في الذكرى الثانية لغيابه عن محبيه
محمود درويش .. من الالتزام الحزبي إلى الانتماء العربي
لماذا انتصر الشاعر الكبير للأكراد ضد القومية العربية في البداية ؟
بقلم : حسن توفيق
هل يولد العبقري عبقريا ... أم أن العبقرية لا تتجلى ولا يمكن أن يتألق صاحبها ويتفوق على سواه إلا عبر مراحل النضج التي يجتازها على امتداد حياته ؟ هذا هو السؤال الذي أبادر بطرحه في أجواء الذكرى الثانية لغياب الشاعر الفلسطيني – العربي – العالمي محمود درويش، حيث غاب هذا الشاعر العظيم عن محبيه وعن الحياة يوم التاسع من أغسطس سنة 2008 مخلفا وراءه ثروة أدبية لا تقدر بثمن ، لا على صعيد الشعر وحده ، بل على صعيد الشعر والنثر معا .
الإجابة على هذا السؤال لن تكون سهلة بطبيعة الحال ، لو شئنا أن نتحدث عن العبقرية والعباقرة في مختلف الفنون ، وليس هذا ما أقصده ، فكل ما في الأمر أني أود أن أتحدث عن شعرائنا العرب الكبار والعظماء – قبل سطوع نجم محمود درويش – لكي نعرف هل كانت بدايات هؤلاء توحي أو تؤكد أنهم سيصبحون كبارا وعظماء أم أن هذه البدايات لم تكن تتيح لنا أن نعرف ما استطاع هؤلاء أن يحققوه فيما بعد ؟
هنا لا بد من أن نضرب أمثلة ملموسة وواضحة ، لكي نهتدي إلى طريق الصواب حين نحاول الإجابة ، فلو أننا نظرنا على سبيل المثال إلى بدايات بدر شاكر السياب ، فإننا سنتذكر أنه قد أصدر ديوانه الأول – أزهار ذابلة – سنة 1947 وكان عمره وقتها إحدى وعشرين سنة ، ومن يقرأ هذا الديوان لن يجد فيه ما يوحي بأن صاحبه سيكون شاعرا عظيما ، ولهذا السبب لم يشأ الشاعر أن يختار منه سوى ست قصائد لا أكثر حين أصدر مختارات منه فيما بعد ، أما صلاح عبد الصبور فإن ديوانه الأول – الناس في بلادي – قد صدر عندما كان صاحبه في السابعة والعشرين من عمره ، وكان ديوانا مثيرا لاهتمام الساحة الأدبية العربية كلها .
ماذا عن محمود درويش ؟
لقد تسرع هذا الشاعر العظيم حين أصدر ديوانه الأول – عصافير بلا أجنحة – سنة 1960 وكان وقتها شابا مراهقا في التاسعة عشرة من عمره ، ويبدو أنه قد ندم أشد الندم فيما بعد على تسرعه هذا ، مما دفعه لأن يحكم بالإعدام على هذا الديوان – كما سبق لي أن أوضحت في أكثر من مقال – بمعنى أنه قام بإلغاء هذا الديوان نهائيا من قائمة دواوينه ، التي تبدأ بديوانه الثاني – أوراق الزيتون – ولكن على أساس أنه الديوان الأول وليس الثاني ، وقد صدر أوراق الزيتون في طبعته الأولى سنة 1964 عن دار الكتب المختارة في مدينة حيفا ، أما طبعته الثانية فقد صدرت في مدينة عكا عن دار الجليل للطباعة والنشر في تموز – يوليو سنة 1968 وهي الطبعة التي أعتز بأن عندي نسخة منها، وقد قام محمود درويش فيما بعد بحذف ثلاث قصائد من كل الطبعات التالية من هذا الديوان ، وهي التي أسميها قصائده المجهولة ، لأن كل النقاد والأدباء العرب لا يعرفونها باستثناء قليلين جدا ، منهم الشاعر الكبير يوسف الخطيب ، ولم يكن مدهشا لي أن الذين اهتموا أشد الاهتمام بهذه القصائد الثلاث المحذوفة هم أدباء وباحثون من الأكراد ، لأنهم وجدوا أن شاعرا عربيا هو محمود درويش لا يكتفي بمجرد التعاطف العميق مع القضية الكردية ، وإنما يهاجم القومية العربية ذاتها رغم كونه فلسطينيا عربيا !
القصائد الثلاث المجهولة التي أتحدث عنها هنا للمرة الأولى هي قصائد كردستان – تحيا العروبة – شهرزاد وهي تحتل سبع صفحات- من ص 100 إلى ص 107 - من الطبعة الثانية لديوان أوراق الزيتون و التي أعتز- كما قلت - باقتناء نسخة منها . ومما يقوله محمود درويش في القصيدة الثانية التي سماها تحيا العروبة :
هل خر مهرك يا صلاح الدين ؟
هل هوت البيارق ؟
هل صار سيفك مارق ؟
في أرض كردستان ، حيث الرعب يسهر والحرائق
الموت للعمال إن قالوا : لنا ثمن العذاب !
الموت للزراع إن قالوا : لنا ثمر التراب !
الموت للأطفال إن قالوا : لنا نور الكتاب !
الموت للأكراد إن قالوا : لنا حق التنفس والحياة !
ونقول بعد الآن : فلتحيا العروبة !
مري إذن في أرض كردستان مري يا عروبة !
هذا حصاد الصيف هلا تبصرين ؟
لن تبصري ..
إن كنت من ثقب المدافع تنظرين
يا أمتي
هجمت على تاريخك الإنسان أشباه الرجال
باسم العروبة .. يستباح الدم .. تحكمك النعال
باسم العروبة يطعن التاريخ في شطآن دجلة والفرات !!
وما يلبث محمود درويش أن ينطلق منددا بمن تسببوا في نظره – وفتها – في إهدار دماء الأكراد ، وذلك في قصيدته شهر زاد :
يا شهر زاد
صدئت أساطير البطولة في لياليك الملاح
والذكريات البيض والمهر الذي ركب الرياح
والحب والأمجاد والسيف الذي مل الكفاح
عار على بغداد .. ما فيها مباح
إلا دم الأكراد في المذياع في صحف الصباح
لماذا كتب محمود درويش هذه القصائد ؟ ولماذا قام بحذفها بعد ذلك ، وكأنه يريد أن يتبرأ منها ومن مضمونها ؟ .. أستطيع القول بثقة إنه قد كتبها عندما كان أسيرا مقيدا لانتمائه السياسي إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي ينظر للقضية الفلسطينية باعتبارها مجرد صراع طبقي ولهذا ينبغي على العمال الكادحين من اليهود والعرب أن يثوروا ضد الرأسماليين الجبابرة سواء أكانوا من اليهود أم العرب ، لكي تتحقق العدالة ، وينعم الجميع بالأمن والأمان ! ويبدو أن الشاعر كان يريد – بدوره – أن يطبق هذه النظرة الخاطئة على القضية الكردية ، فالعمال والمزارعون الأكراد مظلومون وواقعون تحت وطأة الجبروت العربي الجائر ، ومن هنا نستطيع أن ندرك سبب اهتمام الأدباء والباحثين الأكراد بهذه القصائد الثلاث وكأنهم يريدون القول : وشهد شاهد من أهلها !!
لكننا لو راجعنا صفحات التاريخ فلا بد أن نتذكر أن الأكراد قد قاموا بحركة تمرد انفصالية بقيادة الملا مصطفى البرزاني ضد الحكومة المركزية في بغداد في سبتمبر سنة 1961 أي خلال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم ، وكان هدفهم إقامة دولة كردية على أرض شمال العراق ، وقد استعانوا وقتها بشاه إيران . والمثير في الأمر – وفقا لما قرأت من مصدر موثوق - ( أن أكراد العراق يتهمون عبد الكريم قاسم بأنه تلاعب بالقضية الكردية ، ففي سنة 1958 ومع إعلان الجمهورية العراقية دعى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، القائد الكردي الملا مصطفى البارزاني للعودة إلى العراق حيث كان البارزاني لاجئا في الاتحاد السوفيتي عقب انهيار الجمهورية الكردية القصيرة الأمد التي شكلها أكراد إيران في مدينة مهاباد وشغل فيها البارزاني منصب وزير الدفاع إلا أن الحكومة إنهارت بعد 11 أشهر من نشوئها حيث تم القضاء عليها من قبل الحكومة الأيرانية بعد انسحاب القوات السوفيتية من الأراضي الإيرانية حيت دخلت القوات السوفيتية جزءا من الأراضي الإيرانية إبان الحرب العالمية الثانية. كان البارزاني في ذلك الوقت قريبا من الخط الماركسي وعقدت مفاوضات في حينها حول إعطاء الأكراد بعض الحقوق القومية لكن تطلعات البارزاني وتذوق طعم تجربة الجمهورية الكردية في مهاباد جعلته يحلم بتجربة مماثلة في العراق وهذا الطموح فاق ما كان في نية عبد الكريم قاسم إعطاءه الأكراد من حقوق، الأمر الذي أدى إلى نشوب صراع بين الطرفين، حيث قام عبد الكريم قاسم بحملة عسكرية على معاقل البارزاني عام 1961، والتي من تداعياتها، يتهمه الأكراد بأنه اضطهدهم وألب عليهم العشائر العربية في الحويجة والموصل مما أدى إلى وقوع أحداث مؤسفة من إراقة الدماء وتنكيل بين المكونين الإجتماعيين العراقيين . )
وإذا كان محمود درويش قد كتب قصائده الثلاث سنة 1964 كما ذكرت وليس سنة 1965 كما يذكر الباحث الكردي سيامند إبراهيم ، فإن الانعزاليين والانفصاليين قد احتفوا بها ، وليس أدل على هذا من قيام مجلة شعر اللبنانية والمعروفة بعدائها للقومية العربية بل للعروبة بنشر إحدى هذه القصائد بعد نكسة يونيو 1967وذلك في سياق الشماتة ، ولكنها حذفت من القصيدة إشارة الشاعر إلى أرض كردستان لكي تكسبها بعدا أشمل وأكبر .
هكذا كان الالتزام السياسي بالحزب الشيوعي الإسرائيلي هو ما دفع محمود درويش لكتابة ما كتب ، أما انتماؤه العربي فهو الذي دفعه – فيما بعد - لحذف تلك القصائد الثلاث من جميع الطبعات التي تلت الطبعتين الأولى والثانية ، وكأنه كان يكرر تجربة الشاعر الرائد الكبير بدر شاكر السياب حين ابتعد عن الحزب الشيوعي العراقي ، لكي يعود – على حد تعبيره – إلى حضن أمته العربية ، لكن انتماء محمود درويش لأمته العربية فيما بعد لم يسعد بطبيعة الحال دعاة الانعزالية ، ولكي نتأكد من هذا يكفي أن نقرأ ما قالته مليكة مزان - وهي شاعرة وصفت نفسها بأنها أمازيغية متمردة - حيث قالت بالنص : إن محمود درويش قد ضيع عمره في الدفاع عن ثقافة عروبية استعمارية استغرقت قرونا لاكتساح أوطان الآخرين !!
أخيرا فإني لم أكن أنوي أن أتناول ما تناولته بشأن انتصار محمود درويش للأكراد في مرحلة مبكرة من عمره ، لولا أن كثيرين من الأدباء والباحثين الأكراد قد تناولوا هذه القضية من خلال وجهة نظرهم ، وكان لا بد من عرض وجهة نظري التي لم تبتعد عن حقائق التاريخ ، ولا بد هنا أن أتساءل : ماذا لو كان محمود درويش قد ظل أسيرا مقيدا بما يراه الحزب الشيوعي الإسرائيلي ؟ أعتقد أنه كان سيصبح ناطقا باسم هذا الحزب ، لكن عبقريته الشعرية وروحه الإنسانية هما اللتان أبعدتاه عن هذا المآل ، حيث أصبح شاعرا فلسطينيا – عربيا – عالميا بكل المقاييس ، وتبقى التحية من القلب لما خلفه هذا الشاعر العظيم من ثروة أدبية لا على صعيد الشعر وحده ، بل على صعيد الشعر والنثر معا .
magnoonalarab@yahoo.com
التعليقات (0)