مواضيع اليوم

فيكتور هيجو يعتذر لثوار سوريا

د.هايل نصر

2011-11-19 07:29:02

0

 

ليس القرن قرن فيكتور, ولا الشعب شعبه, ومع ذلك رأى أن عليه واجب الاعتذار لثوار سوريا. روى روايات. وكتب أشعارا. وقص قصصا. وسجل بطولات ثوار فرنسا في معركة الحرية وحقوق الإنسان. وصف اليوم الأخير لمدان بعقوبة الإعدام وكيف يتحضر للموت. وكتب عن المقصلة, ودعا لإلغاء عقوبة الإعدام. قام بواجبه فأنار عصره والعصور التي تلت عصره. ويرى اليوم أن يقدم اعتذارا, عابرا للقرون, قادما من الأبدية, بالإيحاء, وبلغة الأموات/ الأحياء, الذين عند ربهم يرزقون, ليقول بأنه يشاهد بعين الأبدية أفعال حقيقية لأبطال سوريا, رغم الإعدام دون ترك فرصة لتحضير أنفسهم للموت, فالموت يأتيهم من كل الجهات وبأبشع الأدوات. وهذا ليس روايات, ولا يدخل فيها الخيال. وليس قصصا فيها قيل وقال. ولا حكايات ضاعت بعض مصداقيتها عبر الأجيال لتواتر النقل والإضافات. البطولات سورية والدم سوري. وفي قضايا الحرية تتساوى الدماء, وتتحد المشاعر الإنسانية. ومع ذلك لم يستطع في هذا قول شيء, ولو بيتا من الشعر, ومن هنا فكرة الاعتذار.

معذور أنت فيكتور, حتى ولو قلت شعرا أو كتبت نثرا في عالمكم انتم عالم الأموات/الأحياء, لا يسمعه الأموات/ الأحياء في عالمنا نحن. ليس لك تأنيب الضمير, أرضيت ضميرك منذ بدأت الكتابة في القضايا الإنسانية, وعمرك لم يتجاوز12 عاما, أوصلت بجدارة ما كتبت لمن يفهم ما أردت.

كتب فيكتور عن متاريس أقامها الثوار في شوارع باريس. وعن قوى الجيش والحرس وهي تدمر تلك المتاريس ومن يحتمي خلفها رغم بطولاتهم. وعن روح التضحية ورجولة الرجال. وعن جان فلجان. ولم يتوقع أن ستأتي بطولات تفوق ما وصف, ومن هنا أيضا جانب من دوافع الاعتذار.

واليوم يرى بأم العين الأبدية كم هي محدودة تلك البطولات والتضحيات التي خلدها وفصّل في دقائقها, أمام ما يراه من بطولات سورية, وفيكتور ليس عنصريا, يقول الحق أينما كان. وشاهد موثوق على العصر, وكل العصور والأزمان, لا يبخس قيمة الأشياء.

يرى فيكتور اليوم حوران ثائرة, متاريسها صدور الرجال العارية, ويرى حمص وباب السباع وباب عمر والحارات الدامية, وساحة الساعة. يرى حماة وأشبالها, ودير الزور, وادلب, يرى حي الميدان ودوما. والغوطة, والمعضمية, وبرزة, وأماكن كثيرة فيها البطولات عين البطولات, والتضحيات نفس التضحيات. يرى ما لا يراه غيره من الأحياء / الأموات في عالمنا. ويفهم ما لا يفهموه عمدا او قصور وعي و"نشفان" ضمير.

فيكتور غريب عن المنطقة, لا يعرف الأسماء, ولا يعرف أمكنة وأحياء وشوارع وحارات سوريا, مع أن الكثير منها أقدم من مثيلاتها الباريسية. ولكنه بأحاسيسه الإنسانية, المرتقية في علاه إلى ما فوق إنسانية, يسمع هتافات ثوار سوريا تصعد إليه عبر السموات, ويسمع ردا عليها طلقات مجهولة التسميات, ليست كطلقات بنادق بدائية كالتي عهدها في زمانه في الهجوم على متاريس الثوار الفرنسيين. ذهب  فكتور في البحث بعيدا, وفيكتور باحث حتى في أدق التفاصيل في بواطن الأمور, فعلم أن هذه تسمى بلغة عصرنا طلقات مدفعية, ودبابات, وقذائف مسمارية, ورشاشات وعتاد كان يحضر لإسرائيل, تختلف كليا عن أحصنة  وبنادق الحرس الملكي أو الجمهوري, وعتاد الجيوش الذي كانت تستخدمه سلطات عصره.

سيرفع فيكتور قبعته, إن بقيت لديه قبعة سليمة إلى يومنا هذا, وينحني إجلالا لأبطال  وصلوه حديثا, عرّفوه بأنفسهم على أنهم عرب وأكراد من سوريا, ومن سوريا صعدوا برتبة شهداء, شبابا وأطفالا وشيوخا ونساء. من مدن وقرى ممتدة على مساحة سوريا. من كل الأديان والطوائف صعدوا. كانت ولم تزل مطالبهم واحدة: حرية ديمقراطية. وكرامة إنسانية. حياهم فيكتور وعلم أن ما زرعه مع أحرار آخرين من قرون, بقيت قيم خالدة, ترفعها أجيال تتلوها أجيال.

سيسجل فيكتور بقلمه العبقري إن الإنسان الحر أينما كان سيبقى دائما نفس الإنسان. الإنسان الذي كان منذ بدء البشرية, وقبل قرنه, يدفع دما من اجل الحرية. ولم يكف عن ذلك في قرنه والقرون اللاحقة على قرنه, ولن يتوقف عن ذلك في القرون القادمة, طالما هناك سلطة مستبدة وظلم, وعبودية, وقمع, وطغاة وطغيان. وطالما بقيت في الإنسان صفة الإنسان.

لم يكن فيكتور مجبرا على الاعتذار, وهو في العالم الآخر, لكنه لم يعد يطق احتمالا وهو يرى من يدّعون بعده إنهم ثقافة بذواتهم, ومن الثقافة, وأنهم في التنظير بحور بلا قرار, ينظّرون ويدعون فتحا معرفيا في الفكر وفنون السياسة والتحليل والتركيب, وأنهم في اصل الثورات ــ بعد أن تنجح وتكتمل وليس قبل ذلك, يا للحصافة,!! ــ  وأصل الحكمة في الحد من شططها. ومع ذلك لا تحركهم دماء الثوار لأنها ليست من فصيلة دمائهم, وعليه يجوز المساومة عليها لخدمة مصالح "الوطن".

ولم يعد كذلك يحتمل رؤيتهم عندما تدخل الأمور في باب علم الأخلاق, والقيم, والتواضع, والفروسية, فهم ميكافيليون, تلامذة أصولهم من مدرسة ميكافيلي, التي يعاديها فيكتور ويكرهها, يراهم وقد ذهبت ببعضهم المذاهب مستفيدين من التجارب عبر القرون, تجارب بيع الثقافة والأخلاق والقيم على أبواب السلاطين, وفي حضرة السلاطين. وبأساليب أخجلت ميكيافليي نفسه, فأسرع لتقديم اعتذار لأميره عن تواضع خبراته في هذه الميادين (ومع ذلك لم "يحطها واطية", وهو الثعلب المعروف, فعزا ذلك لتطور وسائل العصر وتقدم المعرفة, والانفلات حتى من القواعد الأولية للأخلاق, وتهاوي اللعبة السياسية).

لم يرد في خاطر ميكافيلي أن يضمن كتابه, فصلا في أصول وفنون المعارضات, حين تسيل الدماء, وقبل أن تجف وتتوقف عن السيلان, وكيف تُبنى عليها استراتجيات وطموحات, وكيف على رائحتها تنتعش معارضات كانت عقودا, في أحسن حالاتها في حالة إغماء , لم تعرف غير المقاهي والصالونات. تنسى اسمها ومهامها إلا إذا صدفة ذُكُرت به. وذكّر. ومع ذلك, ودون حياء من الماضي ومن الحاضر, تحركت حين تحرك الثوار. وعلى وقع الثورة ثاروا. ولكن ليس في الشوارع ومخاطرها, وإنما في نفس المقاهي, ونفس الصالونات, وبنفس روحية وحماسة رواد المقاهي والصالونات. اطلوا على العالم, وعلى الثوار من الشاشات وشغلوا المحطات,  وأطلقوا النداءات والبيانات. واختلفوا على التسميات. وكل يدعي "أبو الصبي"  المولود من تراكمات "نضالاتهم", وعبقرية أفكارهم ومخططاتهم وتوجيهاتهم. ولُدت مبادرات وصيغت شعارات وعقدت اجتماعات, وتراكضوا في كل الاتجاهات. الكل ينظر, ويفتي, وينصح, ويحذر, ويأمر وينهي, ويُعمل العقل, ويفكر. الكل يدعي الأقدر على فهم مصلحة الثورة والأكثر غيرة على الثوار, وعلى مصلحة الوطن والمواطنين, وعلى بناء الدولة المستقبلية, على أسس يمكن أن تكون مدنية, أو دينية, أو علمانية, أو علمانية/ مدنية, أو ديمقراطية, بحزب, أو بحزبين اثنين, أو تعدد أحزاب, أو برلمانية, أو رئاسية, أو نصف برلمانية نصف رئاسية على الطريقة الفرنسية.  (أو حتى  وراثية كما يطرح معتوه أوغل في دماء عشرات الآلاف من الضحايا في حماة وحدها, وبدأ يطرح نفسه ليس فقط معارضا مشاركا, وإنما كذلك وريثا منقذا للعرش الآيل للانهيار !!!.).

كل ذلك في غفلة من الثوار المناضلين في الشوارع, ودون علم بما يدور وبدوافع التصارع. هل بقى لميكيافلي عينا ليفتحها؟ بعد أن تجاوزه الجميع؟. ( ومع ذلك يضرب على " هل الخلفي" التي خلفها).

وعليه ومن اجل هذا رأى فيكتور ضرورة تقديم اعتذار باسمه وباسم المثقفين من أحرار زمانه, وباسم من قرأ لهم قبل زمانه, وكتب لهم فاتبعوه في زمانه, فالأزمنة في العالم الآخر مفتوحة, لا يحدها زمان أو مكان بمقياسنا الدنيوية. وباسم من سمع عنهم في حياته الآخرة, وباسم من فقدوا أرواحهم وكرسوا حياتهم لقول كلمة حق ونشر قيما ومبادئ ومعارف.

وهكذا لم يكف فيكتور عن مهامه التنويرية, ولا نشاطاته التي بدأها في الحياة الدنيا, وإنما كتب بقلم الأبدية لكل من هم في العالم الآخر ممن يقرءون له باستمرار, واخبرهم بأنه حين كتب عن الشرطي جافير الذي يمثل القانون بمفهومه الضيق الصارم ودون تبصر, لمطاردة الإنسان جان فيلجان, وانتحر أخيرا لحيرته بين تطبيق القانون بهذا المفهوم على جان الذي لمس نبله, وبين أن يتركه طليقا بعد أن تمكن منه اثر ملاحقات دامت عقودا, حين كتب في هذا كان يكتب بمعايير عصره وقيمه, ويتأوه اليوم قائلا "يا حسرتاه".

اخبر فيكتور أقرانه من مستمعيه, أن ما يراه اليوم من عليائه, هو أن رجل الأمن السوري لا يطارد المجرمين الحقيقيين, وإنما يطارد القانون نفسه, وكل ما يمثله, ويطارد معه الأحرار بكل أنواع القمع والهمجية, يطارد من يطالب بالحق والعدالة, وبسيادة القانون, وبناء دولة القانون, يطاردهم مستعينا بالشبيحة (وهنا أمام عدم فهم الجميع لما تعنيه كلمة شبيحة, يبذل فيكتور جهدا خارقا ليشرح لسامعيه من العالم الآخر معناها فلا يوفق رغم بلاغته, فالأمر متعلق بمصطلح لم يعرفه التاريخ قديمه أو حديثه. و تقريبا للأذهان, قدم تعريفا للشبيح على انه مخلوق, بماض مشبوه, مجبول من  تعاون رجال أمن مدربين تقنيا في الأقبية والسراديب, مع المجرم المبتدئ أو المعتاد, دون المرور بدورات تدريبيه لضرورة المرحلة, وذلك بإشراف سلطات عليا مختصة بصنع "الجبلات" والخلط والمزج لصنع شبيح مثالي. والهدف درء الجريمة,  وقمع الانتفاضات, وإرساء الأمن والعدالة في الدولة الأمنية. أما التمويل فمن الميزانية السورية المعتمدة على  التحويلات الخارجية كمساعدات قادمة للشعب في بطالته وأزماته الاقتصادية. ووعد أخيرا سامعيه بتطوير الموضوع والاشتغال عليه, وتأليف كتاب بؤساء جديد). 

اعتذار فيكتور لثوار سوريا, كما أعلن, هو اعتذار الإنسانية الحية في الدار الآخرة, اثر صمت الإنسانية الميتة في الدار الدنيا. اعتذار عن انتهازية الغرب وصمته وخطاياه تجاه الثورة السورية. اعتذار عن عدم استطاعته فعل شيء أمام الغطرسة السورية والمشاركة الروسية في الدفاع عن القتل وتحريض القاتل على الاستمرار فيه, والدفع لحرب أهلية.

اعتذار فيكتور بعد أن تخاذل كل أدعياء الثقافة والفكر في عالم الدنيا, ولم تهزهم المأساة ولم يحرك أقلامهم وضمائرهم قتل الأبرياء واستمرار سيل الدماء. فظلوا يكتبون في التنظير,  يسار يمين. ويمين يسار. وتطرف ودين. وتأويل وتفسير. تهليل وتضليل. وتطبيل لعتاة الطغاة. واستمروا في الكتابة في سفاسف الأمور قصصا تصلح للعرض و الردح على الشاشات الكبيرة والصغيرة, في نفس الوقت الذي  تنقل شاشات أخرى لأعينهم  تشييع جنازات آلاف الشهداء.

اعتذار فيكتو هيجو لثوار سوريا وشهدائها أرفقه بوعد منه, أن يكتب أسماءهم في تاريخ الحرية كثوار وشهداء في قضية الإنسان والكرامة الإنسانية.

د. هايل نصر 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات