الترجمة جسر للتواصل
العالم اليوم قرية صغيرة، سكّانها لا يتكلّمون اللغة نفسها. يصحّ أن نسميها "بابل" لولا وفرة المترجمين كوسيط في التعاملات الرسمية من جهة، وشيوع اللغة الإنكليزية كلغة ثانية عند معظم سكان العالم من جهة أخرى. اللغة الإنكليزية هي اليوم بطاقةٌ رابحة وسلاحٌ سليط في يد المتمكّن منها، أو مجرّد عكاز لأصحاب المهارات اللغوية المتواضعة، يتكئون عليه في قطف الممكن من المعاني والفرص المبعثرة في عالمنا. إن هذا الضعف في اللغة الإنكليزية - المستشري بشكل كبيرٍ في عالمنا العربي- لا يسمح لهذه اللغة بأن تكون دائما الحل، لا سيما وأننا نرى انعكاساتها السلبية في الإشكالات التي تنجم عن سوء التعبير أو سوء الفهم. العنصر الأول من عناصر التواصل -أي المترجم- هو الحل الأمثل، وقد فرض اليوم وجوده في المؤسسات والشركات الكبرى. أحيانا لا يتولى الترجمة واحدا من أصحاب الاختصاص، فقد توكل هذه المهمة إلى سكرتيرة ملمة إلمامًا عميقا بأكثر من لغة، أو موظفٍ في قسم المبيعات لديه مهارات لغوية وخطابية صلبة، يحرّكهم حسهم اللغوي والمعرفي والخطابي إلى نقل الرسالة اللغوية بكل معانيها ومضامينها (هذا الوضع ليس بالمثالي إذ يفضل أن يتولى هذه المهمة مترجمٌ متخصّص في هذا المجال، ولكنه اعتراف بأهمية توافر الملكة اللغوية لدى من يتولى عملية الترجمة، وإن كانت الملكة وحدها لا تكفي ولا بد من توافر عناصر أخرى تدخل في عملية الترجمة يتدّرب عليها المترجم في تعليمه الجامعي، سنتناولها في هذا المقال ومقالات أخرى إن شاء الله).
ما بين الترجمة التحريرية والترجمة الفورية
الهدف من الترجمة هو رأب الصدع في عملية التواصل. من حيث المسار، يتم في الترجمة التحريرية تفكيك المعنى، وإعادة تشكيله في اللغة الهدف، مع التركيز على الصياغة، واستخدام المصطلحات وتراكيب الجمل الأقرب إلى اللغة الهدف، واحترام خاصيّة اللغة المستعملة في كل نص من النصوص على مستوى تراكيب الجمل والصيغ (وهي تختلف مع اختلاف نوع النص: علمي، أدبي، قانوني إلخ). المترجم التحريري يملك الوقت لمعالجة هذه الجوانب ويأخذ بعين الاعتبار أن قارئ الترجمة يملك الوقت ليتمعن في النص. أما في الترجمة الفورية، ولما كان المتلقي أو المستمتع يتلقف المرسلة في إطار زمني ضيق، فيصّب تركيزه بشكل لا إرادي تلقائي على المعنى ولا يتوقف مطولا عند الشكل (لا سيما المصطلحات)، بالتالي، تنصّ وظيفة المترجم الفوري على نقل المعنى في قالب منطقي يتقبّله عقل المسمتع بسهولة...ولمزيد من التوضيح حول هذه النقطة، نتوقف عند ما ذكرته الأستاذة الفرنسية كريستين دوريو في كتابها " Fondement Didactique de la Traduction "يتعيّن على المترجم الفوري في الحقيقة أن يفهم اللغة المصدر كما يفهمها صاحبها الأصلي تماما، ذلك أن الوقت المتوافر لإدراك المرسَلَة لا يدوم سوى مدة قليلة جدا، ولا يعطى سوى لمرة واحدة فقط. في المقابل، لا يرتدي استخدام المصطلح التقني الصحيح الأهمية الحاسمة ذاتها التي يرتديها في مجال الترجمة المكتوبة ما دام أن المستمع يفهم الموضوع. ويستفيد المرتجم الفوري هذه المرة من أن وقت إدراك المرسلَة قصير جدا لدى المستمع أيضا، فيتذكر هذا الأخير مضمون المرسلَة وليس شكلها." (صفحة 34)
الصادر باللغة العربية عند "المنظمة العربية للترجمة" تحت عنوان "أسس تدريس الترجمة التنقنية"، ترجمة الدكتور هدى مقنص، توزيع: "مركز دراسات الوحدة العربية".
الإستباقية.... التحضير المسبق
الإطلاع على موضوع البحث أو الاجتماع وقراءة المواد المتوافرة حوله من كتب أو مقالات على شبكة الإنترنت. هذا ويفضّل أيضا مناقشة موضوع الاجتماع مع أقلّه طرف من طرفي الحديث- وعادة ما يتمثّل هذا الطرف في الجهة الموظفة للمترجم- وذلك للوقوف عند أبرز النقاط التي يعتزم هذا الطرف مناقشتها واستشرافالمعاني الدقيقة أو المفرادت التخصصية التي تحمل في طياتها مفاهيم جديدة قد لا نجدها في الكتب. فلننظر في عبارة "Intelligence-led"، إنها تعني الإرتكاز في العمل الشرطي على المعلومات الأمنية - أي المعلومات التي يتمّ جمعها وتحليلها بما يساعد على تقييم الوضع الأمني الراهن وتحديد خطوات العمل وذلك بهدف فرض الأمن في المجتمع. إن مبدأ العمل هذا مطبّق في الملكة المتحدة منذ سنوات وهو بالتالي شائع بين العاملين في المجال الشرطي هناك، ولكننا قد لا نجد شرحا وافيا بشأنه في الكتب الإنكليزية المتوافرة للعامة كونه يأتي في إطار تخصّصي ضيق جدا، ووحده الطرف الأجنبي يمكنه أن يقدّم مثل هذه التوضيحات، وبالتالي لا بد من التحدّث إلى هذا الطرف قبيل الاجتماع. من جهة أخرى، ولما كان مفهوم "الاستناد إلى المعلومات الأمنية" بمعانيه الضيقة غير متداول في العالم العربي ، لا بد للمترجم من 1) أن يقدّم شرحا ولو مقتضبا عن مفهوم "الاستناد إلى المعلومات الأمنية" -بعد أن امتلك فهما عميقا له بالطبع- ، أو 2) أن يلفت نظر الوجهة الغربية إلى عدم شيوع هذا المبدأ في المجتمع العربي وأن يطلب منه أن يقدّم شرحا أثناء الاجتماع - حتى لا يحصل ارتباك في وسط الجهة المقابلة أو الطرف الثاني-، فيكون المترجم بذلك وسيطا بين حضارتين أو مجتمعين مختلفين، ويتعدى دوره دور الوسيط اللغوي ويكون وسيطا مفيدا على أكثر من صعيد.
التغلّب على الصعوبات اللغوية بالانعتاق من الشكل أو القالب والتركيز على المعنى:
يواجه المترجم الفوري كلمات أو عبارات لا يملك مرادف لها في اللغة الهدف. صادفت في واحد من الاجتماعات كلمة "منجل" وما أدراني بمرادفها بالإنكليزية! وهي من مفردات عالم الزراعة الذكوري (برأيي) ولم أرغب يوما في الغوص فيه. الترجمة الفورية لا تعطي مجالا كبيرا للتمحيص وكان لا بد من ترجمة سريعة فارتأيت أن أشرح هذه المفردة بجملة تفيد المعنى "أداة زراعية لتشذيب الأشجار" a tool used in trimming trees حيث أن القصد من ذكر كلمة المنجل، كما وردت في سياق الحديث، كان المعنى العام وليس تحديد أداة زراعية معيّنة. (يكون الوضع مختلفا لو كان الإجتماع يتمحور حول عالم الزراعة، حيث يتوجب على المترجم الفوري أن يعدّ ملفا بالمفردات المتخصّصة بموضوع النقاش أو الاجتماع، والسبب أن العبارات التخصصية تحمل في طياتها معاني تخصصية لا تبرز إلا من خلال المفردة بحد ذاتها وبالتالي من الأفضل الالتزام بها). الوضع المثالي هو بأن يكون في جعبة المترجم الفوري لائحة واسعة أو شبه شاملة بكل الكلمات أو المفردات في لغات العمل، ولكن كلنا يعرف أن هذه الخطوة شبه مستحيلة، المهم أن يضيف المترجم الفوري الجديد كل يوم إلى معرفته. عدت إلى المكتب وبحثت عن مرادف كلمة "منجل" بالإنكليزية وهي كلمة scythe ، وهي الآن في جعبتي ولن أنساها :)....it is never too late.
عدم نسخ تراكيب اللغة الأصل
إن ضيق الوقت لا يسمح بتزيين الكلام بعبارات منمّقة، يكفي المترجم الفوري أن يستمع إلى المتحدث فيستخرج المعنى أو الرسالة المتواخاة، بكل تفاصيلها، ومن ثم أن يلعب هو نفسه دور المتحدث ويعيد صياغة المرسلة باللغة العربية وفقا لتراكيب هذه اللغة، بوضع الفكرة في القالب اللغوي المناسب لها في اللغة العربية - أو بكلمات مقتضبة "أن يفكّر" باللغة العربية- عوضا عن مسح الجمل أو الأجزاء من الكلام كما وردت في اللغة الإنكليزية ونسخها/مسخها -أضحك- إلى العربية بكلمات عربية ولكن في تراكيب أعجمية.
حتى لا تكون ترجته ممسوخة تشبه- من حيث تعدّيها على منطق وخصائص اللغة- عمليّة الوسلفة : عملية تستند إلى اسم "لويس ولفسون" فصامي يهودي أميركي لم يكن يطيق سماع أو قراءة لغته الأم الإنكليزية، وطوّر تقنية معقدة للترجمة الفورية بحسب الأصوات، فيترجم الكلمات مستخدما المجانسة اللفظية بين اللغات، ثم يجمع الترجمات في جمل هي أشبه بالمسوخ اللغوية لكونها مكتوبة في عدة لغات (the violence of language, Jean-Jacques Lecerlce, صدر عن "المنطمة العربية للترجمة" تحت عنوان "عنف اللغة"، ترجمة الدكتور محمد بدوي، توزيع "مركز دراسات الوحدة العربية").
الربط ما بين عناصر المعنى والجمل
عادة ما يستلزم التعبير عن فكرة معينة أكثر من جملة، وهو يأخذ شكل المقطع في النصوص المكتوبة، أي أن المقطع يسهم في إعطاء الفكرة إطارها المادي ويعتبر وحدة فكرية. وفي الكلام الشفهي أيضا لا بد من أكثر من جملة للتعبير عن فكرة معينة، أي مقطع كلامي. وعادة ما يميل المتكلم إلى عدم التعبير عن فكرته في مقطع كلامي متواصل، بل يتوقف في نهاية كل جملة أو جزء من الجملة ليفسح المجال أمام المترجم. الخطر هنا هو في التباعد الزمني ما بين الجمل التي تكوّن فكرة واحدة، ولا بد للمترجم من وضع الكلام في إطار متّسق، وأن يتذكر الجملة السابقة أو أقله نهاية الجملة حتى يشكل بداية الكلام ويضيف الظروف articulators المناسبة فيصيغ الفكرة في إطار منطقي وتسلسل منطقي (تبيان التضاد أو التلاقي في المعنى...). المفتاح للنجاح في هذه الخطوة هو في أن يلعب المترجم دور المستمع -كجزء من الحوار- ثم دور المتكلم، كأن ينغمس في الحوار ويتابع التطور والمنطق في عرض الأفكار عوضا عن التركيز فقط على المفردات.
المتحدث يسرع في الكلام ويكثر من التفاصيل (لا سيما التعداد):
الاختزال هو الحل، وهنا نستطيع القول إن الاطلاع الواسع على موضوع النقاش إنما يساعد في الترجمة. فإن تكلّم المتحدث عن analysis of Strengths, weaknessres, opportunities, & threats، وحيث أن المترجم الفوري يدرك، بفضل سعة اطّلاعه وتحضيره المسبق للاجتماع، أن المتحدث يتكلم عن تحليل الـ SWOT ويستطيع بالتالي أن يعيد تركيب المعنى أو أجزاء الكلمة باللغة العربية، فيتحدث عن "تحليل نقاط القوة والضعف، والفرص والتهديدات" من دون تكريس طاقته التركيزية على تذكر عناصر التعداد، بل يعتمد على معلوماته. هنا لا بد من الإشارة إلى الخطر في الاعتماد على المعلومات العامة والمتمثل في إضافة كلام لم يأت على ذكره المتحدث، بالتالي لا بد من الاستماع بكل وعي إلى المتحدث، والانتباه إلى التفاصيل التي لم يتم ذكرها ليتم تفاديها في الترجمة.
اللغة النحوية
اللغة المكتوبة "النحوية" هي لغة ثابتة -نوعا ما- مثبتة من خلال قواعد تحدّد أطر استخدام هذه اللغة- بين مسموح وممنوع-، معالمها واضحة معمّمة وسط طائفة واسعة من المستخدمين بفضل كتب القواعد والنحو (كلمة نحوية، مشتقة من "نحو" أي قواعد اللغة)، ومن خلال معايشة هذه اللغة في الكتب ووسائل الإعلام التي تفضّلها على اللهجات المحلية التي تبقى محصورة في إطار مجموعة ضيقة من الناس لأنها غير محدّدة المعالم -إن من ناحية المفردات، أو من ناحية صياغة الجمل على مستوى النحو. بالتالي، لا بد من الالتزام باللغة العربية النحوية ولا سيما عند تتعدّد خلفيات المستمعين، الجميع يفهم اللغة العربية "النحوية" الرسمية، أو لِنَقل لغة الجرائد، ولكنهم لا يفهمون جميعهم اللهجة اللبنانية، أو اللهجة الجزائرية، إلخ...
صيغة النقل غير المباشر
عادة ما يُعَرِّف المتكلم بنفسه عند بداية الإجتماع، وبعد خبرة وبعض الموقف المضحكة، أقول إنه من الأفضل استخدام الصيغة غير المباشرة indirect speech، كأن يقول المترجم: السيد فلان الفلاني وهو كذ كذا أتى ليتحدث اليوم عن كذا وكذا بدلا من أن يقول "أنا السيد فلان الفلاني إلخ...-وفي هذا الأمر فصلٌ بين شخصية المتكلم وشخصية المترجم الذي يحتاج إلى كيان خاص به خاصة وأنه يستطيع أن يتعدى في دوره الدور اللغوي وأن يكون وسيطا بين طرفي الحديث، وسوف نتوقّف عند هذه النقطة في ما يلي.
تصحيح أخطاء يقع فيها المتحدث
لا غرو من ذلك، طالما أن التصحيح يخدم المعنى، لا سيما في حال طال هذا الخطأ مادة تم التحدث بشأنها بين المترجم والمتكلم قبيل الاجتماع، فيكون المترجم متيقنا مئة بالمئة من صوابية رأئه حول الخطأ وأنه بتصحيح الخطأ يعكس نية المتكلم من حديثه... مع لفت انتباه المتحدث إلى هفوته- بدون التسبب في أي إحراج.
الجلوس في المكان المناسب
لما كان المترجم هو وسيط بين فردين أو أكثر يتناوبون دور المتكلم والمستمع، لا بد له أن يكون على مسافة واحدة من الجميع، حتى يتمكن أولا من الاستماع إلى أي من المتكلمين، وثانيا حتى يتمكن إلى إيصال الترجمة إلى مسمع أي من المشاركين في الاجتماع، مع الإشارة إلى أن المترجم الفوري هو جزء لا يتجزأ من الاجتماع، والانزواء في زاوية بعيدا عن الضوء قد يحميه ويزيل عنه جزءًا كبيرًا من المسؤولية ولكنه بالتالي يقلص من دوره في عملية التواصل ويمنعه من أداء دوره بالكامل. يجب أن تتوافر في جعبة المترجم الفوري الأدوات التي تساعده في التركيز كعدد من الأقلام والدفاتر، فلا يجد نفسه خاوي اليدين، أمام مجتمعين يحتدم بينهم النقاش ولا يتركون له الوقت للترجمة، وإذ به يضطرّ إلى ترجمة خمس دقائق من الكلام المتواصل، ما يوازي عشرات الصحفات، ولم يتسنّ له تدوين الملاحظات بسبب عدم توافر الأقلام والورق بين يديه. السر هو دائما في التفاصيل، والمترجم الفوري الناجح هو ذاك الذي لا يستخف بأي جانب، أيا كان، من جوانب عملية التواصل.
ولاء المترجم لجهة واحدة أو لجهتي الحوار؟
ولاء المترجم هو أولا للجهة التي تسدّد أتعابه، لا غرو في ذلك، وبالتالي لا بد له من أن يفهم الهدف من الاجتماع وأن يكون رافدا لأفكار هذه الجهة، فمثلا إذا كان الهدف من الاجتماع إقناع الجهة الأخرى بتبنّي فكرٍ معيّن، وفي حين يبذل المتكلم قصارى جهده في استخدام الكلمات والعبارات التي تساعد في تقريب وجهات النظر (طبقا لمهارات المتكلم في الإقناع)، لا بد للمترجم الفوري أن يلتمس هذه المحاولات وأن يعكسها في عباراتها. وهنا أتوقف عند النعوت التي تعطي الكلام سحنتها العاطفية، يجب المحافظة على الدرجة التي توخاها المتكلم، فالترجمة الخاطئة يمكن أن تؤدي إلى وقف المباحثات، فينتهي الاجتماع إلى نتيجة عكسية ولا يدري البعض الأسباب؟ يجب على المترجم أن يعكس في ترجمته نية الطرف الآخر ومدى تجاوبه مع طروحات الجهة الأولى فيكون وسيطا بين الطرفين. حذار، يجب أن لا تضيع في الترجمة الشحنة العاطفية التي تتبين من خلال اختيار الكلمات، علما أن نقل الشحنة العاطفية بالدرجة نفسها هو تحدي من أكبر التحديات التي يواجهها المتجرم، فالدقة على هذا المستوى تؤثر في المعنى، وفي مجرى الأحداث.
لغة الجسد
الجميع بات يدرك اليوم أن الكلمات بحدّ ذاتها تنقل جزءا من المعنى أو القصد من فعل الكلام، في حين أن لغة الجسد أو أسلوب التعاطي له الدور الأكبر في تحديد النوايا. لهذا السبب، يتوجب على المترجم ، الذي "يُحسب" على الجهة التي تسدد أتعابه، أن يتنبّه إلى أي "حركة" يأتي بها (أبسمة كانت فيها شيء من السخرية، أو إيماءة) ستُحمّل على عاتق "جهته" وكأنها جزء من عملية التفاوض. من هنا تأتي أهمية فهم إطار التعامل، فإن كان المتكلم يتوخى طمأنه الجهة المقابلة، لا بد للمترجم أن يبيّن ذلك في جلسته، مع عدم الإفراط في التحبّب فيما لو كان الطرف المتكلم يتوخّى توضيح مدى جدّيته وتمسّكه في ما يقوله. هنا أشدد من جديد على ضرورة الالتزام بدرجة "الشحن العاطفي" الذي يتبيّن من خلال الجسد -وليس الكلام بحد ذاته كما سبق أن ذكرنا أعلاه-. في بعض الأحيان قد يلجأ المترجم الفوري إلى الموقف أو النبرة الخاوية من الدلالات ليضع نفسه على مسافة واحدة من الجميع، ويذكّر بأنه مجرد وسيط، في حين أن الجميع يدرك أن دوره قد لا يكون كذلك.
الترجمة التتابعية في المحاضرات
الانتباه إلى نبرة الصوت: هنا يلعب المترجم الفوري دور الأستاذ الجامعي أو المذيع (أتخيل نفسي في الدور الثاني أكثر نظرا لأنني صغيرة في العمر مقارنة بالمستمعين وأيضا لأن العلاقة الفوقية بين الأستاذ والتلاميذ هي معكوسة). يمكن اعتماد التسجيل الصوتي أسلوبا لمراجعة الأداء، هل أملّ من الاستماع إلى ترجمتي؟ هل الكلام واضح صياغةً ونطقا؟ هل أن التتابع في الأفكار واضح ومنطقي؟
لا بد من شحن الكلام بشيء من الحماس، فالمستمع -في حال الترجمة التتابعية- إنما يبذل جهدا مضاعفا فسيتمع أولا إلى اللغة الأساس (لا سيما في المحاضرات الملقاة بالإنكليزية) فيحاول أن يلتقط ما يقدر عليه من المعنى، ثم يستمع إلى الترجمة (في اللغة العربية) ليؤكد أولا من أن المعاني المبدئية التي التقطها هي صحيحة، ثم ليزيد عليها التفاصيل التي تساعده الترجمة على إدراكها. المحاضرة تمتد على فترة زمنية أطول، وهذا عنصر لا يجوز تجاهله.
أن المحاضرات لها طابع رسمي كبير يفوق بحدته الطابع الرسمي في الاجتماعات، ويكون التواصل على مستوى الرسالة والمعنى أكثر منه على المستوى الشخصي، وإن كان الهدف منها هو الإقناع بفكر معين أو مبدأ معين، لكن المسافة مع المستمع تكون دائما أكبر مقارنة مع المسافة التي تفرضها الإجتماعات المصغّرة.
التعليقات (0)