إنها المصالحة القادمة. لا تعرف الأمة من ستشكر عليها من زعمائها وعظمائها, فقررت شكر الجميع. وتوقفت عن رؤية كل المسلسلات العربية منها والتركية, المغطية لكل المحطات الفضائية والأرضية, وتحولت لترى بداية المصالحات العربية العربية ــ بعد مواسم الردح و النزاع ــ من عناق وتبادل للكلمات المؤثرة الودية والوطنية والقومية. مصالحات سوف لا تكون كغيرها من سابقاتها, كما يعلن القيمون عليها, فهي هذه المرة تاريخية مختلفة في تاريخيتها عن التاريخيات السابقة, مختلفة لاختلاف المرحلة ودقتها, وقد يكون أيضا موصى عليها من وراء البحار. فتاريخنا المعاصر يكتب وراء البحار.
إنها المصالحة المتولدة عن الحكمة العربية المعاصرة. قد تغيب الحكمة عند عرب السياسة بين حين وحين, ولكنها لا تغيب بشكل نهائي. فالغياب والعودة هما من السياسة وفي السياسة. والسياسة فنون. وهي كذلك مصالح ومنافع, وجاه وعز, وثراء وسلطة. حكمة مختلفة عن الحكمة اليونانية زمن الإغريق. لم يدركها لا سقراط ولا أفلاطون ولا أرسطو. وليست في تجليات القانون والبلاغة والخطابة كما كانت عند الرومان و الروماني سيسرون. ولا عند العرب في صدر الإسلام وعصور ازدهار الحضارة العربية. ففن الخطابة والإقناع بالمنطق والحجة, يجافي غالبية زعماء الأمة المتعلم منهم أومكتسب العلوم بالفطنة وبالفطرة. ولا غرابة فقد تأتي الحكمة من الفطرة والتجربة, والتجريب في رقاب ومصائر العباد. وقد تقتضي أحيانا من زعيم مهدد أن يلوح بعصاه المارشالية في كل الاتجاهات, ويرقص بها رقصات النصر المبين. ويرفع حذائه ليضع المحاكم الدولية, والداخلية إن وجدت, والرؤساء وكل الكارهين المعادين من عرب وعجم تحته. فالتهديد القادم من محاكم الخارج ليس فقط لرئيس شاءت أن تختاره وترسله مشيئة الله ليحكم مؤبدا بلده, وإنما هو تهديد للحصانة وسيادة هذا البلد وشعبه وسلمه وأمنه ومستقبله وقيمه ومعتقداته, ويتعداه لتهديد الأمة كاملة. فكل هذا كامن في الرئيس, والرئيس وحده تجسيد لكل هذا. تنهار البلاد بانهياره. وكأنها ليست في طريقها للانهيار من أفعاله !!!.
النصر الدائم والخير معقود في نواصي الزعماء, كأصائل الخيل, كيفما فعلوا وأينما اتجهوا تشددا أو اعتدالا. في قممهم أو خارجها. فكل زعيم قمة. نصر في الخلافات وانتصار عليها, ونصرفي المصالحات ولأجلها.
حكمة ومصالحات وانتصارات استوجبت بحق إلغاء كلمة الهزيمة من قواميسهم, ومن أدبياتهم, فاستُبدلت بألفاظ رقيقة مخففة تتضمن بعض النصر إن لم يكن كله. وعليه تخلصت لغتنا العربية من كلمات ومصطلحات زائدة ثقيلة على الأسماع, منها, للإشارة لا للحصر: الاستقالة على عين الحياة. المسؤولية, أمام الله والوطن والتاريخ, عن المصائب والملمات. التداول على السلطة قبل الوفاة. الديمقراطية. الحرية. الكرامة. الإنسان. حقوق الإنسان... ليصبح التذكير بأي منها, أو بوجود مثلها في عالم اليوم في أماكن غير عربية, رغم كل حذف وإبعاد, جريمة يعاقب عليها عقابا عسيرا يصل إلى الاستئصال من الوجود, والإرسال للحياة الآخرة, وفي أحسن الأحوال للسجون والمهاجر.
وعليه لا يمر يوم من أيامنا العربية دون نصر, ولو بزيارة زعيم لزعيم. أو إصدار فرمان أو مكرمة. أو بسقوط المطر بعد جفاف. أو بكتابة صحفي في صحيفة أجنبية عن موقف يمكن أن يُحرّف, قبل الترجمة أو بعدها, ليعتبر انجازا وطنيا وقوميا وذو أبعاد دولية, لعظيم من العظماء وشهادة أجنبية عليه .. فأصبحت انتصاراتنا متواترة ومستمرة, انتصارات لا يحسدنا عليها احد في هذا الكون, ولا تتمناها لنفسها امة من الأمم أو شعوب من الشعوب. انتصارات من نوع خاص وبطعم خاص, من ابتكارات تعويضية وتحريفية, ليبقى واقعنا خارج قوانين الطبيعة. وعكس منطق الأشياء.
أما الانتصارات الحقيقية التي لا يستطيع إنكارها عليهم إلا مكابر فهي:
اولا: قهر هؤلاء للزمن وتحديه في البقاء, رغم عواديه ونوائبه. فكم من زعيم عربي عاصر عشرات الزعماء غير العرب الخارجين من السلطة, أحياء, بفعل إنهاء القانون المنظم لزمن ولاياتهم وحكمهم. الزمن المنظم بقانون لا يحترم أحدا ولا يقدس زعيما أو عظيما, وعلى إرادته ينزل الجميع.
ثانيا: انتصار عليه بلي عنقه, وتحويل مساره, إن لم يكن في الإمكان إيقافه. وتحويله لزمن عربي بامتياز لا يشبه غيره من الأزمان في أي مكان. حتى أن عظيما منهم يحاول تغيير أسماء قرونه السالفة, وسنواته, وشهوره, وحسابات أيامه, وساعات دوامه !!!.
ثالثا: الغاء أحلام أجيال وأجيال, عبر الزمن, في مستقبل مشرق وحياة كريمة, ليبقى الجميع ضمن شروط وظروف زمنهم المفروض, الزمن العربي الرديء.
لا نعتقد أن قارئا عربيا واحد "يقبض" بجد المصالحات العربية, أو يتوق لسماع تحليل في أصولها وفروعها, وأهدافها, وطبيعتها, وديمومتها, ومع ذلك عليه الاستماع للإعلام والكتاب, والمحليين, و السياسيين, والمعلقين, والناطقين, بتكليف أو بدونه, باسم السلطة. وعليه أن يقرأه, ويبقى جادا ومتماسكا داخليا وان تظاهره خارجيا, كتابات هؤلاء, ذات النسق الواحد, والهدف الواحد, فقد تعود عليها من عقود, وسئمها من عقود, وكرهها من عقود. مقالات يتجاوز كل منها طولا المعلقات السبع كاملة, وان كانت تفتقد كليا لشاعرية هذه الأخيرة وعذوبتها, ودقة صورها وأوزانها وألفاظها المفهومة والمعبرة عن قيم في الجاهلية اقر الإسلام كريمها . كتابات سياسي عصرنا العربي الحالي, عصر الانحطاط العائد بقوة, جاهلية لا يقر احد "قيمها". كتابات حين تخرج من دائرة المديح والتملق, تقع في دائرة أقذع الهجاء, أو تجمع المديح والهجاء في المقال الواحد والتحليل الواحد, والتبشير الخالد. كتابات, رغم تناقضاتها وارتزاقها وتخلفها, تجمعها بعض الصفات الأساسية : السطحية أو التسطيح الأصيل أو المقصود . الضلال المبين والتضليل المتعمد. إعادة الاعتبار والتقديس للأصنام البشرية. الكتابة بالريشة وحدها لخفتها وقابليتها للتقلب بفعل كل نسمة أو ريح. التحريض على تكسير كل رصين الأقلام.
كيف لكاتب, أو معلق, أو مراقب سياسي, أن يكتب متفائلا, ويتحدث عن نصر وانتصارات, بانعقاد قمم عربية, مصغرة, أو موسعة, أو مفرطة في الاتساع مفتوحة على الجيران والأعوان, في ظل عدم الاتفاق على الحدود الدنيا, في القضايا المصيرية والأخرى الأقل مصيرية. وحتى عن قمم لمنظمات وفصائل متصارعة بشراسة ــ بالأصالة أو الوكالة, وقبل أن تصبح بعد دولة ــ صراعات لم يعرف دائما صلابتها العدو, دون الوصول إلى "حلول مشرفة" لإطلاق سراح أسرى الفصائل بين الفصائل. وتوزيع الوزراء وتشكيل الحكومات وتحديد الصلاحيات...وترتيب السلطات. وينسى الكل انه لا يملك من هذا شيئا في ظل الاحتلال, حتى حق التنقل لقضاء حاجاته الخاصة, دون تصريح من العدو نفسه!!!.
وكيف لمواطن مازال لم يفقد بوصلة الاتجاه, أن يؤمن بمصالحات, أو مشاريع بهذا الاتجاه, بين أنظمة لم تتصالح يوما مع شعوبها, ولم تأخذ وجود هذه الشعوب في الاعتبار. وتعتبر نفسها وصية عليها كالوصاية على القاصر أو فاقد الأهلية. وهل سمع مواطن واحد من المنشدين بالمصالحات العربية العربية, ومصنفيها على أنها انتصار للأمة والأوطان, منذ بداية القمم بأنواعها والى اليوم بأنها أشارت
إلى:
ــ الأوضاع العربية الداخلية, وكان بلداننا اليمن السعيد حين كان سعيدا.
ــ الإنسان/ المواطن, وحقوقه وكرامته.
ـ الحريات العامة والفردية. والى التوسع بما لا يصدق في التوظيف في قطاعات الأمن "الاستخباري" المخصص لملاحقة المواطنين بشكل غير مسبوق في تاريخ المنطقة. والى أحوال مساجين الرأي والمعتقلات والسجانين والسجون.
ـ المعاناة المعيشية, لغير المنتفعين بالسلطة, والأزمات الاقتصادية .
ـ التخلف العلمي. والتصنيف العالمي المعيب لجامعاتنا في ذيل قوائم الجامعات العالمية. وفتح أبواب الاتجار بالعلم والتعليم.
ـ القضاء ونزاهته واستقلاله, ومعاناة قضاته وأعوان القضاء.
ـ الهجرة والتهجير وترك الأهل والأوطان. طلبا للرزق والآمان.
وأخيرا, عن أي خير في مثل تلك المصالحات يتحدث المتحدثون, وحالنا على ما هو عليه, منذ عقود طويلة يتردى في زمن المصالحات مثل ترديه في زمن الخلافات. فهل مُقّدر على شعوبنا ترقّب نتائج المنازعات والمصالحات إلى ابد الآبدين. وتصدق زائف الانتصارات ووعود الطغاة.
د. هايل نصر
التعليقات (0)