فوبيا العروبة والتعريب في السودان
(حلقة1)
لا يهم الحديث الكثير المتداول حول عروبة السودان من عدمه فهو على قدر عدم جدواه ، إلا أنه مثل ((وََنسَةَ الضّللَةْ)) لن يتوقف ولن يفيد …. حتى وإن اكتفى البعض بترديده لغرض الثرثرة التي لا طائل من ورائها سوى قتل وقت الفراغ ثم التفرق بعد تقلص الظل ……… …… أو هو بمعنى أكثر لباقة ليس سوى جدل بيزنطي .. ( هل البيضة من الدجاجة أم أن الدجاجة من البيضة) ...
مركز شعبي (خلوة) لتحفيظ وتجويد القرآن الكريم وتأصيل علوم اللغة العربية
صهر الإسلام بقرآنه الكريم 90% من أهل السودان في بوتقة العروبة
ولكن الذي عاد اكثر اهمية الآن ، هو ضرورة الوصول إلى قناعة ما بطبيعة الأداة اللغوية للتعبير عن الهوية السودانية … ولقد اصبحت هذه المسألة بالفعل على المحك بعد أن حدثت تغيرات دراماتيكية في مجال خريطة الثقافة والتعليم داخل رقعة السودان … لقد انتشر التعليم على نحو كمي ممتاز خلال الفترة السابقة منذ تغيير السلم التعليمي على عهد نميري عام 1970م . فهذه حقيقة لم يعد يختلف عليها الآن إثنان …. نعم ربما تكون هناك مآخذ على الكيفية ونوعية ومخرجات المؤسسة التعليمية. ولكن الواقع ان هناك الكثير ممن جرى محو اميته على الأقل. وصار العديد من خريجي مرحلة الأساس قادر على أن يفك الخط أو يقرأ ويكتب بقدر ، وعلى دراية ببعض قواعد اللغة العربية والجغرافيا ومبادئ الحساب …. واصبحت لديه قناعات ذاتية يرغب في التعبير عنها ، وطموحات يرغب في وضعها موضع التنفيذ على النسق المحلي الخاص به …. ومن بين هؤلاء كثر من غير ذوي الأصول العربية ولكنهم اكتسبوا الثقافة العربية بدخولهم سلك التعليم النظامي الحكومي فاصبحت الثقافة العربية وكأنها قدر قد فرض عليه برضاه أو رغما عن أنفه … وعدد منهم لا باس به واصل تعليمه وأصبح يحمل شهادات عليا ووصل إلى أرفع المناصب …. ولكنهم مع ذلك تجدهم في قلق دائم وبحث محموم عن الذات. تتجاذبهم إنتماءاتهم العرقية الأفريقية المحضة من جهة وثقافتهم العربية القسرية من جهة اخرى … ومنهم من أوصله تفكيره إلى طريق مسدود بين الواقع المعاش والأمل المعقود والطموح المنشود ، فكفر بكل شئ …. ولجّ في كفره وجنح إلى التشدد لدرجة التمرد وتبني أفكار ديماجوجية لمجرد التعبير عن عدم الرضا والتنفيس عن خيبة الأمل …… ولعل تصريحات مسئول بحجم مالك عقار في النيل الأزرق على سبيل المثال وتهديداته شبه الأسبوعية بالانفصال عن السودان والانضمام إلى اثيوبيا لدليل واضح على صحة ما ذهبت إليه ومقياسا على عمق درجة الانفصام والاغتراب والانفعال السلبي والتشتت النفسي الذي يعاني منه ويجنح إليه عديد من أنصاف المتعلمين والمثقف السوداني من غير العربي المحض أو الهجين.
ربما يكون من حصل على تعليم رفيع وثقافة أوسع من بين هؤلاء . ربما يكون على قناعة بفضل بانوراما تفكيره وتقديره لواقع ومستقبل الأشياء وأسلوب معالجته للأمور . ربما يكون أقل حدة في ديماجوجيته .. ولكن تبقى المشكلة في أنصاف المتعلمين اللذين يطالبون بإلغاء الثقافة العربية كأنّ الثقافة محض جلباب وعمامة وسروال . غير مدركين أن دولة بحجم وظروف السودان يلزمها إذا أراد شعبها التحول عن الثقافة والتعليم باللغة العربية عليها أن تكرس لهذا ميزانية بحجم الموازنة السنوية العامة للحكومة الاتحادية في الولايات المتحدة لعدة سنوات لا يعلم مداها إلا الله . وأن على كافة العرقيات الأفريقية المسلمة في السودان أن تبحث لها عن دين آخر طالما أن الأمر قد انعقد على محو لغة القرآن من على أرض المليون ميل مربع .. ولا أدري بأية لغة سيتم استبدالها ؟؟ هل اللغة الفرنسية أم الانجليزية أم الهندية ؟…
من المثير للشفقة داخل معسكر المعاداة للتعريب والعروبة أنه حتى المتعلمين من غير ذوي الأصول العربية لا يجيدون التخاطب بين بعضهم أو بين قواعدهم الحزبية إلا عبر اللغة العربية . فكيف يعقل أن يرفض إنسان مّا لغة هو في حقيقة الأمر يأكل ويشرب ويتناسل وينام ويصحو ويغتسل ويتوضأ ويصلي بها ويتسمى بأسمائها ؟ أي إنفصام نفسي هذا؟؟
ثم أن اللغة العربية يدعمها ويشد من عضدها القرآن الكريم متغلغلة وتفرض نفسها في السودان منذ أكثر من 1500 سنة .. فهل يعمل شعب من دول العالم الثالث الفقير تتجاذبه المشاكل والضغائن من كافة الجوانب .. هل يعمل على توفير لقمة عيش بما يسد رمقه وملبس بما يستر سؤاته ومسكن يلجأ إليه كحد أدنى قبل أن تتوفر له فيه أسباب الراحة والرفاهية .. هل يلتفت إلى هكذا متطلبات في حدها الأدنى . أم يصرف مداخيله ويشتت تفكيره في حرب لغة لم تستطع كل تكنولوجيا وخبرات ومليارات العالم الأول والثاني محوها منذ بداية الحروب الصليبية وحتى تاريخه أو التقليل من شأنها ….. وحيث لا تزال هذه اللغة في الميدان وحدها دون ساعد أيمن ولا أيسر أو قلب دفاع ووسط ينقلها من الدفاع إلى الهجوم .. لاتزال رغم ذلك وبأعجوبة لايمكن ردها سوى لله عز وجل ؛ لا تزال تشق طريقها لنفسها بنفسها وبقوة مذهلة في غرب أفريقيا وشرق آسيا وأوروبا الشرقية والولايات المتحدة بوصفها لغة القرآن وختام ما هبط به جبريل من وحي السماء على الرسل والأنبياء وبوعد من الله عز وجل بحفظها إلى يوم الدين ضمناً …… فأي سِحْـرْ كجُور وطلاسم وثنية وأرواح شِرّيرة وأي وَدِعٍ وسُكْسُكْ هذا الذي يشرئب بعنقه لمحاربة لغة السماء؟؟؟
من جانب آخر لا يسلم المحض العربي ولا الهجين السوداني من الانتقاد وتوجيه اللوم (وليس الاتهام) بحسبه له دور كبير فيما وصل إليه الحال من سوء فهم لدور الثقافة العربية في السودان وتحويلها إلى أداة عنصرية … فهو وعلى المستوى الشخصي أو حتى على مستوى إمكانيات الدولة التي يفترض أن تكون مرآة حقيقية لإبراز التنوع …. نراه على سبيل المثال يهتم بعقد الورش والندوات لمناقشة قضايا ومسائل عربية في العاصمة الخرطوم تشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة واللاجئين والنزاعات المسلحة .. إلخ دون ان يهتم في المقابل وعلى نفس القدر بما هو أفريقي.
ربما يعمد جهاز التلفزيون مثلا بين الحين والآخر إلى أساليب ساذجة سطحية للتعبير عن القناعة بالتعدد الثقافي …. ولكن هذا ليس هو المطلوب وحده بقدر ما يرجى من هذا الجهاز أن يهتم أكثر بالقضايا الأفريقية السياسية ، الاجتماعية ، والثقافية … وهلم جرا …
ومن المثير للضحك أننا كنا خلال فترة السبعينيات نسوق للطرفين العربي والأفريقي فكرة أننا قادرين كسودانيين على لعب دور الوسيط الناقل للثقافة بين العرب وافريقيا … فإذا المطاف قد انتهى بنا إلى إستجداء النجدة والإنقاذ من الأفارقة والعرب على حد سواء للخروج من ورطات دولية تارة أو من حروب أهلية تارة أخرى …
هناك العديد من المنتجات الفنية والثقافية الأفريقية فلماذا لا تعرضها الشاشة البلورية السودانية ((وقد أصبحن والحمد لله عدة شاشات)) بعد وضع شريط أسفلها بالترجمة إلى اللغة العربية ؟؟؟ وقس على نحو ذلك الإنتاج الأدبي للشعراء والروائيين الأفارقة. فربما يخفف ذلك قليلا من ضيق وتبرم الأفريقي السوداني.
حتى إلإعلانات التجارية لبعض المنتجات السودانية في التلفزيون اصبحت تأتينا من الخارج بأصوات ووجوه وافكار غير سودانية … وعلى نحو يجعل من مثل هذه المنتجات الوطنية المعلن عنها بعيدة عن الذوق والتعاطف الوطني مسافات قد لاتقاس إلا بالسنوات الضوئية.
إن في اهتمام العنصر العربي المحض والهجين بالثقافة الأفريقية سيكون له أثره البالغ في بث روح الثقة والإطمئنان لدى المواطن السوداني الغير عربي ويجعله أكثر إنغماسا ورغبة في المشاركة داخل إطار ثقافة عربية سودانية تستوعب الأفريقي رافداً رئيسيا لها… واللغة والروح العربية قادرة على ذلك بدون شك ولعل إفلاح اللبناني مثلا في استيعاب الثقافة الفرنسية وهضمها داخل الوعاء العربي. لعل في ذلك مما يشكل بوصلة للمثقف السوداني لاتباع نفس المنهج فيما يتعلق باستيعاب الثقافة الأفريقية .. وربما يكون ذلك أكثر مدعاة لاستماع العربي لنا والأفريقي في الجانب الآخر ؛ بدلا مما يعانيه المثقف السوداني حاليا من اغتراب في الجانبين فلا هو عربي محض معترف به ولا هو أفريقي محض موثوق به في جانبه الآخر … وحيث لا تزال الثقافة السودانية لا تجد موطيء قدم لها بمقدار حجمها الإبداعي الحقيقي في الجانبين ولاسيما الجانب العربي … وكل ما يجده الإنتاج السوداني في أفريقيا جنوب الصحراء يتوقف فقط عند الأغنية وغيرها من عناصر التطريب الموسيقي .
(يتبع حلقة رقم 2)
التعليقات (0)