على طول 2300 متر وعرض 18 مترا امتد العلم. مدّوه في السويداء مدّا غير بريء يضمر فتنة وضغينة وطائفية. أُخرج فنيّا كحمّال وطنية. حملة له, حوله وعلى طوله, يصفقون ويهتفون. ليس للعلم الممدود(وهو علم سوريا بأكملها وليس ملكا لأحد "ليتمسح" به). ولا للوطن التصفيق والهتاف بالفداء, وإنما حصرا لسيد الوطن وحامي العلم. لم يعد يهتف أحد للوحدة والحرية والاشتراكية, التي هتف البعث لها نصف قرن بكل الحناجر, ومنها حناجر حماسية في السويداء. ولا للرسالة الخالدة التي, بعد طول نضال, تقمصت زعيما أوحدا. ولا كان الهتاف للحرية, فهذا يلتقي مع هتافات أعداء النظام والمتآمرين عليه شرقا وغربا ومحليا, ( ثم ما حاجة الوطن لمزيد من الحرية !! ما عندنا يكفي ويفيض على أشقائنا وعلى أوطان الآخرين).
لم يسمع أحد هتافا واحدا للجولان, ولا الإشارة لتحريره أو لصمود أهله. ولا لتحرير أسراه, وبين بعضهم و بعض الهتّافين قرابة دم أو نسب, وأخوة أبناء الوطن الواحد. لم يسمع أحد في مسيرة العلم الممدود هتافا واحدا لفلسطين وأهل فلسطين أو أغنية أو أهزوجة أو حداء جبليا (القصائد الشعبية والتراث الشعبي لجبل حوران بكامله غناء وحداء لفلسطين, صادق ومن الأعماق, سبق البعث وواكبه, وتجاوزه). لا تخلو قرية واحدة من نصب أو مشهد لطيارين وضباط ومحاربين استشهدوا على الجبهة في حروب قيل لهم أنها من اجل تحرير فلسطين. سمع الشهداء من الهتّافة هتافات غير الهتافات ووقعا غير وقع الحداء.
لم يُقنع امتداد العلم بطوله وعرضه أحدا بان سورية اليوم بألف خير. ولم يُقنع الهتُافة المحليين, ولا البعثة الداعمة لهم المجلوبة خصيصا للمناسبة الاحتفالية النضالية بمد العلم ــ المكونة عمدا من أصول جبلية لعزف على الطائفية والعصبية ــ بأن سوريا بألف خير. لم يقتنع أحد بحوار و"نضال" مثير للغرائز. ثم متى كان الحوار الحضاري للإقناع حاضر يوما في صفحات قواميس الأنظمة الاستبدادية.
الإقناع المجدي في عرف تلك الأنظمة هو إقناع أفعال لا تخاطب الأفكار والعقول, ولا الضمائر الحرة بالقيم العليا, وإنما تنصب على الأجساد وتحرك فيها الغرائز السفلى, بوسائل الترغيب والترهيب.
في خلفية مد الأعلام على طول كيلومترات, في غالبية المحافظات, تلاعب برمزية العلم. الأعلام تُرفع وتُمد في انتصارات الوطن. وتُنكّس حدادا في كوارثه ومآسيه. لم يسبق أن رفع وطن من الأوطان أعلاما وطنية وأقام مناسبات احتفالية مصطنعة ودماء أبنائه تسفك, والأتراح تعم أرجائه. أية أواصر وطنية تجمع بين أبناء الوطن الواحد حين تمتد أعلام على طول كيلومترات, في الوقت الذي تودع الحشود شهداءها, في مواكب جنائزية تمتد على طول كيلومترات؟. كيف يمكن عندها الحديث عن وطن واحد وأخوة ووحدة ولحمة وطنية؟.
في السويداء وجبل حوران لم يلعب أجدادنا لعبة الأعلام حين كان يجد الجد. حملوا البيارق والرايات الحربية في معارك الاستقلال و تحرير الوطن. فتلاقت وتعانقت مع رايات أبناء سهل حوران, وأبناء الغوطة, في دوما وداريا ودمشق وضواحيها ... ورفرفت مرفوعة على صهوات الخيول الأصيلة شمالا وشرقا وغربا لتلتقي وتتعانق مع رايات حماه وحمص وحلب والساحل ... رايات وبيارق سقط تحتها الشهداء من كل أبناء سوريا, رايات نسيجها الوحدة الوطنية وأخوة الدم والمصير. أخوة الوطن. بهذا ومن كل هذا صُنع علم لسوريا. وهذا ما تحمله رمزية العلم السوري.
تحت العلم السوري بعد الاستقلال مباشرة تعددت الاتجاهات السياسية وتنوعت الأفكار, وبدأت تشق الحرية الفكرية والسياسة طريقها, أعاقتها حداثة التجربة, ولكن لم تقمعها. ورغم الانقلابات العسكرية والتآمر الخارجي على سورية بقيت سوريا لكل أبنائها, لا يقتل أبناؤها أبناءها. لم تضعف يوما الوطنية ولم يحتكرها أحد ـ رغم عدم وجود بدع "وطنية" بمد أعلام طويلا طويلا في الشوارع وعلى كل الواجهات, ولا صور زعماء تغطي كامل المساحات ــ كانت هذه الوطنية في أوجها وفي انقى صورها. تشكلت على أسسها أحزاب سياسية, وبرلمان, وبداية تجربة ديمقراطية. الا يدل ذلك على ان السوري طالب حرية وأهل للديمقراطية ولا تنقصه الوطنية؟. كانت الجبهة مشتعلة ومعها تشتعل الوطنية, تكيل لإسرائيل الضربات شبه اليومية, وترد عدوانها في مقاومة وممانعة حقيقية وبالسلاح. أليس استعمال السلاح باتجاه إسرائيل هو المقاومة وهو الممانعة دون ضجيج وتزاحم شعارات؟. أليس من الوطنية ان ترفرف أعلامنا على الأراضي المحتلة وعلى الحدود وليس الجري بها في "مارتونات" بين المحافظات لنشر الوطنية؟.
في تحضيره لدك شعبه صاح القذافي في احد خطبه الهستيرية مذكرا بمن دكوا في عالم اليوم بعضا من شعبهم "يا سلام, يلسن في روسيا حاصر البرلمان ودك المجتمعين جميعا بالمدفعية".
في السويداء, يا سلام, ومع وصول العلم ومده حيث كان مقررا له, قمع الشبيحة, بإشراف رجال الأمن وتسليحهم وتدريبهم ومباركتهم, المحامين المعتصمين رجال القانون والمدافعين عنه, الجناح الثاني للقضاء وإقامة العدالة, اعتدوا على من استطاعوا الوصول إليه وحاصروهم في نقابتهم . دكوهم شتائم وتحقيرا تمهيدا لدكهم, جسديا وتحطيم كل ما ترمز إليه المحاماة من قانون وتطبيق للقانون في دولة القانون. أما في الغاب فللغاب شريعته.
لم يسبق في وطن من الأوطان منذ القرون الوسطى, حتى لا نذهب في التاريخ بعيدا, ومنذ عُرفت المحاماة ونقابات المحامين, والى يومنا هذا, أن تجرأت عصابات وقطعان من المهووسين ومن الخارجين على القانون, في وضح النهار, وعلى مسامع وبمساعدة خفية وعلنية من رجال الأمن, على الاعتداء بالضرب والشتم والإهانة على هيئة كاملة للمحامين, وبمحاصرتهم في نقابتهم تمهيدا لدخولها رغم حصانتها ورمزيتها. إنها الهمجية. إنها سابقة شبيحية. (لحسن حظ المحامين كان دكهم اقل وحشية من دك يلسن لبرلمانييه).
في السويداء وبالتزامن مع العلم الممدود لمد الوطنية فيها, جرى الاعتداء على مهندسين وأطباء أحرار ومطاردتهم, ودخول عيادة طبيب أسنان وتحطيم محتوياتها. ذنبهم أن نادوا مع المحامين بالحرية ودولة ديمقراطية ورفع الحصار عن المدن المحاصرة والتوقف عن التخوين والقتل والتشريد والاعتقال. وأصدروا في ذلك بيانات لم تلامس أسماع من يستعمل الرصاص الحي, ومتى استجاب مستبد لنداء أو بيان.
مطالب الشعوب لا ينهيها تصد وقمع وهمجية ووحشية. وإلا لتوقف التاريخ عن مسيرته, وبقينا في مرحلة ما قبل التاريخ.
د.هايل نصر.
التعليقات (0)