العنصر الثاني في فن المقالة هو الأسلوب :
و الأسلوب قبل أن نتحدث عن شروط الأسلوب ، الأسلوب في التعريف هو الصياغة اللغوية و الأدبية لمادة المقالة أو هو القالب الأدبي الذي تصب فيه أفكارها ، و مع أن الكتّاب تختلف أساليبهم بحسب تنوع ثقافتهم و تباين أمزجتهم و تعدد طرائق تفكيرهم و تفاوتهم في قدراتهم التعبيرية و أساليبهم التصويرية و مع ذلك فلا بد من حد أدنى من الخصائص الأسلوبية حتى يصح انتماء المقالة إلى فنون الأدب .
لابد في أسلوب المقالة من
الوضوح لقصد الإفهام ،
القوة لقصد التأثير ،
الجمال لقصد الإمتاع ،
لابد من الفهم ، و لابد من التأثر ، و لابد من الاستمتاع، فكل شرط من شروط الأسلوب يحقق غرضاً من أغراض الأسلوب ، الوضوح للفهم ، و القوة للتأثير ، و الجمال للإمتاع ،
فماذا عن الوضوح وضوح الأسلوب في المقالة ؟
لابد في أسلوب المقالة من الوضوح بقصد الإفهام ، فالوضوح في التفكير أساس الوضوح في التعبير هذه حقيقة مسلم بها ، الوضوح في التفكير أساس الوضوح في التعبير ، مادامت الأفكار واضحة وضوحاً جداً في ذهن الكاتب فلابد أن تأتي أفكاره و أساليبه واضحة كذلك ، و معرفة الفروق الدقيقة بين المترادفات ثم استعمال الكلمة ذات المعنى الدقيق في مكانها المناسب فكلمة (لمح و لاح و حدج و حدق و حملق و شخص و رنا و استشف و استشرف) كل هذه الكلمات تعني النظر، و لكن لكل كلمة معنى دقيقاً جداً يتحدث عن حالة من حالات النظر ، فلمح شيء ظهر ، إنسان نظر ثم أعرض ، بينما لاح شيء ظهر و اختفى ، و أما حدج فهو الحديث و المستمع ممتلئ بالمحبة ، و أما حدق حينما تكبر حدقة العين فهذا هو التحديق ، و أما حملق حينما يظهر حملاق العين و هو باطن الجفن فهذا معنى كلمة حملق ، و أما شخص مع الخوف ، و أما رنا نظر مع السرور، بينما استشف نظر مع التفحص بالأصابع ، و استشرف نظر مع التمطي في الأرجل ،
فإذا عرف الكاتب المعاني الدقيقة جداً للكلمات أمكنه أن يستخدمها في مكانها الصحيح و بهذا يسهم استخدام الكلمة بالمعنى الدقيق في توضيح المعنى ، المعنى الواضح يسهم في توضيح الأسلوب و معرفة الفروق الدقيقة بين المترادفات تسهم أيضاً في توضيح الأسلوب و في ذلك معرفة العلاقات في التراكيب و تحديدها تحديداً دقيقاً و عدم الوقوع في اللبس أي احتمال تركيب معنيين في وقت واحد هذا يسهم أيضاً في توضيح أسلوب المقالة .
كما أن الإكثار من الطباق يزيد المعنى وضوحاً و قديماً قالوا بضدها تتميز الأشياء ، و كذلك المقابلة و المقابلة كما تعرفون تشابك طباقين أو أكثر ، فالمطابقة كالحر و القر ، و الجود و الشح ، و الطيش و الحلم ، إيراد المعاني المتعاكسة في النص من شأنه أن يوضح المعنى توضيحاً جيداً ، أما استخدام الصور بعامة و الصور البيانية بخاصة فهو شيء أساسي في توضيح أسلوب المقالة ، مثال ذلك ، يقول أحد الكتاب معرفاً الأدب : الأدب اليوم عصا بيد الإنسانية بها تسير لا مروداً تكحل به عينيها شبه الأدب بالعصا التي تستعين الإنسانية بها و ليست مروداً و المرود هو ميل الكحل ، ليست مروداً تكحل به عينيها و هو نور براق يفتح الأبصار ، و ليس حلية بديعة ساكنة فوق الصدور .
و الآن ننتقل إلى العنصر الثاني في الأسلوب و هو القوة ،
قوة الأسلوب
تعني أن هذا الأسلوب شديد التأثير فإذا كان وضوح الأسلوب يحدث عند القارئ قناعة فإن قوة الأسلوب قد تحدث عند القارئ موقفاً ، و الموقف هو أن تقف باتجاه هدف معين و تتحرك نحوه ، إذا كانت العبارات الواضحة تُحدث قناعة فإن قوة الأسلوب تُحدث موقفاً عند القارئ ، و تأتي قوة الأسلوب من حيوية الأفكار و دقتها ، و متانة الجمل و روعتها ، و كذلك تسهم في قوة الأسلوب الكلمات الموحية و العبارات الغنية و الصور الرائعة و التقديم و التأخير و الإيجاز و الإطناب و الخبر و الإنشاء و التأكيد و الإسناد و الفصل و الوصل و كل هذه الكلمات عنوانات لموضوعات مرت بكم في البلاغة و لاسيما في علم المعاني ، مثال ذلك: إذا أردنا أن نعيش سعداء حقاً فما علينا إلا أن نراقب القمح في نموه و الأزهار في تفتحها و نستنشق النسيم العليل و لنقرأ و لنفكر و لنشارك تايلر في إحساسه إذ يقول سلبني اللصوص ما سلبوا و لكنهم تركوا لي الشمس مشرقة و القمر منيراً و المياه الفضية الأدين و زوجة مخلصة تسهر على مصالحي و تربية أطفالي و رفقاء يشدون أزري و يأخذون بيدي في كربي فماذا سلبني اللصوص بعد ذلك؟ لاشيء فها هو ثغري باسم و قلبي ضاحك و ضميري نقي طاهر .
و أما الجمال في الأسلوب
و هو العنصر الثالث في الأسلوب الجمال من أجل الإمتاع فهو شيء أساسي أيضاً في الأسلوب حينما يملك الكاتب الذوق الأدبي المرهف و الأذن الموسيقية و القدرات البيانية يستطيع عندئذ أن يتحاشى الكلمات الخشنة و الجمل المتنافرة و الجرس الرتيب ، و حينما يواءم بين الألفاظ و المعاني و يستوحي من خياله الصور المعبرة يكون أسلوبه جميلاً ، لأضرب لكم مثالاً : يقول أحد الكتاب البرج العاجي الخلقي هو السمو عن المطامع المادية و المآرب الشخصية فليس من حق مفكر اليوم أن ينأى بفكره عن معضلات زمانه و لكن من واجبه أن ينأى بخلقه عن مباذل عصره و سقطاته، البرج العاجي عندي هو الصفاء الفكري و النقاء الخلقي و هو الصخرة التي ينبغي أن يعيش فوقها الكاتب ، مرتفعاً عن بحر الدنايا الذي يغمر أهل عصره لا خير عندي من المفكر الذي لا يعطي من شخصه مثلاً أعلى لكل شيء نبيل رفيع جميل .
التعليقات (0)