بفعل الطبيعة.فان هذا يستوجب استبعاد اعتبارها كنتيجة لاتفاق أو لفن. فالسياسة ليست ضمن نظام التقليد ولم تنشا عن فن. فمن حيث الأصل لم تنشأ الحاضرة أو الجماعة اعتباطا وإنما كانت ضرورة. وهذا ما يعني سياسيا السؤال عن طبيعة النظام الافضل meilleur régime . ويعتبر أن فضيلة العدالة سياسية كاملة. تبقي الناس معا أحرارا في الجماعة السياسة, حاملة لكل منهم ما هو متوجب له. فالعدل أساس كل الحقوق. ويعتبر أن القوانين الجيدة هي التي تستند على ملاحظة ودراسة الطبيعة. وتتلاءم مع الحقائق التاريخية. فقد وضع أرسطو السياسة في المرتبة العليا, وكان يبحث عن مواصفات الحكومة العادلة التي تستطيع تأمين سعادة المواطنين. وعمل أفلاطون على إضفاء الصبغة الأخلاقية على الحياة السياسية في حين أن أرسطو ميز بين الحق الطبيعي والواجب.
ويعتبر سيسرون (106ـ43 قبل الميلاد Cicéron , أن " الحق هو الوحيد الذي يمتن العلاقات في المجتمع. والقانون هو الوحيد الذي ينشئه : هذا القانون الذي يرتب بصواب دقيق الالتزامات والمحظورات, سواء أكان مكتوبا أم لا, هو عادل, والذي يتنكر لذلك غير عادل..وإذا كان الحق لا يستند على الطبيعة فان كل الفضائل تختفي. (Lois, I, 15. Appuhn, Garnier-Flammarion, Paris 1965. ).و يرى أن الحياة الاجتماعية تفترض وجود التزامات وعقوبات لا يمكن لأحد الالتفاف عليها. فكون الإنسان عضو في المجتمع يعني خضوعه للقواعد: واجب العدل يكمن في الخضوع لما هو موجود, أي للقوانين القائمة. فالمجتمع بنفسه هو قانون. والقانون الطبيعي هو قانون العقل. ويعرّف الشيء العام بأنه هو التابع للشعب. والشعب كما يراه هو مجموعة من أشخاص يرتبط بعضهم ببعض بانتسابهم إلى نفس القانون" ويرى أن القانون الطبيعي ليس إلا قانون إنساني. والواقع أن محاولات العديد من المؤلفين لبناء القانون السياسي الحديث تدين بالفضل لسيسرون مؤلف كتاب القوانين. فقد وجد أصحاب النهج التعاقدي: قانوني ـ سياسي, في أفكار سيسرون المطروحة في "الطبيعة الإنسانية nature humaine " مصدرهم الأساسي.
نشأة علم السياسة.
يعتبر العديد من المؤلفين أن بداية النشأة الفعلية كانت في القرن السادس عشر, مع فصل علم الأخلاق عن السياسة, وانتشار أفكار نيقولا ميكافيلي Machiavel Nicolas(1464 ـ 1527), مؤلف كتاب الأمير le Prince (1513) الذي شرح فيه كيفية تكوين الأمراء وأفضل الطرق لممارسة السلطة والاستمرار فيها والمحافظة على سدة الحكم. ومع توماس مور Thomas More ( 1478 ـ 1535) وكتابه بعنوان الطوباوية, وحديثه عن مدينة فاضلة مثالية يعيش فيها شعب سعيد, والتي لا توجد في أي مكان في هذا العالم. مستحضرا أفكار أفلاطون, مع أن الجمهورية الطوباوية ليست الجمهورية الفاضلة التي تحدث عنها هذا الأخير. فالسياسة عند مور هي الدولة, التي ليست نتيجة ناشئة عن المثالي.
ومع جان بودان Jean Boudin ( 1529 ـ 1596 ) في كتابة الكتب الستة للجمهورية (1576) الذي كان أول من صاغ المفهوم القائل بان مفهوم الدولة الحديثة هو مفهوم السيادة وهو ما سعى لتأكيده في أعماله و مؤلفه المذكور. فمفهوم السيادة كما يراه يقوم على التمييز الرئيسي بين الدولة والحكومة وهذا التمييز لا يعني وجود سيادتين مختلفتين, واحدة للدولة وأخرى للحكومة. فالسيادة واحدة وكل لا يتجزأ.
وقد أغنت الفكر السياسي وأسست لنشوء علم السياسة , إلى جانب أعمال عظماء اليونان القديمة, العديد من مؤلفات وجهود المحدثين والمعاصرين. نذكر بعضا منها, حسب التسلسل الزمني لظهورها, ودون الإشارة لمضامينها, حيث لا يتسع لذلك مقال في صحيفة الكترونية.
مؤلفات المحدثين:
ـ حول حق الحرب والسلام (1625) لمؤلفه هيكو كروتيس Hugo Grotius ( 1583 ـ 1645 ).ـ المادة , صيغة السلطة, الجمهورية الكهنوتية والمدنية (1651) لتوماس هوبس Thomas Hobbes (1588 ـ 1679). ـ كتاب اللاهوتي ـ السياسي (1670) سبينوزا Baruch Spinoza (1632 ـ 1677). ـ الحق الطبيعي و حق الدول ( 1672) ,( ويعتبر أول محاولة منجزة لبناء نظرية عامة للقانون العام قائمة على المفهوم الحديث للسيادة), لصموئيل بيفوندورف Samuel Pufendorf (1632 ـ 1694). ـ الكتاب الثاني عن الحكومة المدنية 1690جوهان لوك John Locke (1632 ـ 1704 ). ـ روح القوانين 1748 ( وتأكيده بشكل خاص على مبدأ فصل السلطات), لمونتسكيو Montesquieu (1689 1755). ـ العقد الاجتماعي, مبدأ القانون السياسي 1762 جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712 ـ 1778 ). ـ البحث عن طبيعة وأسباب ثروة الأوطان 1776 ادم سميث Adam Smith ( 1723 ـ 1790). ـ نظرية القانون ( وهو كتاب في فلسفة السياسة مؤلف من جزئين رئيسيين: القانون العام والقانون الخاص). 1796 امانويل كنت Emmanuel Kant( 1724 ـ 1804). ـ مبادئ فلسفة القانون 1821 هيجل Hegel (1770ـ 1831). ـ حول الديمقراطية في أمريكا 1835اليكسي توكفيل Alexis de Tocqueville ( 1805 ـ 1859).
مؤلفات المعاصرين :
ـ إرادة القوة. نيتشه Friedrich Nietzsche (1844 ـ 1900 ). ـ بيان الحزب الشيوعي 4818, كارل ماركس ( 1818 ـ 1883).(الذي كان يعتبر كل الثورات السابقة مجرد ثورات سياسية لم ينتج عنها إلا بناء البنى الفوقية superstructure السياسية, رغم ادعائها تحقيق شمولية universalité المجتمع, ولكن ذلك, كما يرى, لم يكن إلا في المجال السياسي). ـ الدولة والثورة 1917 فلاديمير لينين Vladimir et la Révolution (1870 ـ 1924 ). (يتحدث فيه لينين عن النظرية الماركسية. فمفهوم الدولة والثورة عنده مستوحى من ماركس وانجلز, مع الشرح والتعليق والتفسير المسبغ من قبله عليهما). ـ الثورة الروسية, 1918, المشكلة السياسية هي مشكلة الثورة: دكتاتورية البروليتاريا. روزا ليكسمبورغ. Roza Luxemburg (1870 ـ 1919) ـ العالم والسياسة 1919 ماكس فابر Max Weber ( 1869 ـ 1924). ـ دفاتر من السجن 1928 ـ 1937 , انتون كرامشي (1891 ـ 1937 ). ـ مفهوم السياسة 1932. (مقررا أن مفهوم الدولة يفترض مسبقا مفهوم السياسة) .. كارل شميت Carl Schmitt (1888 ـ 1983). ـ السلطة 1942. إقامة السيادة على المشروعية. فيريرو Gugliemo Derrero ( 1871 ـ 1943). ـ الفلسفة السياسية 1956.( وهي معالجة فلسفية للسياسة). اريك فايل Eric Weil (1904 ـ 1977 ). ـ المجتمع المفتوح وأعداؤه 1945, كارل بوبه Karl Popper (1902ـ 1994). ـ نظرية العدالة 1971, جوهان راولس Johan Rawls (مولود عام 1927 ).
و في القرن التاسع عشر كان للتغيرات الجذرية التي أحدثتها الثورة الصناعية في النظم الاجتماعية والاقتصادية السائدة قبلها. وما أوجدته من وسائل الاتصالات, والتواصل, والنقل, واكتشاف العالم ومحاولات فهمه وتطويره وتغييره, تأثير كبير على النشوء الفعلي للعلوم الاجتماعية, كعلم الاجتماع, وعلم الاقتصاد, وأخرها, علم السياسة الذي يبحث عن معرفة عمل المجتمع ويحاول إيجاد الحلول عن طريق الدراسات المتعددة التي يوظفها لذلك. فالمجتمع الصناعي المتقدم يفرض وجود معرفة متزايدة ومتطورة وصحيحة للاقتصاد والثقافة والمؤسسات لاستيعاب التغيير وللمساهمة في دفعه بالاتجاه الصحيح.
وكفرع يدرس في الجامعات, ظهر علم السياسة لأول مرة في الولايات المتحدة, في جامعة كولومبيا حيث تم تعيين فرنسيس ليبر عام 1857 كأول أستاذ لتاريخ علم السياسة. وفي عام 1880 تم تشكيل المدرسة الأولى لعلم السياسة في كولومبيا. وكان السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه ما هو هدف علم السياسة الذي يميزه عن أهداف العلوم الاجتماعية الأخرى؟. حيث كان الرأي السائد حتى نهاية القرن التاسع عشر, يذهب إلى أن هذا الفرع لا يمكنه أن يكون غير ملتقى تقاطع علوم أخرى هي التاريخ, الاقتصاد, علم أصول البشر, علم النفس الاجتماعي, علم الاجتماع, القانون العام الخ..وهل الأمر متعلق بعلوم سياسية أم بعلم السياسة؟. وعملت المدرسة الانكلوسكسونية على دمج علم السياسة في السوسيولوجا السياسية مما حصر عمل الباحث فيه بدراسة التشكيلات والنظم الاجتماعية.
وفي فرنسا تحدث بيير فافر Pierre Favre عن 3 شروط أساسية كان توافرها ضروري لظهور علم السياسة :
1 ـ وجود قدر كاف من الاستقلالية تحقق بـ :
حدوث الانفصال بين الاقتصاد والسياسة عام 1776.
الانفصال عن علم الأخلاق ابتداء من القرن الثامن عشر, عندما ترك الدين نفسه يبتعد عن السياسة باتجاه الحقوق, وبشكل خاص منذ ميكيافلي .
التفريق بين الدولة والمجتمع المدني بفضل هيجل وبفضل الانقسامات في المجتمع.
2 ـ ظهور إدارة حديثة ونمو الملاك الإداري في الدولة مما نتج عنه تطور القانون الإداري وعلم السياسة في الوقت نفسه.
3 ـ اللجوء إلى أسلوب الانتخابات العامة, ابتداء من عام 1848 , واتساع المشاركات السياسية وتعميم المناقشات السياسية. ( بيير فافر ولادة علم السياسة في فرنسا. فايار , باريس 1989).
عام 1872 أنشأ بوتمي Boutmy المدرسة الحرة للعلوم السياسية. وقد عملت هذه المدرسة على التخصص في إعداد المسابقات الأساسية. وأصبحت أداة إعداد وتوظيف النخب في الدولة وفي المشاريع الكبرى. وقد تميزت عن كليات الحقوق والعلوم الاجتماعية, وابتداء من عام 1945 أصبحت تعد لمسابقات دخول المدرسة الوطنية للإدارة.
ودخل علم السياسة الجامعات. فاعترفت كليات الحقوق بوجوده كمكمل ضروري للقانون الدستوري. ومع ذلك كان التعارض في وجهات النظر فيما يخص ماهية علم السياسة. ففي حين كان يعتبرها البروفسور كلود بيفنوار Claude Bufnoir كفرع من فروع القانون و امتداد للقانون الدستوري والقانون العام, وخاصة بعد انفتاحهما على علم الاجتماع السياسي, والعلوم الإدارية, وبأنه غير قابل للتطور إلا إذا قام الحقوقيون بتدريسه. فان بوتمي Boutmy كان يعتبر العلوم السياسية مبنية على علم التاريخ وليس على الحقوق. ولا يمكن تدريسها بفعالية انطلاقا من العلوم القانونية.
عام 1945 أممت المدرسة الحرة للعلوم السياسية لتصبح معهد الدراسات السياسية في جامعة باريس, وكانت مهمة المعهد تطوير علم السياسة في فرنسا, وقد بدأ يصدر في هذا الاتجاه المجلة الفرنسية للعلوم السياسية. ثم بدأت تنشأ بعد ذلك معاهد عديدة للدراسات السياسية. ووجد علم السياسة بعدها مكانه في كليات التاريخ, وكليات الحقوق. وقد تم الفصل بين القانون الدستوري وبين مواد علم السياسة, وكان لجهود كل من موريس ديفرجه Maurice Duverger و جورج فيدال Georges Videl أثر كبير في إدخال مادة علم الاجتماع السياسي في السنة الأولى, وطرق العلوم الاجتماعية في السنة الثالثة, والمسائل السياسية الكبرى المعاصرة في السنة الرابعة. مع إضافة تاريخ الأفكار السياسية كمادة اختيارية.
بعدها استحدثت في كليات الحقوق دراسات مفتوحة لخرجي كليات الحقوق, و لخرجي معاهد الدراسات السياسية, للحصول على دبلوم الدراسات المعمقة في الدراسات السياسية, وعلى الدكتوراه في علم السياسة, التي لها نفس مستوى الدكتوراه في الحقوق, ونفس مستوى الدكتوراه في العلوم الاقتصادية. وهكذا ترسخ هذا الفرع عن طريق تكريسه في الكليات الجامعية. كما انه ابتداء من عام 1982 عرف هذا العلم استقلاله في مراكز البحث العلمي CNRS بإنشاء قسم " علوم الإنسان والمجتمع" , يجمع متخصصين في علم السياسة politistes وفي علم الاجتماع sociologues وفي القانون Juristes وفي التاريخ historiens.
كما نشأت عام 1949 الجمعية الفرنسية لعلم السياسة Association française de Science politique . وكانت تضم أكثر من 900 عضو, غالبيتهم من أساتذة الجامعات والباحثين, برئاسة جورج فيدال, بهدف مزدوج : تأكيد خصوصية هذا العلم الجديد. و إقامة علاقات قوية بين المتخصصين السياسيين الفرنسيين و زملائهم الأجانب. والجمعية المذكورة عضو مؤسس, مع أربع جمعيات أخرى, للجمعية العالمية لعلم السياسة التي اتخذت من باريس مقرا لها.
بعد الحرب العالمية الثانية تركزت جهود أساتذة علم السياسة, والباحثين فيها, حول ثلاثة محاور أساسية:
1 ـ الفصل الكافي والدقيق, بقدر المستطاع, بين الرؤية الحسية, وبين الرؤية القائمة على القيم الأخلاقية أو التحزب والانطلاق من خلفية فيها أحكام مسبقة.
2ـ استعمال طرق بحث وتقنيات مشتركة, متلائمة مع مجموع العلوم الاجتماعية بشكل دقيق, بتحديد قيام الوقائع ووضعها في مكانها و في منظورها الصحيح.
3 ـ عرض أطر عامة للتحليل وبناء نماذج تسهل اكتشاف القوانين.
فحول الظواهر السياسية, التي تفرض دائما التحدث عنها وفيها, تتعدد ردود أفعال المواطنين العاديين, وتعليقات الصحفيين, وتوضيحات رجال السياسة, وأحكام الأخلاقيين, وتحليل السياسيين المتخصصين, وأساتذة علم السياسة les politistes . وفيما يتعلق بالمختصين والباحثين, لا يجب أخذ أي حدث سياسي بعفوية وخفة, فمعرفتهم السياسية تقتضي حمايتهم من وهم الفهم العاجل, والوضوح الخادع, بعدم تبنيهم الآراء العامة المتكونة سريعا حوله. الحس المشترك le sens commun يعمل غالبا على النظر للوقائع السياسية كما لو أنها ظواهر طبيعية تفلت من التساؤل حول أصلها وبنائها. كما لو أن هناك عالم سياسيي سابق على قيام المجتمع. والمحلل السياسي هو بطبيعة الحال مواطن له قيمه وأفكاره, كعضو في مجتمع يحمل ثقافته, وعليه, من الصعب, في مثل هذه الشروط,, تصور إنجاز تحليل سياسي موضوعي وحيادي بشكل كامل. فالأحكام المسبقة لا يستطيع علم السياسة منع ظهورها, وبالتالي منع ظهورا لرؤية الشخصية للباحث على حساب الموضعية. ويمكن تحليل الموضوع السياسي من وجهات نظر مختلفة: فلسفية, تاريخية قانونية.
فالحدث السياسي في إطار مجتمع مبني مؤسساتيا, هو حدث اجتماعي غير معزول, و نتاج سلسلة من الأفعال المتداخلة, والمتبادلة مع محيطها. فالظاهرة السياسية التي هي الجواب على تتابع الأسباب المستمرة ونتائجها, غير قابلة للسيطرة الكاملة على انبعاثها.
من الوسائل التي يستخدمها علم السياسة في البحث عن المعلومات وطرق التصو, يمكن الإشارة إلى :
ـ التحقيق في عين المكان. ويتضمن الملاحظة المعمقة والدقيقة للحدث في محيطه الطبيعي. وذلك برغم صعوبة الإحاطة بتعقيدات مسيرة الحدث الذي يدرسه.
ـ استطلاعات الرأي. وهي تقنية تعتمد على استطلاع أراء عينة من السكان تسمح باستقراء أراء السكان بمجموعهم.فاستطلاعات الرأي في علم الاجتماع السياسي تزود الباحثين بالمعلومات الغنية المتعلقة بمعرفة الآراء وتوجهات السلوك. ولا يعني ذلك أن بعض الاستطلاعات لا تقع في الخطأ, ولا تقود إلى التضليل بشكل مقصود أحيانا, وذلك حين تكون الأسئلة غامضة وقابلة للتأويل والتضليل بطرق متعددة. أو حين تكون وسيلة يهدف منها السياسيون الوصول إلى نتائج تخدم مصالحهم.
النماذج الرئيسية للتحليل:
عبر تاريخه الطويل أقام علم السياسة عددا من النماذج للتحليل نذكر منها:
ـ المنهج التجريبي empiriste. ويشكل مدرسة لا تعترف إلا بالوقائع الملموسة التي يمكن التوصل إليها عن طريق البحث الدائب والموضوعي في المعطيات المتوصل إليها. كما تسمى المدرسة السلوكية béhavioriste. ولكن تركيزها الأساسي, والمبالغ فيه, على إتباع أساليب العلوم الدقيقة قد يحد من قدرتها على إدراك الحقيقة الاجتماعية بكل جوانبها. ( P. Lazarsfeld, P. Converse, B. Berelson).
ـ نموذج الفردانية individualisme. أو مدرسة الفردانية المنهجية. تقوم على نقد وتفنيد كل المذاهب التي تعتمد في تحليلها على محاباة المجموع, كالطبقة الاجتماعية, أو الشعب, أو الطائفة..على حساب الفرد, منتقدة فكرة اعتبار الأفراد مجرد آلات تدور في جسم النظام الذي يتجاوزهم. فهي تسعى لتصويب الجوانب الغامضة في السلوكيات السياسية. وكذلك لتوسيع الاختيارات التي قد تنفتح أمام المحللين. ( من أشهر دعاة هذه المدرسة ريمون بودون Raymond Boudon ).
ـ نموذج الوظيفية fonctionnaliste. يشبه المدافعون عن هذا النموذج المجتمع بجسم الإنسان. فلكل عضو فيه وظيفة محددة يساهم القيام بها بالتوازن المنسق للمجموع. وينطبق هذا على كل الأنظمة السياسية مع بعض الاعتبارات المحلية. وقد تعرضت هذه المدرسة لانتقادات شديدة. وخاصة على أنها محافظة وتعزز التوجهات القائمة, ولأنها ترى في كل حدث اجتماعي الجواب على ضرورة وظيفية, وخلطها بين المعتاد والضروري. ( من اشهر اتباعها: الموند G.Almond . بويل B. Powell. )
ـ نموذج التطورية. يدخل هذا النموذج الديناميكية في تحليل تقدم تحول transformation الأنظمة السياسية. ويعترض هذا النموذج صعوبات كثيرة منها كيفية معرفة العناصر التي تسمح بتقدير درجة التحديث السياسي. ( ابتار D. Apter . سيهلس E. Shils ).
فالتحليل السياسي يفرض على المتخصص احترام مبادئ ملزمة, منها : رفض حجج السلطة. الشك المنهجي في المعطيات التي تبدو ظاهريا ثابتة وغير قابلة للرد. وعدم اعتبار القوانين مهما كان مصدرها غير قابلة للتفسير والمناقشة, ولهم في ذلك ما يفعله فقهاء القانون وكبار الحقوقيين والمحامين. ..فلا توجد معرفة نهائية لا يمكن تجاوزها. فالنسبية هي أساس مصدر الشك المتولد عند الباحث.
والواقع أن توافر بنوك المعطيات données في وقتنا هذا بكم كبير, و فاعلية وسائل العمل المتطورة, مع صحة المنهج ودقته, توفر للباحث وللمحلل السياسي الوصول إلى المعلومة التي يبحث عنها وبحدها الأقصى. ومن المعروف أن التغيرات الجوهرية مرتبطة بشكل جدلي و أساسي بتطور المعرفة العلمية والثقافية التي يفترض وضع أدواتها في متناول الإدراك الخاص والعام.
المطلوب, في رأينا, هو عدم إبقاء معطيات علم السياسة ومناهجه محصورة في الجامعات ,ومراكز البحث, وفي بعض الكتب, والمنشورات المتخصصة, وإنما العمل بكل الوسائل الفعّالة لإنزالها للمجتمع الذي يهتم بتقدم إفراده من كل الجوانب. وجعلها في متناول الجميع.
وذلك لا يكون, بطبيعة الحال, إلا في دول تسود فيها أنظمة سياسية تحترم حرية تدريس علم السياسة.وفيها حرية البحث والتحقيق والاكتشاف والتعبير مصانة. كما أن حرية المشاركة في الحياة السياسية متاحة للجميع. و لا يختزل فيها مفهوم السياسة ـ كما هو الحال في الأنظمة السياسية العربية ـ ليصبح مفهوم أمن يعتمد (تقنيات) معقدة لضمان بقاء السلطة في أيدي الفئات الحاكمة وتأبيدها, وحمايتها من أي تهديد داخلي, حال أو مستقبلي.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)