مواضيع اليوم

في الذكرى الخامسة والأربعين لحرب حزيران!!

 إذا كان صحيحًا أن الشدائد والمصائب والمصاعب والنكبات والانتكاسات والنكسات والهزائم هي التي تصنع الأمم والشعوب، وأن المخاطر والأخطار والأهوال هي التي توحد الصفوف، وتجمع الناس على مقاومتها، ومقارعتها، والتصدي لها، واستخلاص النتائج والعبر والدروس المستفادة منها.. وإذا كان صحيحًا أن هذه الشدائد والنكبات أيضًا هي دوائر في حلقاتٍ يؤدي سابقها إلى لاحقها حتى يفيق الغافلون من غفلتهم، ويتصدَّوا للاّحق وصولاً إلى السابق.. وإذا كان صحيحًا أن النكبة الكبرى التي تجرعنا مرارتها في العام الثامن والأربعين من القرن الماضي قد أدت فيما أدت إليه إلى هزيمة العرب في العام السابع والستين من ذلك القرن، وأن كل جهود العرب التي بُذِلَت لاستعادة الحقوق خلال المسافة الفاصلة بين تلك النكبة، وتلك الهزيمة التي أعقَبتها قد باءت بالفشل والخسران على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية والفكرية والتعبوية لأسباب كثيرة منها هذا الإنسان العربي المهزوم المأزوم المهزوز المقموع الكاذب المنافق الذي داست كرامته الأنظمة الاستبدادية التي أذلت الإنسان، وأضاعت الأوطان، وأثبتت بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن الأمة المهزومة المقهورة الممزقة المنقسمة على نفسها لا يمكن أن تردَّ عدوانًا، ولا يمكن أن تحمي أوطانًا، ولا يمكن أن تُعلي بنيانًا، كما أثبتت بما لا يدع أدنى مجال للشك أن الانتصارات المؤزرة لا تحرزها إلا الأمم القوية التي جمعت شملها عقيدة واضحة السمات والقسَمات والمعالم، ووحد كلمتها مبدأ أنار سواء السبيل للناس، وقادها نحو النصر على النفس أولاً وعلى الخصم الطامع المتربص ثانيًا نظام أحق حقًّا، وأقام عدلاً، وأرسى دعائم إنصاف وعدالة ومساواة بين الناس، وأنار دربًا سديدًا، ونهجًا رشيدًا يسير عليه الحاكم والمحكوم بخطًى مبصرة واثقة يعرف كلٌّ من خلالها جيّدًا حدوده، ويعرف كلٌّ في كل خطوة يخطوها ما له وما عليه.. ووضع لها العلامات الواضحة والإشارات والتوجيهات والتعليمات على كل مساراتها ومداراتها ومساربها وطرقاتها وتوجهاتها وفضاءاتها، وفي كل شأن من شؤون حياتها دستورٌ لم يجامل، ولم يمالئ، ولم يحابِ أحدًا، ولم يرفع أحدًا على حساب أحد.. دستور وضع النقاط على الحروف من أجل ضمان العدل والعدالة، ومن أجل صنع أمة واحدة موحدة قوية تعيد صنع الحياة على هذه الأرض، وتعيد بناء الإنسان المتوازن المتزن المبدع القوي الفاعل في التاريخ.. إذا كان كل هذا صحيحًا، وهو صحيح، فإنّ العرب مطالبون- يقينًا- باستخلاص الدروس والعبر من كل تجارب الماضي، ومن كل هزائم الماضي التي عشناها، وعاشها كل أهل هذه الديار جيلاً بعد جيل.

ولئن أخفقَ العرب، ولم يتمكنوا من فعل شيء لفلسطين والفلسطينيين قبل النكبة، وفي أثناء صناعتها وتجسيدها على أرض فلسطين، وفي السنوات التي أعقبتها أيضًا، فلأنهم كانوا في غالبيتهم جهلَة منقسمين على أنفسهم متحالفين مع أعدى أعدائهم، تابعين للأجنبي، ينفذون خططًا ومخططات يرسمها الغرب لكل ديار العروبة والإسلام، ولأنهم لم يكونوا جادّين في فعل شيء، ولأن من كان منهم جادًّا سلط عليه الغرب أعوانه وأتباعه، ثم تدخل هو بنفسه للقضاء على طموحاته وأحلامه وآماله إن فشل الأعوان والأتباع... ولقد أسفرَ هذا كله، وكثير كثير غيره عن ضياع ذلك الجزء الأكبر من فلسطين في عام النكبة، وعن ضياع ما تبقى منها بعد ذلك في حرب حزيران.. شهر الآلام والإحباطات والانهيارات والأحزان.

ولئن تمكن الفلسطينيون بعد تلك "النكسة" التي حلَّت بهم من فرض وجودهم على أرضهم المحتلة هذه بطريقة أو بأخرى، ولئن تمكنوا من رفع صوتهم بشكل أو بآخر في الشأن السياسي والاقتصادي والمعيشي والصحي والتعليمي، ولئن تمكنوا من حماية مدارسهم ومساجدهم وكنائسهم وعياداتهم ومشافيهم وأرضهم التي احتلها الآخرون أيضًا من كل أشكال التحكم والعدوان، ولئن تمكّن قادتهم وزعماؤهم المحليون من قول كلمتهم في كثير من شؤون حياتهم الثقافية والاقتصادية والسياسية والإدارية، ولئن استطاعوا (في كثير من الأحيان) أن يردّوا الصاع صاعين لهذا الاحتلال ولإدارته، ولأحلامه، وأطماعه، ومخططاته، التي تستهدف وضع اليد على هذه الديار وإنسان هذه الديار بمختلف الوسائل، وشتى الطرق والأساليب، وكافة أشكال الإغراء والإغواء والترغيب والترهيب، فإن هؤلاء المحتلين قد عمدوا إلى أسلوب مختلف للنيل من ثبات هؤلاء الناس على أرضهم، وللنيل من إصرارهم على تقرير مصيرهم بأنفسهم، وللنيل من جرأتهم على قول كلمتهم مهما كلف الأمر.. لقد عمدوا إلى محاولة فرض الحلول علينا في هذه الديار من خلال تسويات "كامب ديفيد"، ومن خلال حلول تضمن لهم البقاء في ذلك المحتل منذ عام ثمانية وأربعين، وتضمن لهم في الوقت نفسه وجودًا فاعلاً في المحتل منذ عام سبعة وستين وصولاً للسيطرة الكاملة عليه بمرور الوقت، وعلى مراحل كما هو معروف من خلال تجربة الفلسطينيين على الأرض منذ اتفاقات أوسلو التي عارضها كثير من الفلسطينيين هنا في المحتل من الأرض، وعارضها أيضًا معظم الفلسطينيين في دول المواجهة، وفي الشتات، وعارضها كذلك كثير من العرب في دول الطوق.

ولقد كانت نتيجة ذلك كله أن ألقى الاحتلال بكل ثقله في اتجاهين: أما الأول فهو مضاعفة الجهود لتهويد القدس وتكثيف الاستيطان في معظم مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وأما الثاني فهو الدخول في مفاوضات هزلية لكسب الوقت من أجل تنفيذ المخططات والخطط التي تستهدف ابتلاع الأرض وزرعها بالمستوطنات، ومحاصرة المدن والقرى العربية حصارًا كاملاً أو شبه كامل مستفيدًا في هذا كله من تلك التقسيمات الأوسلوية لأرض الضفة الغربية، وتصنيفها بين (أ) و(ب) و(ج).. تلك التصنيفات التي نصت على أن مناطق (ج) البالغة مِساحتها 69% من أرض الضفة الغربية البالغة مساحتها (5879 كم2) هي مناطق إسرائيلية، وأن مناطق (ب) البالغة مساحتها 23% من مساحة هذه الضفة هي مناطق يخضع الأمن فيها للإسرائيليين، وأن 8% من هذه الضفة (470 كم2)، هي مناطق تحت حكم الفلسطينيين، ومع هذا فقد توالت الاجتياحات لكثيرٍ من المناطق المصنفة (أ) منذ انتفاضة الأقصى، وحتى أيامنا هذه، تلك الاجتياحات التي لم يكن آخرها ما حصل في نابلس ليلة القبض على حسام خضر ورفاقه ليل الأربعاء الخميس 2/6/2011، بل إن ما حصل في معظم تلك المناطق، ولا يزال يحصل ليدلُّ دلالةً قاطعةً على أن أوسلو لم تعطنا شيئًا أكثر من أن تكون مدن الضفة الغربية جيوبًا داخل أرض إسرائيل ليس إلا، ولا أعتقد أن أحدًا يستطيع أن يجادل في هذا بعد مرور نحو عشرين عامًا على توقيع تلك الاتفاقات.

ليس هذا ما جئت هنا لأقوله ونحن نحيي اليوم هذه الذكرى الخامسة والأربعين لحرب حزيران، ولأحزان حرب حزيران التي عشناها (نحن المتقدمين في السن) بكل ما فيها من رعب وخوف وحسرة وتمزق، ثم كانت إرادة الله أن تمتد بنا هذه الحياة لنرى هذين المؤشرين الكبيرين يلوحان في سماء هذه القضية الفلسطينية التي طال عليها الزمن.. هذان المؤشران لابد من التوقف عندهما قليلاً لنرى التحول في سير الحوادث والأحداث في هذه الديار منذ نشأة القضية الفلسطينية، مرورًا بحرب سبعة وستين، ولا أقول انتهاء بيومنا هذا من شهرنا هذا في بلدنا هذا، وإنما أقوله وصولاً إلى هذا الخامس من حزيران، بعد خمسةٍ وأربعين عامًا بالكمال والتمام على ذلك الخامس الأسود الذي أحال حياتنا جحيمًا، ولا نزال نعيش كابوسه المرعب، وإن كنا قد وضعنا أرجلنا على بداية طريق قد يجعل من هذه الذكرى البشعة بوابة نصر على الأحزان، وبوابة نصر على اليأس، وبوابة نصر على الأوهام، وبوابة نصر للإنسان وللأوطان وللحرية ولإرادة هذه الشعوب العربية التي تصارع من أجل حريتها وكرامتها، ومنها وعلى رأسها ربما شعبنا العربي الفلسطيني بشقيه المقيم هنا على أرض الوطن، والمشرد في الآفاق هناك فوق كل أرض وتحت كل سماء.

جئت هنا لأقول إن هذا الخامس قد أتى بشيء جديد كان قد أتى به سابقه الخامس عشر من أيار هو هذا المد الهادر، والموج الصاخب المتلاطم، والزحف الثائر الممتلئ قوة وعنفوانًا وإصرارًا على العودة إلى فلسطين!! صحيح أن الفلسطينيين والعرب الذين شاركوا في ذلك الزحف إنما أرادوا توجيه رسالة صارخة صاخبة هائجة مائجة إلى المجتمع الدَّوْلي كي يكف عن خوفه، أو تواطئه، أوتجاهله لحق الفلسطينيين في العودة، والعيش بكرامة فوق أرض وطنهم، والعيش بكرامة في مدنهم وقراهم ومزارعهم وديارهم التي أُبعِدوا عنها، وهُجِّروا منها عام ثمانية وأربعين، وعام سبعة وستين.. وإذا كانت هذه الرسالة قد وصلت، وإذا كان المجتمع الدولي قد فهم ما يريده الفلسطينيون والعرب المضيفون في أقطارهم المجاورة لفلسطين، فإن تكرار مثل هذا الزحف ضروري في كل مناسبة كهذه لإرسال مثل هذه الرسائل إلى أن تتحقق أهداف هذا الشعب العربي الفلسطيني في العودة إلى أرضه وممتلكاته ودياره في فلسطين كل فلسطين، لأنّ هذا من حقه، ولأنّ هذا ما نصت عليه قرارات الشرعية الدولية، ولأنّ هذا هو الحل، ولأنه بدون هذا قد لا يكون هنالك حل، وقد لا يكون هنالك سلم، وقد لا يكون هنالك أمن وأمان.. وإذا كنا حريصين على هذا كله توّاقين للسلام العادل، فإن هذا ما ينبغي على المجتمع الدولي أن يعمل من أجل وضعه موضع التنفيذ.. وجئتُ هنا لأذكّر باقتراح الجنرالات الصينيين، وبنصيحة ماوتسي تونغ لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك (أحمد الشقيري) إن أراد الفلسطينيون تحرير فلسطين، وبقي أن أشير إلى أن هذا الزحف قد يكون البداية لذاك الزحف الذي اقترحوه.. مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن تحقيق هدف الفلسطينيين في العودة بسلام سيحول حتمًا دون حدوث ذلك الزحف الكبير، وسيحول بالتالي دون وقوع كل هذه الضحايا التي تحدثت عنها وسائل الإعلام قبل تسعةٍ وأربعين عامًا من هذه الأيام.

وجئت هنا لأقول إن ما أنجزه كل هؤلاء وأولئك، وإن ما حققه الغرب في مصر بعد وفاة عبد الناصر وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير قد تبدد، وقد عاد هذا الغرب بالتالي إلى المربع الأول، وإن كل ما بناه الغرب، وما سيبنيه أيضًا، وما يحاول بناءه هنا وهناك في مصر وفي تونس، وما يحاول أن يفعله في بعض أقطار العروبة لن يمكّنه من أعناق هذه الأمة، ولن يتمكن معه من إخضاعها، ومن السيطرة عليها ومن تقسيم أوطانها.. فها هي مصر تعود إلى العرب من جديد، وها هي تونس أيضًا تعود إلى الحظيرة العربية من جديد، على الرغم من كل جهود الغرب للعودة إليهما، وعلى الرغم من كل محاولات قِوى الثورة المضادة للانقضاض عليهما.. كما جئت هنا لاقول في هذا السياق إن كل ما يجري على أرض سوريا لن يعيد الغرب إليها، وإن النظام السوري الذي يتمسك به كثير من اللبنانيين، وكثير من الفلسطينيين، والغالبية الساحقة من السوريين، وكثير من العرب، وكثير من دول الشرق، وكثير من دول أمريكا اللاتينية، وكثير من شعوب العالم هو نظام للمقاومة العربية، والممانعة العربية، وهو نظام يحتفظ برصيد هائل وطنيًّا وعربيًّا ودوليًّا وفلسطينيًّا.. بقي أن أقول في هذا السياق أيضًا إن كثيرًا من السوريين مظلومون، وإن كثيرًا من السوريين هم ضحايا هذه الحرب العمياء التي كان وراء تفجيرها من كان، وما كان! وإن كثيرًا من السوريين المعارضين كانوا ولا زالوا ينطلقون من منطلقات وطنية، ولكنهم أخطأوا الوسيلة والأسلوب، فما كان لعربي أن يقتل عربيًّا، وما كان لشقيق أن يقتل شقيقه، وما كان لرفيق أن يقتل رفيقه، وما كان لسوري أن يقتل سوريًّا!! وبقي أن أقول في هذا السياق إن كثيرًا من المعارضين السوريين غاضبون بسبب عدم جدّيّة النظام في تحرير الجولان العربي السوري المحتل، وعدم جدية النظام في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، وإلى جانب شعب فلسطين العربي.. وإذا كان هؤلاء المعارضون السوريون جادّين في هذا، وإذا كانت منطلقاتهم عروبية وطنية إلى هذا الحد فإن ما يطمحون إليه هو تصحيح مسار النظام القائم، أو استحداث نظام سياسي جديد يتخذ من استراتيجية العمل العسكري السياسي وسيلة لتحرير الجولان، ووسيلة لتحرير فلسطين، وهذا معناه باختصار شديد أن الغرب سيجد في سوريا دائمًا قلعة للعروبة، وقلعة للمقاومة، وقلعة للممانعة، وقلعة للتحرير والتحرر، وقلعة لنصرة لبنان، وقلعة لنصرة فلسطين، وقلعة تقف لكل مشاريعه بالمرصاد لسبب بسيط هو أن سوريا دائمًا هي سوريا، وأن سوريا دائمًا ستظل عصية على الركوع والاستسلام، وستظل عصية على الطامعين المتربصين، وعلى الحالمين بالمشاريع الخيالية الخرافية على الأرض العربية، وعلى كل الحالمين بإزالة سوريا عن الخريطة!!.

في الذكرى الخامسة والأربعين لحرب الخامس من حزيران نقول: يا حزيران.. يا بوابة النصر على الأحزان.. لقد علمتنا أن الشعوب هي التي تنتصر دائمًا.. لقد علمتنا أن الأمة العظيمة التي تصنع التاريخ هي الأمة القوية الحرة التي لا مكان فيها لجاهل أو متخاذل أو تابع أو مندس يُبطن خلاف ما يظهر.. وأن الأمة العظيمة هي الأمة التي تحدد أهدافها وغاياتها، وتسعى بثقة وقوة وحزم وعزم من أجل تحقيق هذه الأهداف والغايات، وهي الأمة التي تؤمن بالعدل والعدالة والإنسانية والسَّلم والأمن الدوليين وسيلةً لتحقيق سعادة الإنسان، وغايةً ينبغي أن يتعاون المجتمع الدولي من أجل وضعها موضع التنفيذ.

وفي هذه الذكرى الخامسة والأربعين لتلك الحرب لا يسعنا إلا أن نجدد الدعوة إلى وحدة العرب فوق كل أرض العرب، ولا يسعنا إلا أن ندعو هذه الأمة إلى مزيدٍ من الوعي والعمل الجادّ من أجل صنع الإنسان العربي الجديد، والنظام السياسي العربي الجديد الذي يحترم هذا الإنسان، ويحترم حقه في العيش بأمنٍ وأمانٍ وحريةٍ واحترام، ويحترم حقه في القول والتفكير والتعبير، ويحترم رغبته في التحرر والانطلاق والانعتاق من الأغلال والسلاسل والقيود والتبعية للأجنبي المستهتر بهذه الأمة، المجترئ عليها، الطامع فيها، الحالم بالسيطرة على ثرواتها ومقدراتها، وحرمان شعوبها من أبسط حقوقها في العيش الآمن الحر الكريم.

إذا كان صحيحًا أن الشدائد والمصائب والمصاعب والنكبات والانتكاسات والنكسات والهزائم هي التي تصنع الأمم والشعوب، وأن المخاطر والأخطار والأهوال هي التي توحد الصفوف، وتجمع الناس على مقاومتها، ومقارعتها، والتصدي لها، واستخلاص النتائج والعبر والدروس المستفادة منها.. وإذا كان صحيحًا أن هذه الشدائد والنكبات أيضًا هي دوائر في حلقاتٍ يؤدي سابقها إلى لاحقها حتى يفيق الغافلون من غفلتهم، ويتصدَّوا للاّحق وصولاً إلى السابق.. وإذا كان صحيحًا أن النكبة الكبرى التي تجرعنا مرارتها في العام الثامن والأربعين من القرن الماضي قد أدت فيما أدت إليه إلى هزيمة العرب في العام السابع والستين من ذلك القرن، وأن كل جهود العرب التي بُذِلَت لاستعادة الحقوق خلال المسافة الفاصلة بين تلك النكبة، وتلك الهزيمة التي أعقَبتها قد باءت بالفشل والخسران على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية والفكرية والتعبوية لأسباب كثيرة منها هذا الإنسان العربي المهزوم المأزوم المهزوز المقموع الكاذب المنافق الذي داست كرامته الأنظمة الاستبدادية التي أذلت الإنسان، وأضاعت الأوطان، وأثبتت بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن الأمة المهزومة المقهورة الممزقة المنقسمة على نفسها لا يمكن أن تردَّ عدوانًا، ولا يمكن أن تحمي أوطانًا، ولا يمكن أن تُعلي بنيانًا، كما أثبتت بما لا يدع أدنى مجال للشك أن الانتصارات المؤزرة لا تحرزها إلا الأمم القوية التي جمعت شملها عقيدة واضحة السمات والقسَمات والمعالم، ووحد كلمتها مبدأ أنار سواء السبيل للناس، وقادها نحو النصر على النفس أولاً وعلى الخصم الطامع المتربص ثانيًا نظام أحق حقًّا، وأقام عدلاً، وأرسى دعائم إنصاف وعدالة ومساواة بين الناس، وأنار دربًا سديدًا، ونهجًا رشيدًا يسير عليه الحاكم والمحكوم بخطًى مبصرة واثقة يعرف كلٌّ من خلالها جيّدًا حدوده، ويعرف كلٌّ في كل خطوة يخطوها ما له وما عليه.. ووضع لها العلامات الواضحة والإشارات والتوجيهات والتعليمات على كل مساراتها ومداراتها ومساربها وطرقاتها وتوجهاتها وفضاءاتها، وفي كل شأن من شؤون حياتها دستورٌ لم يجامل، ولم يمالئ، ولم يحابِ أحدًا، ولم يرفع أحدًا على حساب أحد.. دستور وضع النقاط على الحروف من أجل ضمان العدل والعدالة، ومن أجل صنع أمة واحدة موحدة قوية تعيد صنع الحياة على هذه الأرض، وتعيد بناء الإنسان المتوازن المتزن المبدع القوي الفاعل في التاريخ.. إذا كان كل هذا صحيحًا، وهو صحيح، فإنّ العرب مطالبون- يقينًا- باستخلاص الدروس والعبر من كل تجارب الماضي، ومن كل هزائم الماضي التي عشناها، وعاشها كل أهل هذه الديار جيلاً بعد جيل.

ولئن أخفقَ العرب، ولم يتمكنوا من فعل شيء لفلسطين والفلسطينيين قبل النكبة، وفي أثناء صناعتها وتجسيدها على أرض فلسطين، وفي السنوات التي أعقبتها أيضًا، فلأنهم كانوا في غالبيتهم جهلَة منقسمين على أنفسهم متحالفين مع أعدى أعدائهم، تابعين للأجنبي، ينفذون خططًا ومخططات يرسمها الغرب لكل ديار العروبة والإسلام، ولأنهم لم يكونوا جادّين في فعل شيء، ولأن من كان منهم جادًّا سلط عليه الغرب أعوانه وأتباعه، ثم تدخل هو بنفسه للقضاء على طموحاته وأحلامه وآماله إن فشل الأعوان والأتباع... ولقد أسفرَ هذا كله، وكثير كثير غيره عن ضياع ذلك الجزء الأكبر من فلسطين في عام النكبة، وعن ضياع ما تبقى منها بعد ذلك في حرب حزيران.. شهر الآلام والإحباطات والانهيارات والأحزان.

ولئن تمكن الفلسطينيون بعد تلك "النكسة" التي حلَّت بهم من فرض وجودهم على أرضهم المحتلة هذه بطريقة أو بأخرى، ولئن تمكنوا من رفع صوتهم بشكل أو بآخر في الشأن السياسي والاقتصادي والمعيشي والصحي والتعليمي، ولئن تمكنوا من حماية مدارسهم ومساجدهم وكنائسهم وعياداتهم ومشافيهم وأرضهم التي احتلها الآخرون أيضًا من كل أشكال التحكم والعدوان، ولئن تمكّن قادتهم وزعماؤهم المحليون من قول كلمتهم في كثير من شؤون حياتهم الثقافية والاقتصادية والسياسية والإدارية، ولئن استطاعوا (في كثير من الأحيان) أن يردّوا الصاع صاعين لهذا الاحتلال ولإدارته، ولأحلامه، وأطماعه، ومخططاته، التي تستهدف وضع اليد على هذه الديار وإنسان هذه الديار بمختلف الوسائل، وشتى الطرق والأساليب، وكافة أشكال الإغراء والإغواء والترغيب والترهيب، فإن هؤلاء المحتلين قد عمدوا إلى أسلوب مختلف للنيل من ثبات هؤلاء الناس على أرضهم، وللنيل من إصرارهم على تقرير مصيرهم بأنفسهم، وللنيل من جرأتهم على قول كلمتهم مهما كلف الأمر.. لقد عمدوا إلى محاولة فرض الحلول علينا في هذه الديار من خلال تسويات "كامب ديفيد"، ومن خلال حلول تضمن لهم البقاء في ذلك المحتل منذ عام ثمانية وأربعين، وتضمن لهم في الوقت نفسه وجودًا فاعلاً في المحتل منذ عام سبعة وستين وصولاً للسيطرة الكاملة عليه بمرور الوقت، وعلى مراحل كما هو معروف من خلال تجربة الفلسطينيين على الأرض منذ اتفاقات أوسلو التي عارضها كثير من الفلسطينيين هنا في المحتل من الأرض، وعارضها أيضًا معظم الفلسطينيين في دول المواجهة، وفي الشتات، وعارضها كذلك كثير من العرب في دول الطوق.

ولقد كانت نتيجة ذلك كله أن ألقى الاحتلال بكل ثقله في اتجاهين: أما الأول فهو مضاعفة الجهود لتهويد القدس وتكثيف الاستيطان في معظم مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وأما الثاني فهو الدخول في مفاوضات هزلية لكسب الوقت من أجل تنفيذ المخططات والخطط التي تستهدف ابتلاع الأرض وزرعها بالمستوطنات، ومحاصرة المدن والقرى العربية حصارًا كاملاً أو شبه كامل مستفيدًا في هذا كله من تلك التقسيمات الأوسلوية لأرض الضفة الغربية، وتصنيفها بين (أ) و(ب) و(ج).. تلك التصنيفات التي نصت على أن مناطق (ج) البالغة مِساحتها 69% من أرض الضفة الغربية البالغة مساحتها (5879 كم2) هي مناطق إسرائيلية، وأن مناطق (ب) البالغة مساحتها 23% من مساحة هذه الضفة هي مناطق يخضع الأمن فيها للإسرائيليين، وأن 8% من هذه الضفة (470 كم2)، هي مناطق تحت حكم الفلسطينيين، ومع هذا فقد توالت الاجتياحات لكثيرٍ من المناطق المصنفة (أ) منذ انتفاضة الأقصى، وحتى أيامنا هذه، تلك الاجتياحات التي لم يكن آخرها ما حصل في نابلس ليلة القبض على حسام خضر ورفاقه ليل الأربعاء الخميس 2/6/2011، بل إن ما حصل في معظم تلك المناطق، ولا يزال يحصل ليدلُّ دلالةً قاطعةً على أن أوسلو لم تعطنا شيئًا أكثر من أن تكون مدن الضفة الغربية جيوبًا داخل أرض إسرائيل ليس إلا، ولا أعتقد أن أحدًا يستطيع أن يجادل في هذا بعد مرور نحو عشرين عامًا على توقيع تلك الاتفاقات.

ليس هذا ما جئت هنا لأقوله ونحن نحيي اليوم هذه الذكرى الخامسة والأربعين لحرب حزيران، ولأحزان حرب حزيران التي عشناها (نحن المتقدمين في السن) بكل ما فيها من رعب وخوف وحسرة وتمزق، ثم كانت إرادة الله أن تمتد بنا هذه الحياة لنرى هذين المؤشرين الكبيرين يلوحان في سماء هذه القضية الفلسطينية التي طال عليها الزمن.. هذان المؤشران لابد من التوقف عندهما قليلاً لنرى التحول في سير الحوادث والأحداث في هذه الديار منذ نشأة القضية الفلسطينية، مرورًا بحرب سبعة وستين، ولا أقول انتهاء بيومنا هذا من شهرنا هذا في بلدنا هذا، وإنما أقوله وصولاً إلى هذا الخامس من حزيران، بعد خمسةٍ وأربعين عامًا بالكمال والتمام على ذلك الخامس الأسود الذي أحال حياتنا جحيمًا، ولا نزال نعيش كابوسه المرعب، وإن كنا قد وضعنا أرجلنا على بداية طريق قد يجعل من هذه الذكرى البشعة بوابة نصر على الأحزان، وبوابة نصر على اليأس، وبوابة نصر على الأوهام، وبوابة نصر للإنسان وللأوطان وللحرية ولإرادة هذه الشعوب العربية التي تصارع من أجل حريتها وكرامتها، ومنها وعلى رأسها ربما شعبنا العربي الفلسطيني بشقيه المقيم هنا على أرض الوطن، والمشرد في الآفاق هناك فوق كل أرض وتحت كل سماء.

جئت هنا لأقول إن هذا الخامس قد أتى بشيء جديد كان قد أتى به سابقه الخامس عشر من أيار هو هذا المد الهادر، والموج الصاخب المتلاطم، والزحف الثائر الممتلئ قوة وعنفوانًا وإصرارًا على العودة إلى فلسطين!! صحيح أن الفلسطينيين والعرب الذين شاركوا في ذلك الزحف إنما أرادوا توجيه رسالة صارخة صاخبة هائجة مائجة إلى المجتمع الدَّوْلي كي يكف عن خوفه، أو تواطئه، أوتجاهله لحق الفلسطينيين في العودة، والعيش بكرامة فوق أرض وطنهم، والعيش بكرامة في مدنهم وقراهم ومزارعهم وديارهم التي أُبعِدوا عنها، وهُجِّروا منها عام ثمانية وأربعين، وعام سبعة وستين.. وإذا كانت هذه الرسالة قد وصلت، وإذا كان المجتمع الدولي قد فهم ما يريده الفلسطينيون والعرب المضيفون في أقطارهم المجاورة لفلسطين، فإن تكرار مثل هذا الزحف ضروري في كل مناسبة كهذه لإرسال مثل هذه الرسائل إلى أن تتحقق أهداف هذا الشعب العربي الفلسطيني في العودة إلى أرضه وممتلكاته ودياره في فلسطين كل فلسطين، لأنّ هذا من حقه، ولأنّ هذا ما نصت عليه قرارات الشرعية الدولية، ولأنّ هذا هو الحل، ولأنه بدون هذا قد لا يكون هنالك حل، وقد لا يكون هنالك سلم، وقد لا يكون هنالك أمن وأمان.. وإذا كنا حريصين على هذا كله توّاقين للسلام العادل، فإن هذا ما ينبغي على المجتمع الدولي أن يعمل من أجل وضعه موضع التنفيذ.. وجئتُ هنا لأذكّر باقتراح الجنرالات الصينيين، وبنصيحة ماوتسي تونغ لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك (أحمد الشقيري) إن أراد الفلسطينيون تحرير فلسطين، وبقي أن أشير إلى أن هذا الزحف قد يكون البداية لذاك الزحف الذي اقترحوه.. مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن تحقيق هدف الفلسطينيين في العودة بسلام سيحول حتمًا دون حدوث ذلك الزحف الكبير، وسيحول بالتالي دون وقوع كل هذه الضحايا التي تحدثت عنها وسائل الإعلام قبل تسعةٍ وأربعين عامًا من هذه الأيام.

وجئت هنا لأقول إن ما أنجزه كل هؤلاء وأولئك، وإن ما حققه الغرب في مصر بعد وفاة عبد الناصر وحتى ثورة الخامس والعشرين من يناير قد تبدد، وقد عاد هذا الغرب بالتالي إلى المربع الأول، وإن كل ما بناه الغرب، وما سيبنيه أيضًا، وما يحاول بناءه هنا وهناك في مصر وفي تونس، وما يحاول أن يفعله في بعض أقطار العروبة لن يمكّنه من أعناق هذه الأمة، ولن يتمكن معه من إخضاعها، ومن السيطرة عليها ومن تقسيم أوطانها.. فها هي مصر تعود إلى العرب من جديد، وها هي تونس أيضًا تعود إلى الحظيرة العربية من جديد، على الرغم من كل جهود الغرب للعودة إليهما، وعلى الرغم من كل محاولات قِوى الثورة المضادة للانقضاض عليهما.. كما جئت هنا لاقول في هذا السياق إن كل ما يجري على أرض سوريا لن يعيد الغرب إليها، وإن النظام السوري الذي يتمسك به كثير من اللبنانيين، وكثير من الفلسطينيين، والغالبية الساحقة من السوريين، وكثير من العرب، وكثير من دول الشرق، وكثير من دول أمريكا اللاتينية، وكثير من شعوب العالم هو نظام للمقاومة العربية، والممانعة العربية، وهو نظام يحتفظ برصيد هائل وطنيًّا وعربيًّا ودوليًّا وفلسطينيًّا.. بقي أن أقول في هذا السياق أيضًا إن كثيرًا من السوريين مظلومون، وإن كثيرًا من السوريين هم ضحايا هذه الحرب العمياء التي كان وراء تفجيرها من كان، وما كان! وإن كثيرًا من السوريين المعارضين كانوا ولا زالوا ينطلقون من منطلقات وطنية، ولكنهم أخطأوا الوسيلة والأسلوب، فما كان لعربي أن يقتل عربيًّا، وما كان لشقيق أن يقتل شقيقه، وما كان لرفيق أن يقتل رفيقه، وما كان لسوري أن يقتل سوريًّا!! وبقي أن أقول في هذا السياق إن كثيرًا من المعارضين السوريين غاضبون بسبب عدم جدّيّة النظام في تحرير الجولان العربي السوري المحتل، وعدم جدية النظام في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، وإلى جانب شعب فلسطين العربي.. وإذا كان هؤلاء المعارضون السوريون جادّين في هذا، وإذا كانت منطلقاتهم عروبية وطنية إلى هذا الحد فإن ما يطمحون إليه هو تصحيح مسار النظام القائم، أو استحداث نظام سياسي جديد يتخذ من استراتيجية العمل العسكري السياسي وسيلة لتحرير الجولان، ووسيلة لتحرير فلسطين، وهذا معناه باختصار شديد أن الغرب سيجد في سوريا دائمًا قلعة للعروبة، وقلعة للمقاومة، وقلعة للممانعة، وقلعة للتحرير والتحرر، وقلعة لنصرة لبنان، وقلعة لنصرة فلسطين، وقلعة تقف لكل مشاريعه بالمرصاد لسبب بسيط هو أن سوريا دائمًا هي سوريا، وأن سوريا دائمًا ستظل عصية على الركوع والاستسلام، وستظل عصية على الطامعين المتربصين، وعلى الحالمين بالمشاريع الخيالية الخرافية على الأرض العربية، وعلى كل الحالمين بإزالة سوريا عن الخريطة!!.

في الذكرى الخامسة والأربعين لحرب الخامس من حزيران نقول: يا حزيران.. يا بوابة النصر على الأحزان.. لقد علمتنا أن الشعوب هي التي تنتصر دائمًا.. لقد علمتنا أن الأمة العظيمة التي تصنع التاريخ هي الأمة القوية الحرة التي لا مكان فيها لجاهل أو متخاذل أو تابع أو مندس يُبطن خلاف ما يظهر.. وأن الأمة العظيمة هي الأمة التي تحدد أهدافها وغاياتها، وتسعى بثقة وقوة وحزم وعزم من أجل تحقيق هذه الأهداف والغايات، وهي الأمة التي تؤمن بالعدل والعدالة والإنسانية والسَّلم والأمن الدوليين وسيلةً لتحقيق سعادة الإنسان، وغايةً ينبغي أن يتعاون المجتمع الدولي من أجل وضعها موضع التنفيذ.

وفي هذه الذكرى الخامسة والأربعين لتلك الحرب لا يسعنا إلا أن نجدد الدعوة إلى وحدة العرب فوق كل أرض العرب، ولا يسعنا إلا أن ندعو هذه الأمة إلى مزيدٍ من الوعي والعمل الجادّ من أجل صنع الإنسان العربي الجديد، والنظام السياسي العربي الجديد الذي يحترم هذا الإنسان، ويحترم حقه في العيش بأمنٍ وأمانٍ وحريةٍ واحترام، ويحترم حقه في القول والتفكير والتعبير، ويحترم رغبته في التحرر والانطلاق والانعتاق من الأغلال والسلاسل والقيود والتبعية للأجنبي المستهتر بهذه الأمة، المجترئ عليها، الطامع فيها، الحالم بالسيطرة على ثرواتها ومقدراتها، وحرمان شعوبها من أبسط حقوقها في العيش الآمن الحر الكريم.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !