السلطة السياسية في الدولة "مؤسسة" مفصولة عن أشخاص الحكام. فهؤلاء ليسوا سلطة بذواتهم. ليسوا إلا موظفين مؤقتين لا يملكون وظائفهم. يمارسون مهامهم الوظيفية ليس باسمهم الشخصي ولحسابهم الخاص, وإنما باسم الدولة ولحسابها, دون تجاوز أو تعسف.
رئيس الدولة ليس هو السلطة نفسها, لا تكمن فيه كشخص, وليست مخلوقة معه, أو منحدرة له من أبيه. ينتخبه الشعب صاحب السيادة ومصدر كل السلطات, ليمارسها, باسم الدولة ولمصلحة وفائدة الشعب, بمقدار التفويض الممنوح له, وتبعا لطرق هذا التفويض, ولمدة منصوص عليها بالدستور الذي تعلو قواعده وقواعد القانون على الجميع, حكاما ومحكومين, وإلا فقدت أعماله المشروعية وتوجبت المسؤولية؟
التعبير الفرنسي السائد الذي يسمى رئيس الجمهورية "مستأجر قصر الاليزيه", و الوزير الأول (رئيس الوزراء) "ضيف قصر ماتنيون" مقر الحكومة, يدل دلالة صادقة على الصفة المؤقتة لمهامهما, والتداول على السلطة. تنتهي إقامة الرئيس في قصر الرئاسة عند انتهاء المدة المقررة لولايته قبل الدخول. وتنتهي ضيافة رئيس الوزراء في مقر الحكومة بمقتضى قوانين الدخول والإقامة, وإفراغ المكان. (من لم ير الرئيس فالري جيسكار ديستان مغادرا قصر الاليزيه مع دخول الرئيس ميتران, ومغادرة هذا الأخير مع دخول شيراك, ومغادرة شيراك مع دخول ساركوزي. تناوب على استئجار القصر الذي يرفض أن يكون لواحد احد إلى الأبد).
في الدول العربية الشمولية السلطة السياسية ليست مؤسسة بذاتها, وليست منفصلة عن شخص رئيس الدولة. فهو السلطة بصفته الشخصية والوظيفية, هو سلطة مطلقة فوق كل السلطات, غير محدودة أفقيا وعموديا, كما وكيفا. الطريق إليها لا تحددها ولا تنظمها قواعد دستورية, ولا تعرف مدة زمنية. قصر الرئاسة هو قصر ملك شخصي للرئيس, "بيته وأعز", لا يدخله بعقد أجار مؤقت قابل للتجديد لمدة معينة, وليس فيه التزامات وإلزام العقود. يدخله غاصبا, بانقلاب أو بالوراثة. الرئيس العربي ليس مستأجرا, الشعب كله أجير في مملكته. هو مالك الدولة بما فيها قصورها.
لم يخرج رئيس عربي من قصره إلا جثة. بحكم الموت الطبيعي: حافظ الأسد. عبد الناصر. أو مقتولا اغتيالا: السادات. أو مطرودا مشنوقا: صدام حسين. أو هاربا طالبا النجاة بريشه: زين العابدين. أو ملقى على قفاه دون حراك أمام قضاته: حسني مبارك. أو مقتولا قتلا مأسويا بيد ملاحقيه من أبناء شعبه: القذافي وبعض أبنائه. أو محروقا, أعاده الحنين للقصر إلى القصر رغم القروح, ثم وضعت ترتيبات لا أخلاقية لا خراجه منه سالما دون مسؤولية ومحاكمات: عبد الله صالح.. أما قصر الشعب السوري المسكون ملكا منذ أكثر من أربعين عاما, يرفض قاطنه الوريث إعادته للشعب صاحب الملكية الأصلية, مضح بالآلاف من شعبه, سافكا الدماء وكأنه يسفح دنان خمر أو قرب ماء.
ليس الغريب أن يرتكب الطغاة كل أنواع الطغيان للاحتفاظ بالسلطة والبقاء في قصور الجمهورية, وليس الغريب أن يلغي الطغاة دولا ليقولوا "الدولة أنا". وإنما الغريب أمر أولئك الذين يجعلون لهم من رقابهم مداسا, ويقفون على قصورهم حراسا. يقدسون ويهتفون ويصفقون, يرضون بالفساد وهم ضحاياه, وبالمذلة والاحتقار, وبلعب دور الرعية, مستسيغين العبودية. واضعين زعيمهم فوق الوطن وبعد الإله.
الغريب كيف اعتادوا وعودا أنفسهم عقودا على ثقافة الهوان, وقتلوا في نفوسهم ما جعله الله في طبيعة الإنسان.
الغريب كيف اعتاد بعض رجال من الأقليات الصمت الذي أصبح بفعل الزمن خرسا, وبرروا طاعة الحاكم رغم الموبقات, والهتاف له تزلفا, بحجة حمايته الأقليات, وكأنّ الطغاة موازين عدل, ورافعي ظلم, وحماة للأقلية من جور وهمجية الأغلبية!!!.
الغريب أمر أولئك الذي باعوا أمجادهم وبطولات أجدادهم, ووقفوا وقفة ذل أمام السفهاء من بينهم, وكأنهم خرجوا كليا من تاريخيهم ليدخلوا في "مؤخرة" تاريخ طغاتهم.
الغريب أمر هؤلاء ممن لا يميزون بين الدولة وحاكمها, بين الاستبداد والديمقراطية, بين السلطة المفوضة والسلطة القمعية, بين الوطنية والتبعية, بين العبودية والحرية. والغريب الغريب إن لا احد في عالمنا في قرننا الواحد والعشرين يرى هذه الأمور طبيعية, إلا فاقد الكرامة والناموس, وقطعان الشبيحة والروس.
حين دخلت الملايين المهمشة عالم السياسة, في بداية زحف من "سيدي بو زيد" والقصرين, اكتمل بكل شباب وشابات وكهول وشيوخ تونس, لاسترجاع السلطة والسيادة من مغتصبيها, وإعادتها كاملة للشعب وإلى للأبد,
حين خرجت ملايين المصريين للشوارع معتصمة في الميادين بثورة أطاحت بالفساد والمفسدين, تطالب بإعادة السيادة والسلطة للشعب صاحب السيادة ومصدر كل السلطات,
حين خرجت ملايين اليمنيين رجالا ونساء إلى الميادين, تطالب مغتصبي السلطة من عقود, بالرحيل, وحين أصبحت تلك الميادين "أكاديميات" يتعلم الجميع فيها أصول السياسة, فيبدعون, وينالون جائزة نوبل, يا لروعة أحرار اليمن يا لروعة كرمان المتكول.
حين خرج الليبيون بالآلاف مقاتلين بعزيمة عمر المختار, ورددت آلاف البنادق وآلاف الحناجر: "قولوا لمعمر وعياله ليبيا فيها رجاله",
حين خرج الحوارنة في درعا, وبصرى الشام, وبصر, والحراك, وانخل, والصنمين, والمليحة الشرقية, والصورة, وطفس, وشيخ مسكين, أحرار يرفضون المذلة, ويقدمون للحرية أجسادهم قرابين. حين خرجت وتخرج حمص ولا تعود, وكأنها الأرض تخرج أثقالها, وحماه بأبطالها, وتلبيسة والرستن برجالها. ودير الزور وادلب وعامودا والجزيرة بعربها وأكرادها, وشهبا العزة بأحرارها, حين خرج ويخرج ريف دمشق, و دوما, ولدوما في التاريخ حروف من نور,
حينها بدأت سوريا تقيم أعراسها,
وعندها, ومع دخول شعوبنا السياسة, انتزعت من فم التنين سلطاتها, وكنست طغاتها. حينها, وحينها فقط, وضعت للتاريخ نقطة البداية.
هايل نصر.
التعليقات (0)