لم نعتد كثيرا على قراءة, أو حتى رؤية, موضوعات في صحف يومية غير متخصصة, أو نشرات الكترونية, تتعلق بمهن معينة, تبقى مجهولة أو غير واضحة بما فيه الكفاية عند من هم غرباء عن تلك المهن, وبعض الشيء عند منتسبيها, ويكفي أن يرى القارئ عنوانا في تلك الصحف ( التي إن تكرمت بنشره تدفعه للصفحة الأخيرة ليأخذ موقعا بين المنشور والمتأرجح على حافة النشر ) يوحي بموضوع من هذا النوع حتى يقفز بعينيه إلى الموضوع الذي يليه ــ مثلما سيفعل مع موضوعنا الحالي ــ عله أكثر جاذبية وطراوة وليونة من عبوس الحياة وتجهمها, كتجهم ملاحقيه الدائمين, دون كلل, في كل أموره, بما فيها البيتية, ففي بحثه الدائم عن بعض أمل في تغيير ــ أصبح خلف الواقع وابعد من الحلم ــ لأوضاع نزلت إلى هاوية سحيقة من التردي, وأنزلته معها, يجري وراء الجيد والرديء من الكتابات في جميع المجالات, عدا الكتابات المتخصصة ــ باستثناء تخصصات الفن والطبخ بطبيعة الحال ــ في المسائل المهنية, كالمحاماة, والقضاء, والصحافة, والإدارة, والتعليم... ولا نذكر السياسة, فهذه لم تعد تخصصا أو علما, وإنما اخُتزلت لتصبح فرعا امنيا, منطلقا وأسلوبا وغاية.
ومع ذلك سنعتذر من القارئ ونقدم له مادة قد تبدو جافة ولكنها لا تخلو من الفائدة, وخاصة انه في شؤون حياته اليومية إن لم يكن بعد قد احتاج إلى استشارة أو توكيل محام فقد يحتاجه مستقبلا, لان القواعد القانونية تنظم كل أمور حياتنا, ولها المتخصصون في معرفتها وتفسيرها, وإجراءات تطبيقها على الحالات الخاصة. فالقوانين متنوعة, والقضايا لا يمكن حصرها, إضافة لتعدد المحاكم ودرجاتها واختصاصاتها, مما يستدعي تدخل المحامي. كما أن القانون يفرض هذا التدخل في أنواع كثيرة من القضايا, وفي درجات القضاء المختلفة, حماية لحقوق المترافعين.
فالقاضي الذي ينظر في القضية خبير في القانون. والنائب العام الذي يترافع باسم المجتمع متخصص فيه أيضا. وحتى يتم التوازن في الدعوى لابد من أن يكون هناك متخصص آخر في هذا المجال, غيرهما, للدفاع عن مصالحك في دعواك أو الدعوى المرفوعة ضدك, وهو المحامي.
سوف لا نتعرض هنا لنشأة مهنة المحاماة وتطورها وتنظيمها, ومهام المحامي, فقد اشرنا إلى ذلك في عدة مقالات سابقة, و إنما فقط لأدبيات المحامي التي تفرضها مهنة المحاماة. ونرى التأكيد المستمر عليها نتيجة للضرورة التي يفرضها ازدياد عدد المحامين, وانفتاح المهنة على مجالات قانونية جديدة, وازدياد التخصص بينهم, فهناك متخصصون في القضايا الجزائية, وآخرون في القضايا المدنية, والضرائب, والشركات, وقضايا الأجانب, والقانون الدولي..ونتيجة لتنوع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, في عصر العولمة رأينا ظهور المحامي الأوروبي الذي يعمل على نطاق الاتحاد الأوروبي كاملا. و التطلع لظهور حقيقي للمحامي العالمي, أي المتدخل على نطاق غالبية دول العالم " عابر للقارات".
وفي هذا التعرض لأدبيات المحامي, المعروفة باللغة الفرنسية déontologie de l’avocat ,ستكون مرجعيتنا مهنة المحاماة في فرنسا.
كانت المحاماة في أوروبا في عهد النظام القديم تضبطها الأخلاقية المسيحية وقواعد التعامل التقليدية السائدة في المهنة. فكان المؤلفون يحثون المحامين على ضرورة التشبع بهذه الأخلاقية, ويحددون ما يمكن اعتباره نصائح أخلاقية لضبط السلوك المهني. فقد كتب في ذلك, على سبيل المثال, جان ايدس Jean Edues في "كتاب الاعترافات" عام 1666 . وكذلك خوري ليون سان فينسان في القاموس الاقتصادي عام 1718 في وصف ما يطلب من المحامين, في تلك الفترة :" على المحامين أن لا يدافعوا عن القضايا السيئة بقصد الربح, وإذا قبلوا عليهم عدم متابعتها, وعليهم أن لا يشجعوا في كتاباتهم نزوع الظلم لدى الإطراف المترافعة. وعليهم أن يرفضوا تقديم المشورة, في القضية التي يقبلون الدفاع عنها, للطرفين المتخاصمين فيها ... و أن لا يتبادلوا فيما بينهم وثائق الخصمين قبل المرافعة, و أن لا يعملوا خلال الأعياد وأيام الآحاد احتراما للوقت المخصص لذكر الله. ولا يجب أن يكونوا من بين المفتخرين بكسب القضايا السيئة وخسارة القضايا العادلة. وعليهم عدم قبول إلا عددا محدودا من القضايا, حتى يتمكنوا من دراستها جيدا والدفاع عنها كما يحب. و أن لا يعمدوا للتزوير لربح الدعاوى في القضايا الجائرة, وأن يتجنبوا إغواء الشهود. أو الاستشهاد زورا بالقانون, أو الاستشهاد بأحكام المحاكم بعد تحريفها. أو استخراج وثائق غير حقيقية .ولا اخذ الاستثناء على انه القاعدة. وعليهم عدم إهمال القضايا بإضاعة ملفاتها, أو بعدم دراستها دراسة قانونية كافية.." Damien, spirituelle de l’avocat au XII, p.28, « l’avocat et la vérité », Gaz.Pal. 1984, 243
المحامي كما كان يراه B ruyère و Camus هو الرجل المضياف في كل شيء. منزله مفتوح لكل أصحاب القضايا, وللذين يأتون إليه مثقلون بالأسئلة وبشكواهم وشكوكهم. ( Damien et Ader. Règles de la profession d’avocat, Dalloz 2005 ).
الممارسة المهنية كانت لا تتطلب إلا تطبيق المبادئ العامة للأخلاق المقبولة من الجميع, فالمحامي في حياته الخاصة وفي ممارسته لمهنته خاضع لنداء ومتطلبات المهنة وأخلاقها.
ظهر مصطلح أدبيات (علم الواجبات الأدبية) باستعمال بنتهايم Pentham له في كتابه " Deontology of the science morality " عام 1834. وهو, حسبما ما يراها, نظرية جديدة للواجبات لا تعود فقط لضمير الفرد لأنها مقرونة بالجزاء sanction. وهي تقنية رقابة اجتماعية تؤثر على ضمائر الأفراد بواسطة الضغط الاجتماعي للمجموعات التي يكون فيها كل فرد معني بالتضامن. وحسب كوسين E. Causin الأدبيات عند بنتهايم ليست فقط مجرد أخلاق فردية وإنما مجموعة قواعد احترامها مفروض من الجماعة collectivité. وعليه فان مصطلح أدبيات لم يصدر عن لغة القانون وإنما عن لغة الفلسفة, ثم اخذ في الاندماج التدريجي في المصطلحات القانونية.
وكان أول من استعمل هذا المصطلح في فرنسا هو بول جانيه Paul Janet في مجلة العالمين في 1 نوفمبر 1874 Revue de deux mondes , حين كتب بأنه إذا كان الأخلاقي يجب أن يستمر في كونه واجبات كما نعتقد, أليس من الطبيعي إذن أن نعرف واجباتنا قبل أن نمارسها؟ (مشار إليه من قبل ليتره) فمفهوم الواجبات بقي لديه فلسفيا.
وكان يجب انتظار القرن التاسع عشر, وعن طريق التنظيم المهني لمهنة الطب, ليتم المزج بين مصطلح الأدبيات المرتبط بالخلقي في المهنة, وبين الحقوق والواجبات المرتبطة بها. وهكذا عبرت الأدبيات من مفهوم فلسفي أخلاقي صرف إلى مفهوم قانوني. وسوف لا نتابع تطور المفهوم ومقارنته بالمعنوي وعلم الأخلاق.. وصولا إلى يومنا هذا, ليس فقط تخفيفا على قارئ صحيفة الكترونية, وإنما كذلك لضيق مجالها ومجال مقالة واحدة أمام سعة الموضوع وغناه.
اعتُبر القرن التاسع عشر العصر الذهبي للمحاماة في فرنسا. ولكن الثورة الفرنسية التي أدت إلى إبعاد الكنيسة وتعاليمها عن الدولة, أبعدت بذلك الربط بين الأخلاق العامة, بشروط رجال الدين وتعريفهم, عن الأدبيات باعتبارها المرجع الوحيد لها, لتنهار المبادئ الأساسية, غير المكتوبة أصلا, التي كان يرتكز عليها النظام القديم مع انهيار النظام نفسه.
فأصبحت الأدبيات , بعد الثورة, وظيفية, علمانية, ودون مرجع أدبي مقبول من الجميع. أدبيات تقييد. فعلى المحامي التقيد بكل الأعمال التي يسمح له بها القانون و الأعراف والعادات المعمول بها والتي كثيرا ما تقيد حريته مقابل الهيئة القضائية والسلطات العامة. فالقاضي يمكن أن يراقب مبالغ أتعابه, ومدى صلاحية التوكيل المعطى له ..
من تعاريف الأدبيات السائدة حاليا هي أنها " نظرية الواجبات" , " مجموعة الوجبات المرتبطة بشكل وثيق بممارسة نشاط مهني حر. و يتم تحديدها غالبا من قبل النظام المهني نفسه" . الواجبات تعني ما يلزم فعله, وعلم الواجبات هو أيضا علم القواعد (القواعد القانونية أو الأخلاقية أو العرفية ).
تتكون أدبيات مهنة المحاماة من مجموعة القواعد التي تحكم ممارسة هذه المهنة وتحدد واجباتها كمهنة حرة. الحقوق لا تستقيم دون واجبات. ولأن بقيت أدبيات المحامي فترة طويلة عرفية, صفاتها قادمة من علم الأخلاق morale , فقد دخلت حديثا التشريعات المكتوبة ونذكر منها التشريعات في فرنسا :
الميثاق التشريعي charte législative لمهنة المحاماة والذي تضمنه قانون 71ـ 1130 الصادر في 31 ديسمبر/كانون أول 1971 المعدل بقانون 31 ديسمبر 1990
المراسيم ومنها بشكل خاص المرسوم رقم 96 ـ 1197 الصادر في 27 نوفمبر/تشرين ثاني 1991 والمعدل بمرسوم 19 مارس/آذار 1995 فيما يتعلق بالمجلس الوطني لنقابات المحامين le Conseil national des barreaux .
إلى القواعد والمراسيم واللوائح تضاف الأنظمة الداخلية لكل نقابة محامين. وقد أعطى القانون المجلس الوطني لنقابات المحامين مهمة السهر على "تنسيق القواعد القانونية والأعراف و العادات في ممارسة المهنة" بين نقابات المحامين القائمة لدى محاكم الاستئناف على مستوى فرنسا بكاملها. الشيء الذي فسره المجلس على انه قد مُنح سلطة تنظيمية يفرضها على تلك النقابات. وعليه فقد قام بصياغة نموذج type مؤسس على العناصر الأساسية في الأدبيات وأرسله لها لإدماجه في أنظمتها الداخلية. وهذا ما اعتبرته غالبية النقابات مساسا باستقلالها الداخلي وعملت بالتالي على مقاومته. وقد اصدر مجلس الدولة, بعد أن قضت محكمة تنازع الاختصاص باختصاصه في النظر في القضية, بان التنسيق المعترف به قانونيا للمجلس الوطني لنقابات المحامين لا يتضمن سلطة تنظيمية. وإنما مجرد تقديم اقتراحات وآراء.
كما أن اليمين الذي يؤديه المحامي, أمام محكمة الاستئناف, عند بدء عمله ويلتزم به طيلة حياته المهنية, يتضمن العناصر الأساسية لأدبيات المحامي : " اقسم, كمحام, أن أمارس مهامي بكرامة, وضمير, واستقلال, ونزاهة, وإنسانية". وقد احل هذا القسم المحامي من كل الالتزامات التي كانت تفرض عليه الموالاة للسلطة, بشكل أو بآخر, منذ القديم مرورا بالعهد النابليوني وطيلة أكثر من قرن ونصف من ممارسة النظام الديمقراطي, وتتعارض مع استقلال المحامي ومع حق الدفاع.
أما نطاق قواعد الأدبيات في مهنة معينة, وان كان مقتصر على المنتسبين للمهنة ولا يطال من هم خارجها , فهو, في الوقت نفسه, لا يقتصر, حصرا, على ما هو مدون في النصوص, أو على المعاني الضيقة لها. فالصعوبة في ذلك تتمثل في كيفية دمج: 1ـ قواعد أخلاقية, 2ـ في القانون الوضعي 3ـ وبروحية مهنية.
لم تعد هيئة المحامين, كما كانت تعتبر زمنا طويلا, هيئة ارستقراطية تخضع للقواعد الأخلاقية المتمثلة بالشرف والنزاهة والاستقامة, قواعد عرفية غير مكتوبة, وبالمفاهيم التي عبر عنها العديد من الكتاب, ومنهم كاميس عام 1787 " des lettres sur la profession d’avocat " وتصل أحيانا إلى مطالبات غير واقعية : " يجب إن تقود ممارسة مهنة المحاماة للشرف وليس للثروة ... لتكرس نفسها لمهام لا تجلب لممارسيها غير الشرف المُتأتي من تحقيق النجاحات المجيدة المتواصلة" (لدى الطبقة الارستقراطية كان البحث عن الثروة غير ملح لأنها تأتي بالميراث وتتراكم مع مرور الزمن . أما العمل من أجل جمعها فلا يتلاءم مع مفاهيمهم و ينظر إليه بازدراء ).
هذه النظرة, حاليا, في جانبها الوصفي والتصنيفي, وكذلك المادي, غير دقيقة, ولم تعد واقعية. فامتهان المحاماة لم يُكّون هيئة يمكن وصفها بالارستقراطية, كما أن أعضاءها غير قادمين من الارستقراطية, فاختيارها, من قبل الغالبية المطلقة من المحامين كمهنة يعني اختيار المهنة التي يستطيع ممارسها أن يجد نفسه فيها, وان يحقق دخلا من عمل يمكنه من تأمين حياة كريمة. خاصة وإنها مهنة حرة لا تعتمد على الرواتب أو الصفقات والأعمال التجارية أو ما يعرف "بالبز نس" . ويبقى إن ما كان سائد قديما لا يستطع الصمود في وجه حركة التاريخ والتطور, وإيقاف سيرا لمتغيرات وضروراتها, ولا أن يكرس التسميات والتصنيفات والوسائل على إطلاقها , بما فيها أدبيات المهنة.
كانت أدبيات المحامي بسيطة, تتعلق بمهامه التي لم تكن تتجاوز المرافعات أمام المحاكم, باعتباره وكيلا عن احد أطراف الدعوى, ومن هنا كان عليه واجبات نحو موكله, تتمثل بمساندته وتقديم المشورة القانونية له, والالتزام بالقيام بمهمته على أكمل وجه, بأمانة وإخلاص, ومصارحته بكل ما يتعلق بجوانب قضيته, ودون أية ترتيبات مع خصمه في غير مصلحته.
ولم يكن عليه أية واجبات أساسية إلا تجاه الموكل, أما الواجبات الأخرى فتبقى ثانوية. لا شك أن عليه واجبات تجاه القضاة كالإخلاص, والاحترام, و اللباقة, والمجاملة, وحسن التصرف, واحترام القواعد العامة تجاه السلطات العامة.
هذه الأدبيات التي تحلى بها المحامي القديم, والتي كانت كافية لحسن سير العمل المهني, انتقلت للمحامي الحديث, أي المحامي في أيامنا هذه, ولكنها أصبحت غير كافية. فمهام محامي اليوم تتعدى تلك التي كانت معروفة قديما. فإلى الجانب القضائي judiciaire الذي كان يكرس نشاطه له, والمتعلق أساسا بالدفاع عن موكله ضد خصمه أمام القضاء, يقوم الجانب القانوني juridique. فأصبح عليه المساهمة في خلق عقود قانونية, والدخول في تسويات قانونية . فصياغة العقود, وإنشاء الشركات, وإيجاد التوافق بين مجموعات تمثل مصالح اقتصادية مختلفة, والاهتمام بحقوق المستهلكين, والدخول في علاقات مع شركات متعددة الجنسية, أمام هذا كله هل تبقى وحدها الأدبيات التي عرفها المحامي القديم كافية للتكيف مع المهام الجديدة للمحامي؟. وماذا سيكون اثر هذا التوسع في القضائي, والانفتاح الكبير للمهنة على القانوني, على قواعد الحذر, وخاصة تلك المتعلقة بالسر المهني؟
ومع ذلك فمن الخطأ الكبير الاعتقاد بان العناصر الأساسية التي تشكل جوهر أدبيات المحامي, بتعريفها القديم, قد تم تجاوزها, أو أصبحت غير عصرية وفي حكم الماضي, وإنما المقصود أن المتطلبات الجديدة أوجدت روحية جديدة, وتقنية حديثة, تحتاجها قواعد الأدبيات الكلاسيكية لتكتمل بها.
ومن جهة أخرى هل تنظيم أدبيات المحاماة بترسانة من القواعد التنظيمية الباردة, تتضمن عقوبات تأديبية, وإخضاع النزاهة والإخلاص والسلوك للتنظيم والرقابة, بموجب تلك القواعد الملزمة, اضعف عند المحامي الحديث الالتزام الذاتي بما هو معنوي وأخلاقي, ورقابة ذاتية؟ الواقع أن التنظيم وقوننة الحقوق (نشرها في مجموعات قانونية) وتحديد الواجبات وفرض الجزاء المناسب على مخالفيها, لا يضعف الالتزام العفوي والتلقائي والذاتي, وإنما يعززه عن طريق توضيحه, وتبيان أبعاده, ومداه, وأهدافه, كما يكرس مبدأ المسؤولية ويضبطه.
زيادة على ذلك فان التكوين الصحيح للمحامي, ثقافيا ومهنيا, يُغني تلك الأدبيات ويرسخها, وليس في هذا نجاح مهني فقط وإنما, وبدرجة كبيرة, حماية له من الخطأ المهني. ولا نعني بالثقافة الثقافة القانونية والتعمق فيها وحدها , وإنما كذلك الثقافة العامة. فكثيرا ما يخصص المحامي, رغم انشغالاته, وقتا كافيا لقراءة كتب ومواضيع في الأدب, والفلسفة, والتاريخ, والاجتماع, وعلم النفس, وكل ما يتعلق بالإنسان والمجتمع, والحضارة قديمها وحديثها, فذلك له اثر كبير في تكوينه المهني والذاتي, ويدخله المجتمع بحركته وواقعه وتطلعاته, كما يغني لغته وأسلوبه في مرافعاته, ومقدرته على طرح القضايا وتنمية ملكة الإقناع لديه.
وليس من قبيل الترف الفكري أن يقوم العديد من المحامين, وأساتذة القانون, والمتخصصون فيه, بتنظيم محاضرات في أماكن عامة, وفي مراكز تكوين المحامين, مشددين على أهمية الثقافة العامة, إلى جانب الثقافة القانونية (في إطار التكوين المتواصل المفروض على المحامي الفرنسي من التخرج إلى التقاعد), كأن يدعو المحامي الشهير جاك فرجاس المحامين لحضور المسرحيات, وقراءة كتب الأولين والمعاصرين في جميع الميادين. أو أن يخصص ماتينو فرنسوا الخبير لدى المجلس الأوروبي و المحامي في نقابة باريس والأستاذ في مركز تكوين المحامين فيها, مؤلفا يتحدث عن المحاجة القضائية Argumentation judiciaire باعتبارها في أسس نجاح عمل المحامي . إضافة لإعمال في هذا المجال تغص بها المكتبات القانونية والعامة من تأليف أساتذة جامعيين, ومحامين, وقضاة, ورجال قانون..
وعليه فان المحامي المكّون جيدا وحده القدير على فهم وتمثل, وحتى إثراء, أدبيات مهنة المحاماة, وإبعادها عن كل إسفاف, وفرض احترامها على الجميع.
كان على المحامي قديما في التزامه بقواعد أدبيات المهنة, مقاومة الضغوط الواقعة عليه من أصحاب النفوذ بأنواعه, و أصحاب الثروة. والمحامي اليوم, في المجتمعات الصناعية المتقدمة, أصبح يواجه ضغوطا من نوع أخر تمارسها عليه الشركات الكبرى الأخطبوطية الامتداد والنفوذ, والإدارات المركزية ذات الاتصالات المتشعبة, ومراكز القوى بأنواعها ... وهي ضغوط أكثر تأثيرا وثقلا من الضغوط التي يقوم بها أفراد معزولون دون امتدادات مؤثرة. ولكنه يجدا دائما سندا قويا في نقابات المحامين وحماية يطمئن لها إلى ابعد الحدود.
مثل هذه المساندة لا يمكن تصورها, في غير الأنظمة الديمقراطية, حيث يستطيع التنظيم المهني التعبير باستقلالية تلقائية عن إرادته الجماعية, مصاغة بقواعد يُضّمنها نظامه الداخلي, تشمل أدبيات المهنة, وتفرض احترامها وإلزامها على أعضائه, و تلتزم السلطات العامة باحترامها طالما لا تتعارض مع النظام العام.
أما في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية, فان الضغوط التي تقع على المحامين الشرفاء, بدائية وفجة ومكشوفة ــ تأخذ أساليب تُظهر أن القانون, في حالة وجوده, موجود في مكان أخر, وبروحية غير روحيته, وانه لا يعلو وإنما يُعلى عليه ــ منها التهديد المباشر وغير المباشر بالاعتداء على حياته وحريته ولقمة عيشه, ليس فقط من قبل أصحاب السلطة والنفوذ مباشرة, وإنما كذلك ممن يتصل بهم بصلات قرابة, أو عمالة, أو يدور في فلكهم. ومن الحزبيين النافذين بفعلهم أو بالتبعية. ومن الأجهزة الأمنية بتعددها وتفرعاتها. إضافة إلى الأثرياء الجدد وحديثي النعمة, باستخدامهم كل وسائل الإفساد بالأساليب الرخيصة, الرشاوى المتفشية, التي تصل حتى إلى القضاء الذي يترافع أمامه.
وكثيرا, إن لم يكن دائما, ما يجد المحامي الشريف نفسه وحيدا دون حماية من نقابته, التي تخضع هي أيضا, كنقابة, لنفس الأساليب, كلما حاولت أن تقوم بدورها الصحيح, مضافا إليها التدخل الخارجي (أي ممن هم خارج المهنة ولا علاقة لهم بها, ولا نقصد الامبريالية والصهيونية وقوى الشر العالمية التي تتآمر علينا حتى لا نختار نقاباتنا كما نريد. فالعيب كل العيب هناك فيما وراء البحار والمحيطات..) بتشكيلها وترشيح أعضاء معينين سلفا لشغلها, وجعلها خلية حزبية ــ يتكّون فيها المحامي النقابي الحزبي, ليس على قيم و شروط قواعد أدبيات المهنة, وإنما على أساس الموالاة المطلقة للسلطة المطلقة التي كان لها فضل ترشيحه و تعيينه (بالانتخاب !!!) ــ.
مثل هذه الضغوط والتدخلات في شؤون المحامي كفرد, وفي شؤون النقابة , تُخرج المهنة من واقعها كمهنة حرة ــ لتجعلها أقرب إلى وظيفة ضمن الوظائف التي يديرها جهاز يقوم على مفهوم التحكم المركزي وازدراء القانون والحقوق, فازدراء القانون يقود لازدراء المدافعين عنه ومُطبقيه ــ وتُجردها من نبلها و شرفها والقيم التي اعتزت و تعتز بها, والرسالة التي حملتها وتحملها منذ بديات النشأة .
فان فقدت المهنة نبلها وشرفها ورسالتها هل نبقى بصدد محاماة, وأدبيات محاماة؟.
د. هايل نصر
.
التعليقات (0)