عبـد الفتـاح الفاتحـي
احتضنت سويسرا بمناسبة مرور قرنين على ميلاد عالم الأحياء الإنجليزي تشارلز داروين (1809-1882)، مؤسس نظرية الارتقاء أو التطور الداروينية. وتتزامن هذه المناسبة مع الذكرى المائة والخمسين على صدور كتابه المثير للجدل؛ الذي أحدث ثورة في فهم الإنسان لعلوم الحياة ونشأة الأجناس وتطورها على الأرض «أصل الأجناس» سنة 1859.
وسمحت هاتان المناسبتان لعديد من الهيئات الثقافية والعلمية والمؤسسات الجامعية في سويسرا والعالم تسليط مزيد من الضوء على التراث العلمي لهذا الرجل، والذي ظل مثار جدل، خاصة في ما أورده في كتابه "أصل الأجناس" الذي أرجع فيه تشابه الكائنات الحية واختلافها إلى عامل التطور الذي يتحكم فيه قانون "الانتقاء الطبيعي"؛ وفسر ذلك بتمحور رأي داروين على قضيتين لم يرد ذكرهما في كتابه: قضية "إنكار الله" و"نزول الإنسان من سلالة الحيوان"، وروج عن داروين بأنه يقول: "أن الإنسان ينحدر من سلالة القردة".
لذلك ظلت الكنيستان الإنجليكانية والكاثوليكية تنتقد بشدة على ذلك، وإن كان لا وجود لهذه المقولة على الإطلاق في كتابه، لأن داروين قال فقط: أن هناك قرابة للإنسان مع أنواع من القردة، وأن الكائنين كان لهما في وقت ما جذر مشترك.
وتحامل علماء اللاهوت المسيحيون الذين نظموا حملة لنقد القضيتين وإنكارهما، وتحجج العلماء المسلمين من جهتهم بنفس الحجة، وأعلن جان بول الثاني سنة 1996 أن "بحوثا علمية حديثة تثبت أن نظرية التطور لا تزيد عن كونها مجرد فرضية".
ومعلوم أيضا أن كتاب داروين "أصل الأنواع" قد أبطل أفكارا دينية لقساوسة كبار، منهم القسيس جيمس يوشر الذي يحدد اليوم الأول للخليقة في 23 أكتوبر من سنة 4004 قبل ولادة المسيح عليه السلام. وأن الزمن الذي انقضى منذ بداية الخليقة إلى عصريهما يتراوح ما بين 6000 و7000 سنة.
وسجل عن المصلح الإسلامي الكبير جمال الدين الأفغاني، وهو معاصر لداروين، سخريته من نظرية الارتقاء بقوله: لو أجزنا أن أنواع المخلوقات تتطور من بعضها البعض، لأجزنا أن تتحول النملة إلى فيل وأن يتحول الفيل إلى نملة.
وتتزامن الذكرى المئوية لميلاد داروين وإعلان الفاتيكان أن نظرية داروين تتفق مع الكتاب المقدس. وأنه سيعقد مؤتمراً علمياً في مارس المقبل بمناسبة ذكراها. وسيجمع المؤتمر علماء وفلاسفة وقساوسة لمناقشة النظرية وعلاقتها وأثرها على التفسير الحرفي لسفر التكوين في الإنجيل.
تميز كتاب "أصل الأنواع" برزانة منهجه العلمي، لاستناده على دراسات ميدانية دقيقة ومعمقة للأجناس المختلفة لمدة عشرين عاما، باشرها من فوق السفينة الحربية "أتش إم إس بيجل" لمدة خمس سنوات ما بين 1831 و 1836، وعمره لا يتجاوز 22 سنة، فكانت رحلته هذه منطلقا لنظريته حول تطور الأجناس. مؤسسا بذلك نظرية قوية عدت أحد أهم أعمدة العلم الحديث، التي عرضت قوانين الوراثة المسؤولة عن انتقال الخصائص الوراثية بين الأجيال واصطفاء الأصلح منها وتطوره إلى أجناس جديدة.
وأردف داروين كتابه الظاهرة بكتاب آخر يحمل عنوان "سلالة الإنسان" في سنة 1871 الذي طور فيه نظرية نشوء الإنسان وارتقائه عبر قوانين نظريته السابقة، كما طور فيه نظريته إلى آفاق شواهد وأسباب الاختلافات بين الحيوانات في قدرات العقل والتفكر والذكاء والأخلاق وتذوق الجمال. وأكد أن الاختلافات الملحوظة بين الأجناس هي في الحجم وليس في نوع، ذلك أن العديد من الحيوانات تملك الذكاء ولها عاداتها وطقوسها.
ومن الحقائق العلمية التي توصل لها علم الجينوم (الخارطة الجينية) في السنوات الأخيرة لأجناس الكائنات المختلفة -بما فيها الإنسان- وبشكل يقيني التشابه الكبير في ما بينها. وأن أصول جميع الكائنات مشتركة من ناحية التركيبة الجينية التي هي أساس بنيتها الحيوية وخارطة تكاثرها وأساس تنوعها. وبينت الدراسات أن الفروقات بين أجناس الكائنات المختلفة مردها إلى التطور والارتقاء، وإما بحكم الطفرات التاريخية أو التطور التدريجي بفعل البيئة المحيطة أو بفعل الحاجة إلى البقاء.
وصدقت نظرية داروين اليوم في تأكيدها على انتقال الخصائص الوراثية، وأن أفراد مجموعة سكانية واحدة قد يختلفون عن بعضهم البعض، وأن ذاك التنوع الصغير بينهم ناتج عن اختلاف البيئة وأن هذه التباينات بين الأفراد قد تتطور وتتسع لتؤدي في النهاية إلى ظهور نوع جديد من الكائنات الحية.
وبعد مرور 150 سنة على ظهور نظرية داروين -وما تبعها من اكتشافات وبراهين- فإنها لا تزال كنموذج علمي شامخ ومستقر في البحث العلمي والمعرفي للبشرية، بعدما أيدتها حزمة واسعة من البراهين والأدلة والاكتشافات العلمية الدقيقة التي عززت قوتها كمدخل أساسي في عالم البيولوجيا.
إلا أن هذه النظرية وعلى الرغم من نجاحها في عدد من الاختبارات العلمية، فإنها لا تزال تواجه بعنف شديد في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في الأوساط البروتستانتية المحافظة.
وتتجلى معالم هذا الصراع بين الحين والآخر على مناهج تدريس علوم الحياة التي تتضمن نظرية التطور، حيث يظل عدد من العلماء في عدد من الولايات الأمريكية يدعون إلى استبدالها بنظرية الخلق -كما جاءت في سفر التكوين- أو بتقديم النظريتين جنباً إلى جنب، ولتعزيز مفاهيم نظرية الخلق المنافسة هذه، تم تأسيس العديد من المعاهد والمنظمات والمنتديات.
لكن هذه النظرية لم تستطع الصمود أمام رزانة النظرية الداروينية، ليتم استحداث نظرية ما يسمى بـ: «الخلق الذكي» أو «التصميم الذكي» وحشد البراهين لها، وهي نظرية تقوم على "مبدأ الحاجة" التي تدخل في نشأة الإنسان.
وامتد الصراع بين الطرفين في السنوات الأخيرة في أميركا إلى أبحاث الطب في الخلايا الجذعية والاستنساخ والهندسة الوراثية والإجهاض ومنع الحمل والموت الرحيم للمرضى الميئوس منهم.
elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)