فهمي هويدي يكتب:
دفعنا الثمن.. من استقلال القضاء
إذا قرأنا قرار تعيين المرأة قاضية من وجهة النظر النسوية،ـ فقد يبدو أننا كسبنا نقطة. أما إذا نظرنا إليه من زاوية المصلحة الوطنية التى يشكل استقلال القضاء ركيزة أساسية لها، فسوف نكتشف أننا خسرنا أكثر من نقطة.
ــ 1 ــ
لقد التزمت الصمت إزاء الموضوع طوال الأسابيع الخمسة التى استغرقها هبوب العاصفة. وآثرت الانتظار حتى تقول المحكمة الدستورية كلمتها التى كان من اليسير على أى متابع لاتجاه الريح ومدرك للضغوط التى مورست، أن يتنبأ بما يمكن أن تخلص إليه. وهو أمر مؤسف لا ريب، يتعين إدراجه ضمن سلبيات ما جرى. وكان دافعى إلى العزوف عن الاشتراك فى اللغط والصخب الذى ثار اقتناعى بأن القضية لم توضع فى إطارها الصحيح، بحيث انزلقت فى مدارج الغلط كل ما بنى على الخطأ فى الطرح.
كما أننى لا أخفى شعورا بالدهشة إزاء الخلل الذى أصاب أولوياتنا ونحن نتعارك ونتراشق بسبب جلوس المرأة على منصة القضاء، فى حين تتعلق أبصار العرب والمسلمين بما يجرى فى الأرض المحتلة. آية ذلك أنه فى اليوم الذى احتل فيه قرار المحكمة الدستورية العليا بشأن الانتصار للمرأة القاضية العنوان الرئيسى لصحيفة «الأهرام» (يوم 3/15) كان الخبر التالى فى الأهمية هو الاشتباكات الحاصلة فى القدس، التى سجلتها صورة للشبان الفلسطينيين وهم يرشقون بالحجارة الجنود الإسرائيليين الذى كانوا يردون عليهم بخزات الرصاص المطاطى والقنابل المسيلة للدموع.
أيا كان الأمر، فالثابت أن ملف المرأة القاضية احتل حجما أكبر مما ينبغى، التبس فى ظله الأمر على كثيرين، كما أنه أغرى بعض المتحمسين بتحويله إلى ساحة جديدة للإثارة والمزايدة. كما أتاح لآخرين من الناقدين والناقمين فرصة قمع معارضيهم فى الرأى وتلويث سمعتهم. أما الذين حولوا المسألة إلى اشتباك مع تعاليم الإسلام وتجريح لها فحدث عنهم ولا حرج، لأن بعض مثقفينا أصبحوا ينتهزون كل فرصة لتجديد ذلك الاشتباك وتصعيده، مرة باسم الدفاع عن الدولة المدنية، ومرة باسم التصدى للأصولية والسلفية، ومرات باسم ما اعتبروه خلاصا من تأثير الخرافات والغيبيات وغير ذلك من مخلفات «عصور التخلف والانحطاط».
ــ 2 ــ
نصيب مجلس الدولة من هذه السهام كان وفيرا، فقد صور بحسبانه منحازا ضد المرأة، وكان إطلاق هذه الشائعة كفيلا بفتح باب التسابق على وضعه فى قفص الاتهام، وإطلاق دعاوى محاكمته بتهم السلفية والأصولية. وكان ذلك أمرا مثيرا للدهشة حقا، ليس فقط لأنه يعبر عن إصرار على مصادرة وجهة نظره فى الموضوع، ولكن أيضا لأن سجل المجلس يحفل بالمواقف التى تشرفه وتبيض صفحته وتجعله أبعد ما يكون عن تلك الشبهات. ذلك أن الذين أطلقوا تلك الاتهامات تجاهلوا أن المجلس هو الذى أجاز قانون الخُلع، وأبطل قرار وزير الداخلية الذى كان يشترط ألا تسافر المرأة بغير إذن زوجها. وهو الذى قضى بألا تسجل فى بطاقة هوية أى شخص ديانة غير ديانته الحقيقية .. كما أن مجلس الدولة هو المؤسسة المدنية الوحيدة التى اختارت رئيسا قبطيا مرتين (هما المستشاران حنا ناشد ونبيل ميرهم) ولا ينسى أيضا أن مجلس الدولة هو الذى ألغى قرار تصدير الغاز إلى إسرائيل، وهو الذى قضى بعدم شرعية وجود «الحرس» فى الجامعة.
الذى لا يقل أهمية عن كل ذلك، أن القضاة ومجلس الدولة لم يتبنوا موقفا ضد تعيين المرأة قاضية. وإنما هناك اتفاق بين الأغلبية الساحقة على أن حق المرأة فى ولاية القضاء تجيزه الشريعة الإسلامية، ولا يتعارض مع الدستور والقانون. وإن مبرر البت فى الأمر ليس المرجعية الفقهية أو القانونية، وإنما هو الظروف الاجتماعية والبيئية بالدرجة الأولى.
لقد ارتأى أعضاء الجمعية العمومية لمجلس الدولة تأجيل البت فى الموضوع وعدم التسرع فى إقراره، ليس لأنهم يعترضون على المبدأ، ولكن لأنهم يرون أن الأمر يحتاج إلى ترتيب يوفر ظروفا مواتية لإنجاح دخول المرأة فى هذا المجال. ذلك أن الذين ينتمون إلى الهيئة القضائية محكومون مثلا بقواعد فى أداء عملهم، بعضها يتعلق بسنوات أداء خدمتهم فى المحافظات المصرية المختلفة، الأمر الذى يثير أكثر من سؤال حول وضع النساء فى هذه الحالة، وهل سيخضعن لهذا النظام أم سيقتضى الأمر استثناءهن منه، وتسكينهن مع أسرهن. وإذا خضعن لترتيبات التنقل بين المحافظات المختلفة، فهل سيتطلب ذلك تخصيص استراحات خاصة لهن كما هو الحاصل مع أعضاء الهيئة القضائية من الرجال. وإلى جانب ذلك فهناك الملاءمات المتعلقة باستقبال المتقاضين والمجتمع لهذه النقلة المفترضة.. إلى غير ذلك من التفاصيل يرى القضاة أنها تحتاج إلى روية وعدم التسرع فى اتخاذ القرار.
القصة قديمة فيما يبدو لأن ثمة قضية شهيرة أثير فيها هذا الموضوع قبل نصف قرن (فى عام 1952)، حين رفعت إحدى أوائل خريجات حقوق القاهرة (عائشة راتب ــ الدكتورة والأستاذة والوزيرة لاحقا) قضية أمام مجلس الدولة مطالبة بحقها فى التعيين فى النيابة العامة، ولكن المجلس برئاسة المستشار السيد على السيد، قضى بأن الظروف الاجتماعية والبيئية لا تسمح بذلك، وقرر أنه لا يستند فى ذلك إلى الشريعة أو الدستور، وإنما إلى حق الجهة الإدارية فى مراعاة الظروف والملاءمات التى يعمل فى ظلها الموظف.
ــ 3 ــ
يرى المستشار أحمد مكى، نائب رئيس محكمة النقض أن ملف إشراك النساء فى الهيئة القضائية تداخلت فيه عوامل عدة خارجية وداخلية شكلت عنصر ضغط فى الموضوع. وقد سمعت منه أن الموضوع أثير فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، وأن وفدا من نادى القضاة أجرى حوارا حول الفكرة مع وزير العدل آنذاك المستشار فاروق سيف النصر رحمه الله، وقد سمع منهم الوزير ملاحظاتهم حول الموضوع، لكنه أفهمهم أن ثمة ضغوطا دولية استدعت ذلك، مورست فى إطار ما سمى آنذاك بالحرب على الإرهاب. والملاحظ أنه بعد هذا اللقاء تم تعيين السيدة تهانى الجبالى عضوا فى المحكمة الدستورية العليا بمصر، كما تتابع تعيين الوزيرات فى العديد من الدول العربية، والخليجية منها بوجه أخص.
ما حدث أيضا فى الآونة الأخيرة تفوح منه رائحة الضغوط الداخلية، التى تمارس من قبل جهات عدة فى مقدمتها المجلس القومى للمرأة. ذلك أن المجلس الخاص فى مجلس الدولة الذى يضم أقدم ستة مستشارين إضافة إلى الرئيس كان قد ناقش موضوع قبول طلبات تعيين النساء فى اجتماع عقده يوم 18 يناير الماضى. وفى الاجتماع تم الاتفاق على عرض الموضوع على الجمعية العمومية للمجلس التى كان موعد اجتماعها العادى فى 15 فبراير للنظر فى ترشيح النواب ووكلاء المجلس. فى هذا الاجتماع الذى حضره 380 مستشارا فما فوق، ارتأى 87٪ من الأعضاء تأجيل البث فى الموضوع. ولكن وزير العدل سارع فى اليوم التالى مباشرة (2/16) إلى إرسال خطاب إلى رئيس الوزراء أحمد نظيف أبلغه فيه بأن خلافا وقع بين المجلس الخاص وبين الجمعية العمومية لمجلس الدولة حول تعيين النساء. ولم يكن هناك خلاف فى حقيقة الأمر لأن المجلس الخاص هو الذى قرر الرجوع إلى الجمعية العمومية. يوم 2/17 طلب الدكتور نظيف من وزير العدل الاحتكام إلى المحكمة الدستورية العليا فى حسم الأمر. وفى نفس اليوم (لاحظ السرعة) وجه الوزير رسالة إلى رئيس المحكمة الدستورية بالمعنى المطلوب.
يوم 2/18 عُرض على هيئة المفوضين تقرير حول ما قيل إنه «خلاف» بين المجلس الخاص والجمعية العمومية لمجلس الدولة. فى 2/22 انعقد المجلس الخاص لمجلس الدولة وصوت 4 من أعضائه مع الإرجاء، وصوت 3 لصالح الاستمرار فى قبول طلبات التعيين. ولكن ضغوطا مورست بعد ذلك أدت إلى تغيير المواقف، بحيث أصبح أربعة يؤيدون تعيين النساء وثلاثة صوتوا لصالح الإرجاء.
استشعر مستشارو مجلس الدولة أن هناك اتجاها لتحدى إرادتهم، فتداعوا إلى جمعية عمومية فى 3/10 حضرها 319 مستشارا صوت 317 منهم لصالح الإرجاء، ورفضه اثنان فقط، أحدهما زوج ابنة رئيس مجلس الدولة. وفى مساء اليوم ذاته (3/10) دعا نادى القضاة إلى جمعية عمومية حضرها 944 قاضيا، صوت 934 منهم لصالح الإرجاء. ولكن المحكمة الدستورية أصدرت قرارها فى 3/14، الذى تبنى موقفا مناقضا للرأى الذى أجمع عليه القضاة، وقرر الاستمرار فى تلقى طلبات تعيين النساء، بناء على موافقة المجلس الخاص بمجلس الدولة.
ــ 4 ــ
الوقائع المتتالية أكدت أن هناك رغبة عليا لإقرار التعيين، رغم تحفظات القاعدة العريضة من القضاة، وذلك ما يفسر مسارعة وزير العدل إلى إبلاغ رئيس الحكومة بخلاف لم يكن صحيحا بين المجلس الخاص والجمعية العمومية. ومسارعة رئيس الحكومة بالرد، والركض بعد ذلك نحو المحكمة الدستورية للاستجابة للرغبة العليا. بموازاة ذلك تلاحقت فصول الحملة الأهلية للاحتجاج على الجمعية العمومية لمجلس الدولة، التى قادتها وزيرة القوى العاملة من ناحية، وأمينات المرأة فى الحزب الوطنى فى القاهرة والإسكندرية ومحافظات أخرى من ناحية ثانية .. وكانت تلك بادرة طريفة، لأنها المرة الأولى التى تحرك فيها الحكومة والحزب الوطنى حملة احتجاج! بالتوازى مع ذلك أطلقت الأقلام والأبواق الإعلامية فى حملة تشهير بمجلس الدولة والقضاة واتهمتهم بالرجعية والظلامية. وكانت النتيجة أن العملية مثلت عدوانا صارخا على استقلال القضاة وحقهم فى تنظيم أوضاع مرفق العدالة، شارك فيه وزير العدل ورئيس الحكومة، الذى استغرب القضاة تدخله المباشر فى الموضوع. وكان واضحا أن السلطة التنفيذية اتخذت موقف التحدى لإرادة القضاة. كما أسفر المشهد عن الإيقاع بين المحكمة الدستورية وبين جماهير القضاة، ناهيك عن الأضرار الأدبية التى ترتبت على حملة التجريح والتشويه الإعلامية التى أهانت القضاة وحطت من قدرهم.
ليس لدى أى تحفظ على تعيين المرأة فى القضاء، ولكن اعتراضى الأساسى ينصب على الأسلوب الذى اتبع والثمن الذى دفع لقاء ذلك. ذلك أننى تمنيت أن يعتمد ذلك الأسلوب على الحوار وليس الإملاء. ولا أعرف لماذا لم يسأل القضاة مثلا: إذا كنتم تعتبرون أن الظروف غير مواتية لتعيين النساء فى الهيئة القضائية، فكيف يمكن التغلب على تلك الظروف، وما هو الأجل الذى يستغرقه ذلك؟
ورغم أننا اعتدنا مكرهين على الإملاء فى مجالات عدة، إلا أنه حين يؤدى إلى العدوان على استقلال السلطة القضائية، فإنه يصبح خطرا ينبغى درؤه، لأنه يفتح الباب للتلاعب بالحقوق وبالعدالة التى هى صمام الأمان فى تحقيق السلم الأهلى. وهى المعركة التى يخوضها القضاة منذ عقدين على الأقل، مؤيدين فى ذلك بالجماعة الوطنية فى مصر. إذ شئت فقل إنها كارثة أن يتم الضغط والعدوان على استقلال القضاء من جانب أى سلطة أو طرف فى الداخل. أما أم الكوارث حقا فهى أن يكون العدوان استجابة لضغط خارجى.
إن الغيرة على استقلال القضاء والقلق على التدخل فى شئونه سحبا بعضا من رصيد الحفاوة بتقرير حق المرأة فى اعتلاء منصة القضاء، الأمر الذى يعيد إلى أذهاننا الخبر المأثور عن نجاح العملية، ووفاة المريض.
التعليقات (0)