أظن أن تهميشا متعمدا بشكل ممنهج يطال الإنسان في إنسانيته التي هي «الهوية» الأرقى المشتركة بين الناس أجمعين والتي تُميزهم عن سائر الكائنات الأخرى من حيوان ونبات وجماد. وحتى هذه الأخيرة يُخضعها الإنسان في تعامله معها إلى أعراف ونواميس وخطوط حمر إذا تجاوزها لحقه أذى الطبيعة.
يبدو أن الإنسان -ما أكفره- استعذب أنانيته فانشغل بها عن إنسانيته لتنحدر،من حيث يدري أو لا يدري، إلى مرتبة دون مرتبة الهوية الدينية/العرقية/الثقافية وما شاكلها من تصنيفات فئوية ونوعية وإقليمية... والنتيجة عوض أن تكون الهويات والحضارات ملهمة للإبداع وحقلا خصبا للتلاقح وإسهاما بديعا في جمال الكون وعامل إثراء للرصيد الإنساني بتنوعه تحولت، في ظل تهميش «الإنسانية المشتركة» كصمام أمان، إلى تحريض على التباغض والعنف والتحقير...
في كتابه «الهوية والعنف:وهم المصير الحتمي» (ترجمة سحر توفيق-عالم المعرفة) يستدل المؤلف «أمارتيا صان» (فيلسوف واقتصادي هندي محرز على جائزة نوبل في الاقتصاد 2004.) بقصة ذات مغزى عميق على : «أننا أحيانا قد لا نكون مدركين لتعريف الآخر لنا،وهو التعريف الذي قد يختلف عن إدراكنا لذواتنا».
ملخص القصة التي تعود إلى العهد الفاشي في إيطاليا،أن أحد دعاته طلب من أحد المنتمين إلى حزب آخر الانضمام إلى الحزب الفاشي، فاعتذر المعني بتعلة أن انتماءه السياسي ورثه عن أبيه وجده. وللتدليل على عدم وجاهة التبرير،ولحمله على الاستجابة للطلب، فاجأه الداعية الفاشي بالسؤال عما يكون موقفه لو كان والده مجرما وجده أيضا؟.. أجابه: «عندئذ، بالطبع، سأنتمي للحزب الفاشي».
لا نهتم هنا «بفاشية موسيليني» التي خرجت من رحم أزمة خانقة اقتصادية واجتماعية عاشتها إيطاليا على إثر الحرب العالمية الأولى،وإن كان التوقف عندها على غاية من الأهمية في قضية الحال،إنما نكتفي بالتأمل في الموعظة من القصة التي أوجزنا سردها، وهي، مع طرافتها، لا تخلو من إيحاء بالتحقير من خلال حوار يبدو متكافئا، لكنه استفزازي تجاه الاختلاف في قناعة شخصين من نفس المجتمع غلبا انتماءهما السياسي على قداسة الانتماء المشترك للإنسانية.ولنا أن نتصور ما يُمكن أن يقود إليه عنف لفظي،رغم جنوحه الظاهر إلى الحجة والظرْف.
إذا كان الحوار العنيف الذي يهدف إلى تحقير الآخر والاستهانة بقناعاته ومعتقداته منبوذا إنسانيا وأخلاقيا ودينيا فما عسانا نقول في حوار العنف المادي بكل أشكاله؟..ما عسانا نقول في حروب تحكمها عصبيات وهويات في شكل تحالفات تعتدي على الآخر ولا تختلف كثيرا،في جوهرها،عن النازية أو الفاشية وإن تجملت بمساحيق حضارية كالادعاء بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ومقاومة الفكر الظلامي والسلوك الوحشي؟
وواضح اليوم من خلال الأحداث التي نعيشها ترويعا وجمرا ودماء أن الكثير من العرب والمسلمين «المستضعفين في الأرض» هم في مقدمة ضحاياها.لنفترض أن الضحايا طالبوا بالانخراط في تحالف الأقوياء من منطلق «الإنسانية المشتركة» بما تعنيه من احترام متبادل وحظوظ متكافئة في الفعل الحضاري بمفهومه النبيل...حتما لن يُقبلوا إلا تابعين مستعبَدين مُحقرين،كما هو الحال،مثلا،في انخراط ملتبس في فرنكفونية أو متوسطية،في حين أن تركيا التي «خرجت من جلدها»أو كادت من أجل عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي ما تزال تُقابل بالرفض «الوقح» أو المماطلة لأن «جينات الأتراك الوراثية» إسلامية والحال أن الأصح أنها إنسانية فوق أي هوية أخرى.
العربي والمسلم إنسان قبل أن يكون هوية قومية أو دينية،والتحريض على عداء الهوية وتهميش الاشتراك في الإنسانية هو الذي يصنع الإرهابي والمحتج والرافض «للنظام العالمي الجديد» رغم الإعجاب بما حققته الحضارة الغربية الحديثة من مكاسب باهرة أمكن للشعوب قاطبة،بتفاوت، الاستفادة منها بإرادة المهيمنين أو رغما عنهم.
ثمة تحريض على الانعزالية والتقوقع في الهوية الدينية أو العرقية أو المذهبية أو الثقافية على حساب اشتراكنا في الإنسانية.ثمة اعتداء متعمد على الإنسان المستضعف بتجريده من إنسانيته ثم سلخه.والأمثلة كثيرة ليس آخرها ما كشفه موقع «ويكيليكس» من فظائع هي وصمة عار في جبين الإنسانية قبل أن تتضرر منها الحضارة الغربية المستكبرة.
لا أعتقد أن هناك من لا ينظر بعين الإعجاب والتقدير للدنمارك،مثلا،وهي تتصدر دول العالم في تقرير منظمة الشفافية الدولية غير الحكومية وبالتالي تبرئتها من الفساد،لكن هذا التفوق، من منظار المسلمين، على الأقل، يخفت بريقه إزاء نشر صحيفة دنماركية لرسوم كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد اكتفت وزيرة الخارجية، بعد كل التذمر والاحتجاج الإسلامي بالاعتراف أنها عبرت لشيخ الأزهر(كأنها ترى فيه «البابا» للمسلمين) عن : «أسفها لأن كثيرا من الناس شعروا بالأذى من الرسوم، وأن حكومتها تُدين تحقير أي جماعة على أساس دينها أو عرقها.»(والكلام ديبلوماسي) نافية تقديمها لاعتذار أثناء زيارتها الأخيرة للقاهرة.
ومع ذلك، وحتى يجد المسلمون بعض ما يُسكنون به أوجاعهم الكثيرة كجاليات مغتربة أو كشعوب تُمزق بعضها الطائفية وأخرى قهرها الجهل والفقر والفساد وثالثة احتلتها جيوش الغرب الغازية، فهي تبتهج لأية بارقة أمل تأتيها في خطاب لأوباما أو في شهامة «أردوغانية تركية» وحتى في إعلان شقيقة زوجة توني بلير اعتناقها للإسلام...
لنفترض أن هناك من قادة العالم المتحضر من سكنته قناعةٌ مفادها أن الإسلام دين متخلف وإرهابي،فهل يعتقد أنه بالتحريض عليه عنفا فكريا أو ماديا سيُجهز عليه؟.. ما يحدث اليوم هو أنه كلما كان التحريض أعنف ضد الإسلام،تمكن هذا الدين من انتشار أوسع وأفرز، بفعل القهر، مزيدا من المتشددين...
في سياق آخر لكنه متصل يقول أمارتيا صن :»..ينطبق هذا،على سبيل المثال، على اليهود الموجودين في إسرائيل اليوم،وليس في ألمانيا في ثلاثينات القرن العشرين، فلو استطاعت الأحداث الوحشية للثلاثينات أن تُنهي إلى الأبد حرية شخص يهودي وقدرته على اتخاذ أي هوية أخرى إلا هويته اليهودية، لكان ذلك نصرا بعيد المدى للنازية».
ولعمري أن الكراهية الحمقاء التي تستفحل بيهود إسرائيل ضد الفلسطينيين هي التي ستزيد الأخيرين تشبثا بهويتهم ووطنهم فضلا عن تعميق الهوة بين هويتين مختلفتين قد تنتهي بكارثة تاريخية أشد فظاعة.
التعليقات (0)