فيد التاريخية في مذكرات المستشرق الإنجليزي وليام بلجريف
مدخل ... امتداداً لما ذكرناه سابقاً عن مدينة فيد التاريخية في مذكرات الرحالة والمستشرقين وما استعرضناه من حديث حولها للمستشرق الفرنسي شارل هوبير والفلندي جورج أوغست فالين سنتحدث اليوم عن ما ذكره المستشرق الإنجليزي وليام جيفورد بلجريف الذي زار منطقة حائل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي وتحديداً في اليوم التاسع من شهر سبتمبر من العام الميلادي 1862م ، ولكن قبل ذلك سنعطي تعريفاً بالمستشرق الإنجليزي ويليام جيفورد بلجريف .
يعتبر ويليام جيفورد بلجريف من أشهر الرحالة الذين زاروا جزيرة العرب وقد ولد في إنجلترا 1826م وحصل على شهادته الجامعية من الجامعة الشهيرة أكسفورد وبعد تخرجه من الجامعة التحق بالجيش الإنجليزي في الهند عام 1847م ، وبعد أن ترك العمل في الجيش انتقل إلى لبنان في السنة 1858م لأغراض تبشيرية وغادر لبنان سنة 1860م بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان ، وبعد ذلك بعامين قام برحلته لجزيرة العرب وكانت منطقة حائل
جبل شمر أحد أهم محطاته وقد كتب ويليام جيفورد بلجريف مذكراته في رحلته تلك تحت عنوان :
وسط الجزيرة العربية وشرقها ، وقد صدر عن مجلس الثقافة الأعلى بمصر و ترجمة صبري محمد حسن
وقد ورد ذكر فيد في مذكرات بلجريف في كتابه وسط الجزيرة العربية وشرقها في الفصل السادس من الكتاب تحت عنوان : الرحلة من حائل إلى بريدة.
وذكرها من باب الفائدة والعلم بالشيء فما ذكره الرحالة والمستشرقون حتى وإن كان بسيطاً يظل له قيمته لأنه يمثل فترات سابقة لم يتم توثيقها في الغالب .
وقد ورد اسم فيد في الكتاب تحت اسم : فيض ويبدو أن وقوع ذلك الخطأ كان في الترجمة فقط ومما يبرهن هذا القول أن بلجريف ذكر اسم فيد باللغة الإنجليزية بشكل سليم Feyd وهناك أيضاً أخطاء في الترجمة ستكتشفها عزيزي القارئ بمجرد وصولك إليها ، ويذكر بلجريف في الصفحة 267 من الكتاب:
تجاوزنا التلال الخفيضة دون توقف تلك التلال التي تشكل في هذه المنطقة امتداداً لجبل سُلمى وتحد الوادى من الخارج وهنا اكتست أمام ناظرينا بلون الذهب ، آخر أشعة شمس الغروب في قاع الوادى الرملى الذي يبعد مسافة قصيرة عن بيارات النخيل في قرية فيض Feyd.
هذه القرية أو المدينة العريقة ، التي ورد ذكرها عند الحريري في القرن السادس الهجرى ، الموافق للقرن الثاني عشر الميلادى ، تقع على واحد من الطرق المؤدية من الكوفة أو مشهد على إلى المدينة المنورة مباشرة وهي الآن خاضعة لحكم الأمير طلال بن الرشيد ، ويجرى أختيار رئيسها المحلى من بين مواطنيها لأن الاختيار بهذه الطريقة مبدأ عام في حكم الأمير طلال إذ يندر ولأسباب خاصة جداً ، أن يعين الأمير طلال أحداً من العاصمة أو المنطقة المركزية ويطلق له حرية التصرف في المدن أو القرى البعيدة ، وهنا تختلف خطة الأمير طلال عن خطة الأمير الوهابي الذي وقفنا على شيء من ميوله المركزية ، التي تتجلى بصفة رئيسية ، في تعيين مرؤسيه وممثليه في تاريخ القصيم ، بل أننا سنعرف الكثير عن ذلك فيما بعد ، ولكن الأمير طلال يشجع الإقليمية على حساب المركزية ، في الأماكن التي يستطيع أن يفعل فيها ذلك وهو آمن ؛ وهذه هي أفضل الطرق لدى جميع الأطراف ، سواء أكانت حاكمة أم محكومة ، هذا برغم أن كثيراً من الحكومات ، في الشرق ، تنتهج أسلوباً مناقضاً لهذا الأسلوب تماماً ، وبذلك يمكن القول أننا نجد من يقلدون الأوربيين في بعض الأحيان.
وبرغم كل ذلك ، فإن كل قاعدة لها شواذ واستثناءات ، بمعنى أن الرجوع إلى السلطة المركزية يصبح ، في بعض الأحيان ، أمراً لا محيص عنه ، وتأسيساً على ذلك ، فإن الجزيرة العربية تعرف ما يسمى بالمفوضين فوق العادة ، وقد صادفنا بالفعل واحداً من هؤلاء المفوضين فقد وقعت بعض المصادمات بين الأهالى في قرية فيض وعجز حاكمها المحلى عن استعادة السلام والنظام في القرية وترتب أن أرسل أحد الموظفين الملكيين ليتولى الأمر برمته ، ومن ثم ، ففي لحظة دخولنا قرية فيض وكان ذلك بعد غروب الشمس بقليل شاهدنا مجموعة من السكان تقف في مكان واسع بالقرب من جدران المساكن ، مما يدل على وجود مفوض الأمير طلال الذي كان يعقد محكمته في ذلك المكان.
وفي البلد التي يكون من حق المواطن أن يدافع هو بنفسه ، عن نفسه أمام القضاء ، والتي يكون تشكيل هيئة المحكمة فيها بسيطاً وغير معقد وأقل عدد من مثيلتها في المحاكم الإنجليزية ، يصبح الحكم في القضايا الجنائية أمراً سريعاً وعاجلاً.
ورئيس المحكمة هنا ، هو قاضى القرية ، وهو شخصية توجد أيضاً في أصغر المجتمعات العربية ، ومعه أثنان أو ثلاثة من أعيان المواطنين أو كبارهم ، يقومون بدور المحلفين ، برغم أن أحكامهم هي أحكام أخلاقية في المقام الأول وليست أحكاماً قانونية بحتة، ومنصب محامى الملك ، يمثله القاضى ، ويتمثل الدفاع في المتهم ، وعلى كل حال ، فقد يقوم المدعى بتقديم الدعوى هو بنفسه ، وذلك عندما يكون الإدعاء مميزاً من السلطة العليا نفسها ، ويتمثل ذلك في قضايا القتل الخاص وما في حكمها .
وينبغي أن أضيف هنا أن لقب " قاض " في الجزيرة العربية لا يتساوى مطلقاً مع نظيره عند الإنجليز ، وأن لقب " قاضي " العربي يتضمن مركزاً استشارياً أكثر منه قضائياً ، برغم أن العكس هو القاعدة في بلاد الشرق الأخرى كلها ، وقد اغتنمنا فرصة حضورنا ، لنشاهد ونسمع الحكم الذي صدر ضد واحد من المتهمين المجرمين في قرية فيض، كما شاهدنا تنفيذ الحكم عقب صدوره مباشرة كان الحكم مساوياً تماماً ، لذلك العقاب الذي ينزله ناظر المدرسة ، في جزيرتنا المحافظة ، بأي تلميذ من التلاميذ الذين يخرجون عند حدود النظام ؛ بل أن المتهم كان يصرخ بصوت أعلى بكثير من الطريقة الهّينة اللّينة الي كان الحكم ينفذ بها.
ومن العدل أن أقرر هنا أن العدل العربي في القضايا الكبرى بل في المسائل الخطيرة كلها ، له سطوته وصرامته ، والشهود يجرى استدعاؤهم وتحليفهم اليمين ، وقد تستمر المحاكمة عدة أيام ، كما أن حق الاستئناف مكفول ، للمتهم لمن يطلبه بدءاً من المحاكم الجزئية إلى أعلى المحاكم بل إلى الملك نفسه ، بل أن تنفيذ الحكم بعدصدور الحكم النهائي ، يؤجل مدة أربع وعشرين ساعة ، بل قد يؤجل أحياناً أسابيع وشهور إلى أن تصل الأمور إلى حد العفو الكامل ، أو تخفيف العقوبة ولا يستطيع معظم الحكام المطلقين في الجزيرة العربية الخروج ، بحكم الحصانة ، على القيود التي تحكم بحكم الإحساس بالمسئولية وبدافع إنساني ، المحاكمات المتسرعة أو التي تخاطر بالحكم بالإعدام على متهم في وقت السلم، لمجرد أن ذلك إنما يكون على مسئولية المحكمة، أو المحاكمات التي تجرى بدون اتباع الإجراءات القانونية المنصوص عليها ، وهنا تجدر الإشارة إلى التشابه الكبير بين الدالة العربية والعدالة الأوربية في نزاهتهما ونقائهما.
وقفنا بالقرب من بوابة القرية ، ولكن كان من رأى مبارك ، وكان محقاَ ومنطقياً فيما قال ، أننا وسط أناس تستحوذ الصراعات والمحاكمات على كل تفكيرهم ، قد نحصل على عشاء هزيل ومتواضع ، إن أبتغيناه في أكواخ قرية فيض نفسها .
وتصادف أن بعضاً من بدو الصليبة كانوا يضربون خيامهم على مسافة بضع دقائق قليلة من قرية فيض ، ووجهنا إبلنا ناحيتهم ، وشببنا النار وبعد مقدمة موجزه ، شاهدنا عموداً باهتاً من الدخان يتصاعد من وراء الخيمة وهذه الإشارة في أرض من هذا القبيل تدل بكل تأكيد على الإنشغال في عمليات طهي الطعام .
وقرية فيض يمكن اعتبارها مثالاً جيداً للقرى التي ممرنا بها في الشمال أو في القصيم العليا، والسبب في ذلك أن هذه القرى كلها تتشابه في خصائصها الرئيسية برغم اختلافها من حيث الحجم تخيل تله رملية صغيرة يصل ارتفاعها إلى حوالى ستين أو سبعين قدماً وسط واد واسع مُغير ؛ وأن جزءاً من هذه الربوه وسفح الوادى المجاور لها تغطية المنازل المنخفضة المصنوعة من اللبن ، والمتمازجة مع مجموعات من أشجار الأئل التي تشبه ريش الطيور ، والأرض المجاورة لهذه المنازل مقسمة بأسوار من الحجر إلى حدائق خضراء، ينمو فيها القرع ، والبطيخ ، والنباتات البقلية.
كما ينمو الذرة أيضاً إلى جانب هذه النباتات بفضل الري الصناعي من الآبار الموجودة بين هذه الحدائق الخضراء ؛ والنخل وفير في هذه القرى ، وقد كان محملاً بثمار لونها أحمر قانٍ وتكتمل السمات المميزة لهذه القرى بوجود بعض أشجار الخوخ أو المشمس ، والجدران الخارجية منخفضة ، وتستخدم لحماية الحدائق أكثر منها للسكنى ؛ وفي هذه القرى لا توجد أبراج أو خنادق كما أن كثيراً من الأماكن لا يوجد فيها قلعة رئيسية أو مبنى مميزاً لسكنى الرئيس ومسكن الرئيس مثل مسكن المجاورين له عبارة عن منزل من طابق واحد مع استثناء واحد فقط ، هو أنه أكبر قليلاً من المنازل المجاورة له ، وبعض هذه المدينات حديثة العهد تماماً ويرجع تاريخها إلى تَوَحّد الشومر الذي أعطى هذه المنطقة درجة من الهدوء والازدهار لم تشهدها في ظل الحكام الوهابيين السابقين.
لم يكن عشاؤنا من النوع الفاخر ، نظراً لأن الصليبة بدو فقراء ، ولكن الكمية كانت كافية ووفيرة ، ولذلك جاءت مناسبة لنا ، بعد مسير طويل دام يومين وليلة واحدة لم نتوقف أو نرتاح خلاله ، وانتهزت الفرصة بسعادة بالغة وحاولت أن اكتشف شيئاً من مفاهيم مضيفنا وممارساتهم الحقيقية هؤلاء البدو المترحلين غير المختنين هم بمثابة السجل الأخير الذي يشهد على المسيحية السورية أو المسيحية العربية ولكن هؤلاء البدو بلغوا من التحفظ حداً لم يعطوني معه أي دليل آخر غير الإشارات السلبية إلى عاداتهم وتقاليدهم وطريقة تفكيرهم ، يضاف إلى ذلك أنني كنت قد بلغت من التعب والنعاس حداً يصعب على عندهما أن أواصل عملية البحث والتقصي.
وفي صباح اليوم التالي ، الموافق اليوم العاشر من شهر سبتمبر من العام 1862 الميلادي ، استيقظنا جميعاً والقمر لا يزال في السماء ، أي قبل طلوع الفجر بساعتين أو ثلاثة ، وواصلنا مسيرنا في اتجاه الجنوب الشرقي ، كانت طبيعية كل الأماكن التي سوف نمر بها طوال الأيام الأربعة القادمة واحدة، بشكل يعفيني من الإسهاب في وصفها ، ويجعلني أصف منظر الأرض الطبيعي ببضع كلمات في هذه المرحلة من رحلتنا.
هذا ما ورد في مذكرات بلجريف ونأمل أن يكون فيه شيئاً من الفائدة حتى وإن كانت بسيطة، خصوصاً وأن رحلة وليام بلجريف كانت في العام 1862 للميلاد وهي فترات عرفت بشح المصادر فيها .
كما نتمنى أن نكون حققنا المتعة لقارئنا الكريم، على أمل أن نلتقي ...
زيد المهناء .. عِشْقُ مَاضِي
التعليقات (0)